رهطٌ “غاضب ومفجوع…” من الرجال يخطفون مواطناً مصرياً من أيادي القوى الامنية، أتت به للتأكّد من بعض ما أفاد به حول جريمة بشعة، هو المشتبه الأول بارتكابها. أُحضر الى القرية لا ليمثّل الجريمة، بل لتوضيح معلومات مبْهمة أدلى بها الى القوى الامنية. يخطف رجال الرهط المشتبه به، يضربونه بعدما حطمت عظامه اللكَمات الاولى، يقتلوه، يسحلونه، يذبحونه، يسحلونه، يقطّعوا بعض أوصاله، ثم يعلقونه على عمود كهرباء مهلّلين مكبّرين… انها مشاهد أذاعتها نشرات اخبارية لبنانية عن جريمة الثأر التي راح ضحيتها مواطن مصري، اسمه محمد مسلّم، متهم بقتل أربعة أفراد من عائلة واحدة في قرية كترمايا في منطقة اقليم الخرّوب اللبنانية.
لم يكن جديراً بهذه المشاهد ان تشيع، كما احتج غير “مسؤول” رسمي، مؤنّبين بذلك “وسائل الاعلام”، وافتقادها “الحس الوطني” الذي جرّها الى تغطية جريمة الثأر بحق مواطن مصري، هو مجرد متهم. ولهذا “الخجل” الرسمي ما يبرّره: فالرجال المنقَضّون على ضحيتهم بكل ما أوتوا من عزم بدوا وكأنهم منقضّين على الدولة وقوانينها ورجالاتها. رمز من الرموز الاستثائية، الجاذبة للنظر، الأفظع من بين الرموز اليومية لانتهاك الدولة وقوانينها وكافة تعبيراتها. ولا يهون على “المسؤول” رؤية هذه المشاهد: تصيبه في صميم صفته التمثيلية. انه الدولة، والدولة لا يجب ان ترى مشاهد ترمز كلها الى سحلها وتقطيع أوصالها وتعليق المشانق لها.
فبعد عملية الثأر هذه، صار يمكننا اضافة سببين الى أسباب عدم قيام الدولة في ربوعنا: الاول هو عدم اقتناع اللبناني بها، عدم ثقته بآلياتها، بل عصيانه عليها، وممارسة كل ما يضعفها، على ضعفها؛ سهولة الثأر نفسه، و”تأييد” شعبي يلاقيه منفذو الثأر وسط الجمهور العريض من الناس، لم يجدوا دفاعا عنهم أفضل من الامعان بتصوير اجرامية المتهم، واضافة “جرائم” أخرى الى ملفه… . ألا يذكّر هذا “التفسير” لجريمة الثأر، ألا تذكر الذرائع هذه بما يذيعه محبو عن بن لادن و”القاعدة”: العراق، فلسطين، اميركا، اسرائيل…؟
أما السبب الثاني لعدم قيام دولة في ربوعنا، فهو استهانة الممْسكين بزمام هذه الدولة بأنفسهم وبما يفترض انهم يمثّلون، ويحفظون، أي القانون. الذين سلّموا المشتبه به الى الرهط الهائج، الذين أثنوا على العملية، الذين مرّروا أو سكتوا… سيقولون انه النظام اللبناني، وانهم كانوا يودون لو كانت هذه الدولة أقوى. هم يريدون الدولة، ولكن ليس هذه الدولة بالذات، ولكن… المشاهد الدامية على التلفزيون تبين بوضوح انهم هم الذين يضْعضعون الدولة بذريعة انها ليست كاملة الاوصاف. كيف تصبح أقوى، هذه الدولة؟ بمعجزة؟ بقرار “حاسم”؟ بوحي الهي؟
طبعاً، قبل جريمة الثأر هذه، كانت “الدولة” تخجل من تنفيذ عقوبة الاعدام على الذين ثبُتت عليهم جريمة؛ وذلك تشبّها بالغرب، الأوروبي خصوصا، الذي ألغى معظمه العقوبة، أو في طريقه الى الغائها. أما الآن، فالدولة قد تستجيب لغرائز المواطن، قد تعود الى تنفيذ العقوبة، إثباتا منها لفعاليتها، لقوتها: والدولة القوية في هذا التصور هي الدولة الخشنة، الفظّة. جريمة الثأر أعادتنا خطوات الى الوراء عن النقاش العالمي بخصوص الغاء عقوبة الاعدام. وهو على كل حال لم يكن اصلا نقاشاً جديا ودؤوبا. وأين نحن الآن من هذا النقاش الخجول، بعد كترمايا، بعدما تحولت العقوبة الى ثار أبشع من الجريمة الاولى.
فالذي حصل في كترمايا كان واضحاً برسالته: الثار، الثأر وحده. والثأر ليس على طريقة العشائر الذين يطلقون رصاصة أو اثنتين على من ينبغي قتله أخذاً للثار. بل الثأر البربري، الذي لم يستحضر غير صور أعمال “المقاومة” العراقية، من ذبح وسحل وتشنيع وشنق على طريقة الزرقاوي… انه ليس العدالة القانونية. انه الغريزة الاولى، الدماء، الكراهية، العنف. بين القانون وبين الثأر البربري أزمنة سحيقة متباعدة. القانون يصلح، يرنو الى الاصلاح بالأحرى. اما الثأر فيولد حلقات لا متناهية من الثأر المضاد. لا أمل فيه من استقرار، ولا بناء ولا دولة بطبيعة الحال. فالقانون ابن الدولة، والثأر ضد القانون، ضد المعرفة خصوصاً؛ الذين قاموا بالعملية دفنوا الى الابد أسرار هذه الجريمة، وربما غطّوا على آخرين. وعاملوا المتَّهم على انه مذنب، فيما لغة القانون تكرّر بلا ملل ان المتهم بريء حتى اثبات العكس، وأمام المحكمة، وليس بافادة وصفتها القوى الامنية نفسها في حال جريمة كترمايا بانها كانت “ركيكة” و”متناقضة”.
الآن، سؤال: لو كان المتهم غير “عامل مصري”؛ لو كان لبنانياً من عائلة ما، من طائفة ما، أو من جنسية اخرى، أو “مصري مليونير”… هل كان سيهون تكوّن الرهط الهائج الدموي من الأصل، هل كان سيبلغ هذه الدرجة من الاجرام والبشاعة؟ هذا لو تكوّن لأي سبب من الاسباب؟ طبعا لا. المصري عموماً في نظر اللبنانيين الاختزالي والعنصري ليس سوى عامل فار من جحيم بلاده، بطرق غير مشروعة غالباً. لم يعد ذاك المواطن الجذاب المحترم كما كان عليه في الاربعينات والخمسينات والستينات. انه اليوم النموذج المثالي للـ”غريب” في القرية؛ الضعيف الآتي من أمة فقدت عزوتها، الفقير اللاهث خلف لقمة العيش، المقطوع الجذور. الغريب في القرية هو المستضعف وسط مستضعفين. والمستضعفون أيضا يميزون بين مستضعف أقوى منهم وآخر اضعف. فيستبيحون في غياب القانون.
ولكن الطريف وسط كل هذه المأساة ان الذين اشتركوا في جريمة الثأر ضد المتهم المصري، كما الذين كانوا حمّسوهم أو تدافعوا للاشتراك بها، أو تلذّذوا من مجرّد متابعتها عن أمتار… جميعهم كانوا يناشدون الرحمن في صرخاتهم، كأنهم يتوسّلون نصرته. أليس غريباً مشهد السحل والتقطيع والشنق… مع ذكر الله: “ألله أكبر!”؟ كيف نستطيع ان نفهم هذه المعادلة المفارِقة؟ ما هو مضمون الضمير الديني والاخلاقي الذي تنطوي عليه عقولهم؟ تعطّشهم لدماء ضحيتهم بعد موته، هل يتوافق مع الورع والرحمة، وهما من الصفات الاسلامية بامتياز؟
بعض الذين استنكروا جريمة الثأر لم يكن في حوزتهم غير “الصورة”: “الجريمة أساءت الى صورة لبنان”. وهذه حجة لبنان واللبنانيين: المهم الصورة، ليس الكينونة. المهم كيف تبدو الصورة، ولا أهمية ولا قيمة لما خلفها، تلميع خارجي وخدع بصرية: “أخطر أنواع الجاهلية في ثياب فرساتشي وبيار كاردان”، كما يصف صحافي مصري جريمة الثأر. الجريمة أضرّت بصورة لبنان طبعا، وهذه خسارة غير ناقصة. ولكن قبل الصورة: أي مجتمع نحن؟ أي نظام يسوسنا؟ ما هي قيمنا؟ كيف نفكر؟ كيف نتصرف؟ ماذا نعني عندما نقول اننا نريد دولة؟ وما هو دورنا في بنائها أو اعاقة هذا البناء؟ وما معنى كل الكلام الكبير الذي نقوله عن انفسنا؟ ابتسم انت لبناني… اننا شعلة النور… فينيق يقوم من الرماد… الحضارة… الحرية… ومجتمع مدني… أم ان هذا اللبنان كذبة اصلية؟
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية- بيروت
* المستقبل
عن جريمة الثأر: المهم ليس صورتنا… بل نحن
لشةع — barchalona23@yados.com
عن جريمة الثأر: المهم ليس صورتنا… بل نحن
اين دولة القانون والمؤسسات التي يناشد فيها بلبنان.؟ ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته. ان ما فعله اهل كترمايا يعد جريمة من الناحية القانونية وهو العبث بالادلة الجنائية لاخفاء القاتل الحقيقي. فهنيئا لهم ومبروك للقاتل الحقيقي الذي فر بفعلته الى ما شاءالله.
عن جريمة الثأر: المهم ليس صورتنا… بل نحن
نورا — طرابلس لبنان
هل رات الكاتبه الصور التي عرضتهم الام المفجوعه على احد الاقنيه اللبنانيه وهل رات كيف ان القاتل تسلى بتقطيع اوصالهم وسحب قلب احدىالبنات هذه المناظر تجعل اي انسان قاتل بدون وعي
عن جريمة الثأر: المهم ليس صورتنا… بل نحن
– اولا وقبل كل شيء : هل تعرف الكاتبة الفرق بين الدولة والحكومة؟ .. لكي تطرح سؤال (خاطىء) وتستطرد في اجابة (صحيحة) عليه !!!!!!!!!!!!