مجموعات الإسلام السياسي المختلفة تتفرع وتتنوع؛ بين إخوانية أو جهادية أو سلفية، لها قيادات وتكتيكات وأشكال من العمل متباينة، لكل واحدة منها صفة تبْصمها: صفة تتراوح بين الانتحارية المفخخة بالنفس أو بسيارة، وبين تظاهرات يراد لها أن تكون جماهيرية، مرورا بأعمال خير أو بطش، بحسب ميزان القوى الحاكم لتواجدها. ولكن كل هذه المجموعات تلتقي عند مزج الدين بالدنيا، ليس بالجانب الأخلاقي أو الروحي، إنما بالجانب السياسي، المتعلق بإدارة شؤون الحياة والحكم وتنظيمها. لذلك، فان خوض المعارك ضد كل أطراف الإسلام السياسي واجب كل من يتوق إلى دولة مدنية، يديرها مواطنون متساوون وأحرار. وهذا أضعف إيمان العاملين أو الحالمين بهذا التوق.
إلا أن ما هو حاصل الآن في مصر وسوريا من حرب ضد الإسلاميين لا ينبىء بتحول هذا التوق إلى إمكانية أو إحتمال. أولا، الذين يخوضون، أو بالأحرى يقودون، هذه الحرب، بمؤازرة إعلامهم ومثقفيهم المنتشرين على بقع الأرض، حولوا هذه الحرب الى حرب إبادة أو إجتثاث. حرب وجود، لا مكان فيها لغير سفك الدماء. وفي قلب حربهم هذه، تحول أعضاء الإسلام السياسي ومناصريهم، البسطاء منهم والمهمين، القاعديين منهم والإخوانيين، إلى رجال يطارَدون بالقانون ويودعون السجون، ويقتلون عند المواجهة، ولو غير مسلحة. فيما لسان حال خصومهم الإسلاميين صنع لغة خشبية جديدة قوامها الجوهري تكفير التكفيريين، وواجهتها الإعلامية والأدبية الفكرة التنويرية إياها، التي خدمت بلاطات سابقة، وقوامها ان الحرب الراهنة ضد الإسلام السياسي الذي رفض الاستسلام، (مثل حزب النور السلفي) هي حرب من أجل الحداثة والتقدم والعروبة والناصرية الخ. إذن، الذين يخوضون الحرب الآن ضد الإسلام السياسي في مصر وسوريا، هم طليعة مجتمعاتنا المتخلفة، التي تدافع عن التنوير وحقوق الإنسان والقانون… فيما تتوسع الهوة بين الأجنحة المختلفة لهذا الإسلام السياسي، وتميل الأقل تطرفاً منها، أو الأقل عنفا، إلى حمل السلاح وخوض معارك الإغتيالات والتفجيرات الإرهابية؛ تماماً كما كان يحصل في ستينات وسبعينات القرن الماضي، عندما كانت الأجنحة الأكثر راديكالية بين جموع التقدميين آنذاك، تأخذ طريق «الكفاح المسلح» أو «حرب التحرير الشعبية»، كلما عجزت عن صنع موقع سياسي لها…
هذا للقول بأن مبدأ الأواني المستطرقة الذي يرمي إسلاميين سلميين في مصبّ العمل المسلح والإرهابي، هو أيضا من أفعال خصومهم، بعدما كانت أجزاء من قوتهم آتية من اللعبة الدينية-الأمنية التي مارسها العسكر المصري والسوري، والتي رمت الأكثر تطرفا من بين الإسلاميين في أحضان العمل الإرهابي.
أما الحجة المرفوعة دائما في طليعة هذه المعركة، فهي أن الإسلام السياسي، وهو خطر أساسي، لن تتمكن من اقتلاعه إلا قوة عظيمة مثل جيش نظامي. وان هذه المعركة لن تكون سهلة، أي انها ستكون دموية، لأن المجموعات الإسلامية، بأساليبها غير «الشرعية»، أصبحت خطراً وجودياً. هكذا، حظي الإسلام السياسي بالعداوة من الدرجة الأولى، ولا حساب هنا للمجموعات الإسلامية التي رضيت بقوة العسكر، فمشت في خريطة طريقه، مثل حزب النور السلفي، الذي قدمت له التنازلات «العقيدية» المطلوبة في الدستور المصري الجديد… المهم الآن، ان العدو الجوهري الكلياني الشمولي، الذي لا عدو غيره، العدو الشيطاني والأرجح الأبدي، هم الإخوان المسلمين وإخوانهم؛ تماماً كما كانت إسرائيل البارحة، «إسرائيل شر مطلق»، والعداء لها إلى «يوم القيامة«.
كل هذا كان يمكن أن يمر مرور الكرام لولا صدور الدستور التونسي الجديد، الذي يعتبر سابقة في العالم العربي، بإقراره حرية الضمير، في البند الثاني. فيطرح السؤال البديهي: لماذا تونس؟ وليس غيرها من بلدان الثورات العربية؟ هل إسلاميو تونس ضعفاء؟ أم أن الجهاديين والقاعديين من بينهم معدومي الوجود؟ طبعاً لا. فالبرلمان الذي أقر هذا الدستور هو في غالبيته من حزب «النهضة»، النظير التونسي للإخوان المسلمين. وهذه نقطة علينا، نحن العرب، الراسخين في عصبياتنا الفكرية، يصعب علينا الإقرار بها: من أن يأتي خير التاريخ من غير الأطراف التي تشبهنا، أو تشبهه. في تونس، حصلت السابقة الثانية، وأقر البرلمان الإسلامي ببند حرية الضمير. طبعاً في الدستور التونسي «تسويات» مع الإسلاميين، ولكن، لا البند الأول، البورقيبي الزمن، تغير، ولا أضيفت «الشريعة» الإسلامية، لا كمصدر واحد، ولا كأحد مصادر التشريع. إذن ليس ضعفاً إسلامياً، ولا بالتالي غياب التقليد القاضي بحكم للعسكر تحجبه «مدنية» رؤسائهم (مثل عبد الفتاح السيسي، الذي يراد من «استقالته» من الجيش تمهيدا للترشح للرئاسة، أن يكون دليلا على تحوله إلى مواطن «مدني«).
هل هي التجربة المصرية، التي علمت حزب «النهضة» بأن لا ينفرد، كي لا ينفرط؟ هذا سبب وجيه، أن يكون إسلاميون اتعظوا من سقطات إسلاميين آخرين. ولكنه لا يمكنه ان يكون سبباً عميقاً، لأن «التعلم من التجارب» ليس من صفات البشر إلا قليلا، وليس كثيراً. فهم نادراًً ما يتعلمون من تجاربهم… فما بالك بتجارب غيرهم؟
حسناً. ماذا إذن؟ قد تجد بعض التفسير الشافي للطليعية التونسية، في المجتمع التونسي نفسه: انه مجتمع على احتكاك ثقافي وبشري متواصل مع الغرب، فرنسا تحديداً؛ شرائح واسعة منه، مدينية خصوصاً، لم تكتف بمجرد تشرب ثقافة هذا الغرب وقيمه؛ إنما ترجمت في ممارساتها معاني هذه الثقافة، وانتظمت ضمن أحزاب وجمعيات ومؤسسات ونقابات، وعبرت عن نفسها طوال الثورة وبعدها في فعاليات شبه يومية مشت بموازاة مناقشة الدستور. فكان ضغطها المنظم، المقوى بتنوير غير مغشوش، غير متلاعب بالدين، أن تسجل توافقاً مع الإسلام السياسي المتمثل في حزب «النهضة» الإخواني، وتنقذ تونس من أنهار الدم المراق في سوريا ومصر. تونس أنقذت لأن مواردها البشرية والثقافية وفيرة، ولأن هذه الموارد هي أفضل ما أنتجته البشرية حتى الآن، من طرق الحكم والتنظيم والاحتجاج الخ. والتونسيون، نتيجة هذه الثقافة لديهم مناعة قوية ضد الحروب الأهلية. الأقوى من الدوغما عندهم هو تونسيتهم، هويتهم الجامعة، التي أبقت بلادهم حتى الآن بمنأى عن انهار الموت والدمار. هم لا يكفرون التكفيريين، ولا يدعون إلى قتلهم، لأن فلسفة الأنوار علمتهم آداب أيامها، من ان الذي اختلف معه بالرأي يستحق دفاعي عن حقه بالتعبير عن هذا الرأي. إسلاميو تونس هم نتاج سياقهم وبنى مجتمعهم وثقافته، وكذلك هم إسلاميو مصر وسوريا، لا هم شر إرهابي مطلق ولا تركيبة أبدية.
بالأمس احتفل التونسيون بالذكرى الأولى لإغتيال شهيدهم العلماني شكري بلعيد. أقاموا له الإحتفالات وزار رئيس الجمهورية قبره. وبعد أشهر، سوف تحلّ الذكرى الأولى لشهيد ثان، هو محمد براهيمي. الإثنان شهداء المرحلة الانتقالية للثورة التونسية. قارن بعد ذلك: بينهم وبين عدد شهداء المرحلة الإنتقالية المصرية والسورية…. وسوف تخلص الى واحدة من النتائج الأساسية لتكفير التكفيريين: المزيد من الموت والدمار.
dalal.elbizri@gmail.com
المستقبل