العامل المشترك الأخطر بين كل الأديان، السماوية وغير السماوية، أن أداة تطبيقها هو الانسان.
البشر، كلهم واحد، متشابه، نحن نفكر بطريقة متجانسة الى حد مخيف، ولأننا نتطابق تماماً، فاننا نتنافر جداً مثل قطبي مغناطيس موجب وموجب، وسالب وسالب. كنت أشاهد قبل أيام فيلم وثائقي عن الايمانيات المسيحية، وقد أذهلتني درجة التشابه البشري في التعامل مع الروحانيات وكيف أن البشر وان لم يلتقوا قط، وان سكنوا طرفي الكرة الأرضية، يكادون يصلون الى نمط تفكيري موحد ومتطابق تماماً روحانياً. ففي المسيحية مثلاً، الكلمة الحق هي للرب، ولا يصل الجنة الا من يتبع هذه الكلمة الحق، حيث اقتربت نهاية العالم الآن، وبدت علامات قيام الساعة واضحة للعيان.
يتطابق هذا التفكير الثيولوجي المسيحي مع نظيره الاسلامي تماماً، الا أن الاختلاف يتعمق الى درجة خطيرة في تعريف كلمة الحق، وفي اتجاه علامات الساعة. فحيث تتفق الأديان على بدأ قيام حرب رهيبة ينتصر فيها الحق ويهزم الباطل بعد سنوات من المعاناة والجهاد، فانها تخلف تماماً في تعريف طرفي الحق والباطل، وهنا تكمن الخطورة المميتة في الاختلافات الدينية التي تفسد، وعن جدارة، للود كل قضية. فالأديان السماوية الحالية تختلف جذرياًُ فيما بينها في تعريف طرف الشر الذي هو اليهود الذين يهزمون في آخر الزمان في دين الاسلام، والذين هم كل من يعادي دولة اسرائيل ويحاربها في اليهودية والذين هم كل من يخالف اليسوع وينفي ربوبيته في المسيحية الكاثوليكية تدقيقاً ولكنها تتطابق بشكل مخيف من حيث الايمان بأن دولة “الحق” ستعاني وتحاط بأعدائها الى أن يظهر المخلص ويحررها ويعيد للحق نصابه وعندها تأتي نهاية العالم فيرتفع المؤمنون للسماوات ويهبط الكفار الى السعير.
هذا التطابق مخيف وخطر لأنه يرقد فوق اختلاف دامي حول مفهوم دولة “الحق”، فالتطابق المذهل في الايمان وفيما يوجب عمله تجاه هذا الايمان، يغذي دموية مريعة كل الأطراف على استعاد تام للتخبط فيها لاعلاء كلمة الحق والدفاع عن الموطن المقدس.
ينطوي الايمان الثيولوجي اذن على جانب سيكولوجي خطير ليس له نظير، فالبشر يتفقون ويختلفون حول أمور مهمة وأقل أهمية في حياتهم، ولكنهم لا يستسهلون، أويحبذون، أو حتى يتفاخرون باراقة الدماء الا من أجل اختلافاتهم الثيولوجية، وذلك لأن طبيعة الايمان الديني تعزز فكرة ديمومة الحياة الأخرى ومؤقتية الحياة الحالية والتي يستخدمها معظم البشر للتحضير للحياة القادمة، وعليه، لا مانع من اراقة بعض الدماء، أو الكثير منها بالأحرى، من أجل اعلاء الحق الدائم في الحياة القادمة واستحقاق رضى الاله على محاولات الاعلاء هذه.
لست هنا بمعرض الكتابة من منطلق نقدي ثيولوجي، ولكنني في الواقع أبحث في هذا التشابه البشري المرعب في التعامل مع “الحق” والايمان المطلق. فأغلبية البشر يعلنون أنهم على استعداد للموت من أجل “الحق”، قد يكون سبب هذا التطابق في منطق التضحية الدموي هو أن الموت هو النهاية البشرية الطبيعية والمحتومة، وعليه يسعى البشر لخروج درامي مدوي، وما يكون مدوي أكثر من الخروج من أجل “الحقيقة” الأخيرة المطلقة؟ هذا التطابق في الاستعداد التام للموت من أجل الحقيقة ثم الاختلاف الجذري في تعريف هذه الحقيقة يشكلان معاً الوباء الأخطر والأقدم والأبقى على وجه الخليقة. لست هنا أتوقع أن يتخلى كل البشر عن تشابههم الايماني ولكنني أتمنى لو ميز البشر بأن الحق، اياً كان تعريفهم له، يمكن النظر له بعينين اثنتين وليس عين عوراء واحدة، فعين تراه وتبجله، والعين الأخرى ترى الحقائق المغايرة وتقدر ايمان أصحابها بها، ولكن، نظل بشراً، تتغلب عواطفنا وايمانياتنا على معظمنا، الأمل اذن في قوانين تنصها الشعوب في لحظات الصفاء، تلك القوانين التي تحمينا من أنفسنا، من تشابهنا وتناقضنا بأن “تنظم” مشاعرنا وتقيدها بقيود الحرية، فتفصل معتقدات الناس عن القوانين والأنظمة السياسية، فلا تكون الغلبة أبداً لنهج ديني ولكن لمنهج سياسي مدني خالص. استقر الغرب وتفرغ للعلم وجند قدراته للتطور عندما فصل الأمور العقائدية عن تلك الدنيوية، فمتى نتعلم الدرس، ألم نتق لشيئ من الاستقرار؟ الا نستحقه؟
*من قصيدة لورا للشاعر غازي عبدالرحمن القصيبي
toto@muzaffar.com
كاتبة وجامعية كويتية