تنتظر الأقلية البرلمانية والشعبية من الأكثرية البرلمانية والشعبية أن تسلمها السلطة كاملة، من دون نقصان وربما من دون شروط، وبإملاءات فوقانية (هي أصلاً تحتانية وإن إلهية التوصيف أو الانتحال، وسموية وتهديدية، وعنفية، وقسرية، وترهيبية، أي على صورة مستنسخة من الانقلابات التي خبرناها وعرفناها وجلبت لنا، وللأمة العربية وغير العربية الكوارث، والنكبات، والنكسات والهزائم، وإن مُظفَّرة بحمده تعالى!)
إذاً، بكل بساطة تريد الأقلية المعزولة أن تُهدى ما تبقى من السلطة، لا لِتتسلمها فقط، وإنما لتموهها، تمهيداً لجعل الجمهورية (أي جمهورية) مجرّد سلطة متسلطة لكن من دون دولة. أو الأحرى نظام جمهورية سلطوي من دون دولة. أو الأحرى أحياناً جمهورية إرهابية شبيهة بجمهوريات الموز والخس والقتل والقمع والاستبداد… والفستق حلبي! أمس، أو أوله، ولا فارق، شَنَّفنا المطرب الالهي محمد رعد بأمر يومي آخر، مفاده وإفادته أنه، أي محمد “المرعد” (بلا مطر)، قرر أن مجلس النواب لن يعقد لا في دورته العادية ولا الاستثنائية؟ قالها بنبرة “توراتية” ـ “نبوئية” تبرق بالخراب وتوعد بالويل لهذا الشعب، إذا لم يخضع لوصايا محمد رعد الربانية! (جورج بوش مقتنع أيضاً، (على غرارهم) بأنه من سلالة الله المختارة وهو المختار بإذنه تعالى لينقذ العالم من الشر وينشر العدالة والايمان). هكذا، فحزب الله الناضح بالصدق وبتوقه الى “العدالة” و”الحقيقة” والانصاف، يرى عبر الناطق باسمه الحَسَن، أن المجلس غير موجود. وإذا كان موجوداً، فإن المجلس غير موجود. وإذا كان موجوداً، فإن بعض وجوده من موجودات الحزب ومن متاعه! ونتساءل لماذا لا ينقلون أثاث المجلس وطاولاته وكراسيه وحتى مبانيه ويضمونه الى ممتلكاته الالهية الخاصة، ما دام كل الوطن، بحسب مفهومه الايديولوجي، من متاعهم، ومن تفاصيلهم… ومن متروكاتهم!
الرئيس بري يشارك في المؤتمرات الدولية بعنفوان وبقوة، ومجلسنا (أقصد مجلسه) هنا غير موجود إلا في “مخيّلات” الأكثرية، وأن النواب (ما عداهم بتوع الوصايتين!) مجرّد كائنات افتراضية قد تختفي وقد تظهر بناءً لظهور المعجزات “الالهية” أو عدم ظهورها! عال! فعندهم رئيس جمهورية يشبههم. وعندهم مجلس النواب ويريدون أن ينفوه عن بكرة أبيه، ليصبح شبيههم العدمي! تبقى الحكومة! وهي في نظرهم (قلت نظرهم؟) غير موجودة، لأنهم غير موجودين فيها. وعندما كانوا موجودين فيها كانت فعلاً موجودة بهم، وعبرهم. وفيهم، ومنهم، تيمناً بالقول المأثور: نحن الحكومة والحكومة نحن! ثم عندهم الشعب اللبناني، وهو أصلاً غير موجود في نظرهم لكي يستشيروه في أمور الحرب والسلم والسلاح والمال (النظيف) والكانتونات والتشبيح والحقيقة والعدالة والمحكمة الدولية والحوار والقرارات والدساتير. فكيف يمكن استشارة شعب افتراضي ومؤسسات كمجلس النواب، والحكومة، والدولة… في مثل هذه الأمور الدنيوية والميتافيزيقية واللاهوتية والفقهية و”الفكهية”!
وإذا كان هذا الشعب غير موجود فيعني أن أرضاً خاصة به غير موجودة. وأن دولة خاصة به غير موجودة. وأن كياناً خاصاً به غير موجود. وأن حدوداً تجمعه وخاصة به غير موجودة. فكيف يطالب شعب غير موجود (كالشعب اللبناني) بأن يكون موجوداً. وكيف يطالب موجود افتراضي بحقه بالحياة وبالعدالة والكرامة؟ ولهذا، فعندما يكون الشعب غير موجود، فيعني أن هناك من هو موجود. كبديل منه. والبديل هنا كان على امتداد العقود الماضية مجموعة الوصايات العربية وغير العربية. فبعض الأنظمة العربية كانت موجودة في لبنان بأسلحتها ومالها وعسسها ولصوصها ومجرميها، والشعب اللبناني غير موجود. كانت هي، بكل فخار وتصد وصمود الشعب اللبناني. وكانت القضايا الكبرى موجودة في لبنان، لكن الشعب اللبناني غير موجود. فأصحاب القضايا الكبرى، من لدن الخارج، كانوا موجودين بقضاياهم، أما الشعب اللبناني فكان غير موجود.
حتى العدو الصهيوني غزا لبنان ووصل الى بيروت لينقذ أهله، باعتبار أنه حلَّ محل شعبه “الشاغر”. فهو كعدو موجود على أرض معادية، والشعب، في نظره غير موجود. وكل الوصايات التي “أمَّت” هذا البلد، إنما أمَّتْه” كأرضٍ بلا شعب، تحتاج الى شعب بلا أرض. وهي الأرض كحدود منتهكة، وهي الشعب كوجود افتراضي. وعندما سارت الميليشيات، كجاليات أجنبية بأسماء وهويات محلية، كان عليها أيضاً أن تعتبر أن وجودها مستمد وشرعي لأن الشعب غير موجود. ولهذا كان على وسائل الاعلام أن تُعين كل طائفة أو مذهب بمثابة شعب. وهكذا كنا نسمع ونقرأ عن “الشعب الماروني” و”الشعب الدرزي”، و”الشعب السنّي”، و”الشعب الشيعي”، صارت كل الطوائف شعوباً ما عدا الشعب اللبناني، جامعها، فهو عاد لا يستحق أن يكون شعباً ولا أن يذكر كشعب. ولا أن يعترف به كشعب.
حتى المقاومات من وطنية وما بعدها (مع تأييدنا المطلق لها إذا قاومت العدو لا لبنان)، إنما قاومته، أو من تحت “إرادة” الشعب اللبناني المفترض، أو من فوقه… أو من بعيد عنه. فهي قررت أن تقاوم من دون أن يكون لهذا الشعب أن يسائلها، أو يبادرها أو يشارك معها. إذ كيف يمكن أن يشارك شعب ما في مقاومته إذا كانت هذه الأخيرة موجودة والشعب غير موجود. فالمقاومة من أجل الوطن لا بد، أن تكون من إرادة خارجية، ولا دخل للناس بها. حتى لو كابدوا نتائجها، حتى لو دفعوا مصيرهم ثمناً. فقرار الحرب على الحدود هو قرار يقفز فوق الشعب كإرادة جامعة. وينط من الدوائر المخابراتية العربية وغير العربية الى ممثلي هذه الدوائر المنتحلين أحياناً هويات وطنية أو غير وطنية. ولهذا كثرت “المقاومات” دفاعاً عن لبنان وعن العروبة وعن “الوطن” وعن الحدود… وضد العدو… وضد بعضها البعض. فالمقاومات عندما لا تجد عدواً تقاومه تخترع عدواً محلياً، وتقاومه لتؤكد أنها موجودة… وسائر “المقاومات” غير موجودة. المقاومة الوطنية أُلغيت بقرار خارجي. (إيراني ـ سوري). وحَلَّت محلها “المقاومة الاسلامية” بقرار خارجي (إيراني ـ سوري). وذهبت الى الجنوب بقرار خارجي. وصارت بقرار خارجي. ونفذت عمليات بقرار خارجي. عال! (ونحن كنا معها باعتبار أن كل مقاومة لعدو يحتل أرضنا مشروعة، وإن كانت بقرار خارجي). عال! لكن هذه المقاومة لم تكن متصلة بمجموع الشعب اللبناني (وإن أيَّدها، وغطّاها، ودعمها). ولم تجد أي حاجة أو ضرورة لأن تسأله يوماً لا رأيه، ولا وجهة نظره، حتى عندما كان يتعلق الأمر بمصيره. وهذا ما فعلته “المقاومات” الشتى من “لبنانية”، و”عروبية”، وحزبية على امتداد عقود حتى ان هذه المقاومات لم تكن تسأل “شعب” طائفتها… لا عن القرارات الحربية والسلمية أو حتى الكيانية! فهي تقرر أن تحارب وتجرجر الطائفة خلفها تحت شعارات ومسميات وتضليل وترغيب وتهويل وتهديد! ولماذا عليها أن تسأل “شعب” طائفتها أو قبيلتها ما دام القرار آتياً من الخارج مع “معلومه” المادي والمعنوي… والالهي! فالقائد البطل يحل محل الطائفة. ومحل الشعب، ومحل الكيان. فما بالك إذا عيَّن هذا القائد نفسه قائداً “إلهياً” (وكل قائد أحد هو قائد إلهي أوحد)، فعندها تخضع له السموات والقبوات والكواكب وتسجد له المجرات والجبال وتنحني أمامه الشوامخ ويمشي التاريخ بين جنبيه، والجغرافيا بين ساقيه، والمطر من بين منخريه، والشمس من نور عينيه! ولأن القائد البطل، و”الاله” الأكبر من بطل، لا يخطئ، (ومن شروط القائد ـ الاله أن يكون عميلاً معلناً ليعزز ألوهته على الدنيا الفانية والآخرة الباقية)، فيعني أنه قادر على تحويل الهزيمة الى نصر، والنصر الى نعمة إلهية، والملائكة الى جنود في صفوف مخابراته ومقاتليه… وقتلته! وهو قادر (بقدرته القادرة) على أن يجعل من المقاومة من أجل الآخرين. مقاومة من أجل الوطن. ومن المقاومة من أجل الوطن مقاومة من أجل الآخرين. وهو قادر (وبصفته الأقدر والأغدر والأندر والأبجر) على أن يُضلِّل ناسه بسحر السحرة، وبجاذبية القوى الخفية، ومهارة المشعوذين! ولهذا، يمكن، وبلمحة عين أن يجعل من أي “مناضل” خائناً. ومن أي “مؤمن” كافراً، ومن أي “وطني” عميلاً! فقوته سحرية الى درجة أنه يستطيع اجتراح المستحيل وتغيير الصفات والأسماء والألقاب والهويات والتذاكر والحدود. وعندها يمكن أن تصير حدود لبنان الجنوبية مثلاً حدوداً لإيران، أو حدوداً لسوريا… أو حدوداً لأفغانستان، أو العراق… أو أي بلد يختاره هذا القائد “الفحل” الذي يخصب “كل أرض”، فتستحيل أرضاً أخرى، وكل شعب فيستحيل شعباً آخر. وكل سماء فتستحيل سماء أخرى!
وعلى هذا الأساس، لا بد من أن تنتقل “عدوى” الألوهة (الأعظم من السحر) الى الأدنى، والى المساعدين، والأعضاء والرفاق، والمختارين من المؤمنين. فيكون لهذا العضو في هذا الحزب أو التنظيم (أو المقاومة) أن يصير آدمياً استثنائياً، أي آدمياً مشمولاً بصفات غير آدمية… أي “إلهية”! ويصير لهذا القائد “الصغير” أن يعترف بأن ما هو موجود غير موجود، وبأن ما هو غير موجود موجود. وبعيداً عن “لعبة الثلاث أوراق” و”الكشاتبين”… تصبح هذه المهمة الموكولة إليه مهمة إلهية… وقد “صَدَّق” هذا الصغير المتصاغر أنه “إله”… تماماً كما صدق قائده الأكبر أيضاً أنه إله… وعندها لا يستوي أي حوار، ولا أي جدال، ولا أي بحث، ولا أي شورى ولا أي تشاور… معه! فكل هذه “الأمور” مبتوتة ومحسومة، ومحاولة مناقشتها نوع من “الإشراك” قد يؤدي الى “التكفير”!
وهكذا ومن عقد الى عقد. ومن حرب الى حرب. ومن إله الى إله. ومن قائد أوحد الى قائد أوحد. أي من خراب الى خراب. ومن كارثة الى كارثة… استمر إرث آلهة السماء على أرضنا… بالوكالة والتعيين حتى وصلنا الى ما وصلنا إليه. لكن الحسابات “الالهية” “اللدنية من فوق”، تبددها الوقائع! وتصدمها الحقيقة، ويكسرها الوعي، وتمسحها الارادات “التحتية”… أي الشعبية! ويكون عندها، أن تعلن “الآلهة” (الصغرى أو الكبرى أو البين بين) حروبها على الناس التي نفترض أنهم وجدوا حيث ليس من المفترض أن يوجدوا، وأنهم ظهروا حيث ليس من المفترض “النبوئي” أن يظهروا. فتقع الواقعة بين شعب (غير معترف به)، وبين آلهة تؤكد “وجودها” بنفيه. هي موجودة من فوق. وهو غير موجود تحت. هي تصدر الوصايا والنواهي والأوامر، وهو يتلقفها تلقف الغائب والمغيّب والغيبوبي! لكن ماذا نفعل لهذه “الآلهة” الممسوخة بشراً، أو للبشر الممسوخة آلهة، عندما يلمع التمرد علامة من علامة وجود الشعب. وإشارة من إشاراته! وهكذا صار بعد 14 شباط اثر اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري. وهكذا صار عندما أعلنت ثورة الأرز! أي هكذا صار عندما أشهر الشعب وجوده. قال! أنا ما زلت موجوداً! ووقف وصمد وغَيَّرَ وبَدَّلَ وانتقل من زمن الوصايات الى زمن الحرية!
لكن “الآلهة” لا تُهزم! فهي ما زالت مصرّة على أن تأكيد “ألوهيتها” هو نفي لوجود الشعب كإرادة، وفكرة (والشعب فكرة) وأرض، وحلم، ومشروع. وهكذا نعود الى أخينا محمد رعد الذي ينفي وجود الحكومة، ومجلس النواب، والأكثرية… ولبنان! إذ كيف يمكن أن تلغي ما يصدر عن الشعب ويكون هناك شعب! فهو وحزبه ومن وراءَهما الشعب! وإذا تبقَّى شيء فمن موجوداته ومتاعه وأغراضه. ونكرر: إذا تبقَّى شعب فهو من فتات ألوهيته، ومن فرائس إراداته العليا: ليشرعن قتله، يهدر دمه، يحتل ممتلكاته، يغزو مناطقه، ويتعرّض لكراماته، وينتهك حقوقه، ويُمَوِّه حقائقه، ويطمس كيانه، وتعدده، وخياراته! إذ كيف يمكن لشعب أن يتمتع بكل هذه الحقوق… إذا كان غير موجود، وإذا كان هو… الحزب مَنْ قرر أن يكون بديلاً منه؟ ينتخب عنه، ويحكم عنه، ويقرر عنه، ويحارب عنه، ويعقد الاتفاقات عنه، ويقرر عنه ما إذا كان موجوداً… أو غير موجود! ويبدو أن حزب الله، يقرر، ومن باب التكهن والنبوءات والتنبؤات والروحانيات والسياسات أن الجمهورية غير موجودة إلا عبر جمهوريته الميمونة، وأن الدولة غير موجودة إلا عبر دويلته المزدهرة، وأن الكيان غير موجود إلا عبر كيانه المتماسك (حتى الآن!)، وأن الحكومة غير موجودة إلا عبر وزرائه، وأن المجلس غير موجود إلا عبر نوابه، وتالياً فإن الشعب اللبناني، ولأن كل ما أنتجه غير موجود، فهو غير موجود أصلاً! فهو الوهم والحزب هو الحقيقة! هو الخرافة والحزب هو الواقع! هو الغياب الأقصى والحزب هو الحضور الأقسى.
إن حزباً يتمتع بكل هذه الصفات له كل الحق بأن يعترف بمَنْ يشاء، وبأن ينكر مَنْ يشاء. أن يُعدم مَنْ يشاء ويحيي مَنْ يشاء. أن يُهدر دم مَنْ يشاء وأن يدافع عمَنْ يشاء. أن يؤكد وجود مَنْ يشاء وأن يؤكد عدم وجود مَنْ يشاء! فله العزة والسؤدد… والآلهة والأولياء والقديسين والقديسات، وله المجد وحده! ذلك الذي أُعطي المجد وحده والنعمة وحدها… والألوهة وحده… ولبنان وحده! فعاش لبنان به… وعاش هو بلبنان! حقاً إنه لبنان آخر به. حقاً إنه شعب آخر به! لكن تذكّروا كم “إلهاً” مرّ بنا على امتداد العقود الماضية… وتبخّرت ألوهته كدخان الروث… ودخان السجائر ودخان كل المخدرات الالهية العابرة!
قلنا في مستهل المقالة إن الأقلية الشعبية والبرلمانية تنتظر من الأكثرية الشعبية والبرلمانية أن تسلمها الدولة والسلطة والنظام والاستقلال… وتوقعت الأقلية أن تنهار الأكثرية أمام فجورها… فتنقَضّ انقضاضاً على الحكم وتبتلعه. هذا لأن الأقلية كانت وما زالت ترى أن لبنان بلا شعب… لكن ماذا نفعل لهذه الأقلية المرتبطة بأرسان في الخارج، إذا “حدث” وكان هذا الشعب اللبناني موجوداً هذه المرة. إنه لأمر مؤسف يا محمد رعد أن تكتشف أن في لبنان شعباً… وعظيماً لن ينال منه لا الارهاب المنظم، ولا المخربون المنظمون، ولا المرتزقة ولا المجرمون ولا الفاسدون ولا… بتوع الوصايتين!
وهذا الشعب بات هو المقاومة الحقيقية. المقاومة من أجل دولته وديموقراطيته وسيادته وحريته وثقافته وتعدديته ومجتمعه المدني الخصب!
فهل هذا يخيفكم حتى تشهروا علينا عصياناً إنقلابياً سينقلب عليكم بإذنه تعالى؟
(المستقبل)