أطلقت “حماس” على عملياتها اسم “حجارة سجيل”، وذلك في مواجهة عملية “عمود سحاب” الإسرائيلية ضد غزة. أهلاً بكم في شرق الأساطير والاعتقادات التي تعتبر أنّ “أرض مصر ستكون مسرح الصراع الأول بين الخير والشر”.
وإذا استندنا إلى ما جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي (آخر سفر من أسفار الإنجيل) فسيكون الخلاص بعد المعركة الأخيرة بين الخير والشر التي ستقع في هرمجدون (سهل مجدو) في الشمال الغربي من أرض فلسطين.
نبتعد عن صراعات الآلهة ونترك الماورائيات لأربابها ونعود لنتطلع عن قرب لما يجري في غزة وحولها منذ منتصف الأسبوع الماضي، ونجد انفسنا أمام ما يشبه التكرار لحرب 2008 – 2009 (عملية “الرصاص المصبوب”)، لكننا أمام المواجهة الإقليمية الأولى بعد بدء مرحلة “الربيع العربي” وأمام اختبار كبير للحكم المصري الجديد.
بالطبع تتنوع الأهداف وراء العملية العسكرية الجديدة ومنها أهداف متصلة بالواقع الانتخابي الإسرائيلي والتوازنات الفلسطينية. في استباق لتموضع حركة “حماس” بعد خروج قيادتها من دمشق، تستهدف إسرائيل فرض واقع جديد في قطاع غزة، لكنها تصوِّب أيضاً على السلطة الفلسطينية والتشويش على مسعاها في طلب الانتساب كدولة غير عضو في منظمة الأمم المتحدة، وهي تخطط بالتواطؤ مع واشنطن (حسبما تبين من مداولات المسؤول الأميركي ديفيد هيل خلال زيارته الأخيرة إلى باريس) لاعتبار الرئيس الفلسطيني أبو مازن طرفاً غير شريك، ويصل الأمر إلى التلويح بحل السلطة الفلسطينية برمتها.
ومما لا شك فيه أن بنيامين نتنياهو يستعجل فرض أولوياته على أوباما الثاني قبل بدء جهوده الديبلوماسية في الملفَين الإيراني والسوري، ويغلق عليه الطريق في ما يخص الشأن الفلسطيني. هكذا يعرب رئيس الوزراء الاسرائيلي عن قلقه من المحيط الجيو سياسي الجديد في ضوء التغييرات الكبيرة والمتوقعة، ويبدو مستعجلاً في السعي إلى إحراج مصر وإخراجها في المقام الأول.
في اختبار للحكم المصري الذي تقوده جماعة الأخوان المسلمين، لا تفتش إسرائيل عن التأكد من احترام اتفاقية السلام الثنائية أو من الدور الوسيط للقاهرة، بل ربما تسعى إلى تلزيم مصر الجديدة كل ملف غزة المتفجر، في عودة إلى وضع القطاع السابق قبل 1967. من هنا تضخم إسرائيل هواجسها من سيناء ليس لوجود التنظيمات الجهادية والسلفية فيها فحسب وإنما بسبب خطر ما تسميه تصدير الإرهاب إليها.
إضافة إلى عملية غزة والقلق حول سيناء، يتنبه المراقب إلى الغارة الإسرائيلية على المجمّع العسكري في الخرطوم التي يمكن تفسيرها كضربة عسكرية في عمق الجبهة الجنوبية للأمن القومي المصري، حيث أنّ الخطر على مصر يتمثل أيضاً بالمستقبل الغامض لمنظومة دول النيل هبة مصر. تبعاً لذلك تسعى إسرائيل إلى تحذير الحكم المصري الجديد من إعادة النظر في العلاقات الثنائية من دون الاخذ في الاعتبار المصالح الإسرائيلية.
وهذه الملاحظة تبين ان كل السيناريوهات والافتراضات عن صفقات أميركية واسرائيلية مع جماعة الأخوان المسلمين ومنظومة “الربيع العربي” الناشئة لا تدرج إلا في باب الإشاعات.
إسرائيل لا تحبذ خروج مصر من الشرنقة لتلعب دوراً نهضوياً عربياً وإسلامياً، تركيا تريد احتواءها من خلال وحدة تذكرنا بطروحات القذافي، وإيران تريدها جزءاً من صحوتها الإسلامية الخمينية… وهذه القوى غير العربية التي صعدت بعد سقوط بغداد، لها مصلحة في استمرار الوضع القائم.
وبديهياً، لا يمكن للباحث والمؤرخ ان يستغرب احتدام التجاذب حول مصر بالذات. وهنا نتذكر المفكر جمال حمدان الذي كلمنا عن عبقرية موقع مصر وعظمة تاريخها اللتين كانتا المغناطيس الجاذب للطامعين من كل صوب وحدب، ما جعلها البلد الأكثر تعرضاً للاحتلال على مر التاريخ.
منذ “ثورة 25 يناير”، أثبتت الدولة المصرية أنها متجذّرة بغض النظر عن تهاوي النظام السياسي. وكان الجيش المصري السد المنيع الذي منع الانهيار وسط حال الهرج والمرج والتناحر.
ومنذ آب الماضي وانتقال السلطة بالكامل إلى الرئيس محمد مرسي تبقى المؤسستان العسكرية والقضائية من ضمانات ديمومة الدولة المصرية. واليوم يخشى كل حريص على مصر من لعبة لتوريط الجيش المصري شبيهة بما جرى عام 1967 لتحطيمه وتحطيم مصر ودورها في الحاضر والمستقبل.
في حال تطور عملية “عمود سحاب” إلى حرب برية واسعة، ستكون مصر أمام اختبار مصيري. والأرجح أن تسعى واشنطن وباريس وغيرهما إلى الحدّ من الأضرار في مواجهة المستجدات لكي لا تخرج عن السيطرة. في معزل عن التجاذب والمزايدات سيبقى التحدي الأول بالنسبة إلى مصر داخلياً وتنموياً ومن دونه لا نجاحات في السياسة الخارجية أو في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
انتظرت الصين ثماني مئة سنة لاسترجاع هونغ كونغ، ولندع مصر تبني نفسها على مهل ما سيؤهلها لاحقاً للعب دور فعال في محيطها العربي وفي الدفاع عن الحق الفلسطيني.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني- باريس