“إن في الإنسان طاقات اقتدار/ آه لو يعرفها كيف تُدار”
(جوته)
*
لن يكون موضوع هذه الملاحظات على هامش حوارات قاسم حداد في كتابه “فتنة السؤال” تحليلا أدبيا نقديا لشعره. فذلك موضوع لم أتخصص فيه ولم أخصص نفسي فيه. مطلوبي لا يتجاوز إلقاء أضواء نفسية على بعض الإشكاليات، وتوضيح بعض المفاهيم توضيحا خاطفا، والتعبير عن لذة اكتشاف قاسم حداد، الذي لم أقرأ له ولم أقرأ عنه من قبل، شاعرا وإنسانا شفافا لاشعوره في متناول يده، كما تراءى الشاعر لشاعر السوريالية ومؤسسها “أندريه بروطون”، الذي رأى في الشعر طريقا فذا لتحرير الإنسان من نيري عبادة الله وعبادة المال: “الأولى عبادة وهم والثانية عبادة وحش”، كما قال.
ما أن قرأت مقدمة صبحي حديدي لـ”فتنة السؤال”و بضع صفحات منه، حتى عادت إلى الذاكرة ذكريات عتيقة وعريقة، عن علاقتي بالشعر والشعراء، فقررت التعليق على الكتاب أولا للتعبير عما أفكر فيه بصدده، ليس كأخصائي بل كمواطن في”جمهورية الأفكار”. وثانيا لتهريب نُبذ من سيرتي الذاتية، التي كان مشروع كتابتها أحد أحلام شبابي (أنظر العفيف الأخضر: خالي والهجرة صنعاني، .إيلاف). منذ 2011، أيقنت أني لن أكتبها: النزيف السرطاني أقرب إليّ من حبل الوريد . تماما مثل ذلك السرطان الآخر الأشد خبثا: سرطان أحد قادة أقصى اليمين الإسلامي التونسي وأكثرهم تعطشا لسفك دمي، الذي يزداد مع كل مقال أنشره جنونا دمويا ينضح تحريضا على قتلي. مثلا، بين عشرات، علق على رسالتي إلى طيب أردوغان دعما لمشروعه السديد: “ضرورة مصالحة الإسلام مع الحرية، والديمقراطية والعلمانية”: “تقول لأردوغان أخي فهل جددت إسلامك؟!”، أو تعليقا على مقال لكامل النجار: “أنت معاد للإسلام لكن العفيف الأخضر، أكثر عداوة له منك”! المغزى: وا إسلاماه: أقتلوا المرتد! أخيرا انتقل من القول إلى بداية الفعل: في 06/04/2012، فوجئت جارتي وهي تفتح بابها ب3أئمة (40 ـ 50 عاما) أحدهم يصلي صلاة لعنة الموت اليهودية الإسلامية أمام بابي: لهذا السبب قررت اغتنام أية مناسبة لتسجيل بعض وقائع سيرتي الذاتية وبعض الأفكار، التي كانت ستبدو مقحمة في سياق آخر، لتقديم قدر أكبر من المعطيات لمساعدة قرائي ومؤرخي الأفكار وصناع قرار الغد على فهم أفضل ونقد أفضل واستلهام أفضل لمشروعي الإصلاحي – الثوري السلمي، في منظور تطبيقه لإعادة تعريف الإسلام، التعليم والتعليم الديني والسياسات الاقتصادية واللغوية والسكانية وصناعة القرار.
في جميع هذه المجالات، وفي مقدمتها إصلاح اللغة العربية التي هي اليوم، بين 6000 لغة، برسم الاندثار؛ عدم إعادة تعريف هذه المهام، في الوقت المناسب، حولها إلى عوّائق جدية لولادة مجمتعاتنا ولادة ثانية تجعلها معاصرة لعصرها في حداثته الدينية، اللغوية، التربوية، الثقافية،العلمية، المؤسساتية والقيمية…المحاور المركزية لمشروع الثورة- الإصلاحية السلمية، الذي كرست له ربع القرن الأخير من حياتي، ونبهت له النخب منذ اكثر من نصف قرن، هي إصلاح الإسلام، بما هو شرط شارط لكل إصلاح آخر بما فيه إصلاح شروط الإبداع العلمي والتكنولوجي والفلسفي والفكري والأدبي والفني. إصلاح الإسلام عندي، غيره عند اسلافي من المصلحين، فهو يعني تكييفه مع حقائق العالم الذي نعيش فيه، بتطهيره من عنف الإسلام المدني، الشرعي الجهادي، (الإسلام المدني: 1573 آية من حوالي 6236آية . أي أقل من ربع الآيات)، واستبداله بالإسلام المكي [= 4664 آية] الروحي المسالم المرصود لمساعدة المؤمن على خلاص روحه بعد الموت، “إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا” كما وعدته آياتا البقرة والمائدة. اختار أقصى اليمين الإسلامي الإسلام المدني بما هو “قرآن وسيف”، عند حسن البنا، و”قرآن وحزام ناسف” عند قادة حماس و”قرآن وسلاح نووي” عند راشد الغنوشي! واختار شيوخ الصوفية الإسلام المكي الروحي حصرا، طيب أردوغان، هو مريد لشيوخ الزاوية الصوفية، النقشبندية، محاولته إقامة السلام في الشرق الأوسط، انطلاقا من توقيع السلام بين سوريا وإسرائيل وتبنيه لسياسة “صفر مشاكل” مع دول الجوار.. ليس صدفة ! تجلى عنف الإسلام المدني، خلال 10 سنوات الأخيرة، من دعوة نبي الإسلام في تبني “شريعة موسى”، التي هي تاريخيا شريعة حامورابي 18قرنا ق.م.الدموية التي مثلت مع ذلك إنتقالا من عنف قانون الغاب الأعمى، إلى عنف منظم بتعريف الحد الأدنى: حامورابي يستمع إلى الشهود ثم يحكم… لكن شريعة حامورابي،التي انتقلت من التوراة إلى القرآن، غدت اليوم في تناقض صارخ مع فلسفة العقاب في القانون الوضعي العقلاني: إصلاح الجاني، وليس تشويه جسده أو سفك دمه، ومع مواثيق حقوق الإنسان التي جسدت قيم الفلسفة الإنسانية التي رأت النور مع فجر الحداثة؛ يتجلى عنف الإسلام المدني في الجهاد، جهاد الدفع وجهاد الطلب، الذي حوّل العالم إلى “دار حرب” “يجاهد فيها المسلمون إلى قيام الساعة إلى “قتل آخر يهودي” إذا صدقنا البخاري. الحديث أدرجته “حماس” في المادة 7من ميثاقها. وباختصار مشروعي لإصلاح الإسلام يتلخص في نسخ الشريعة بما فيها بعض العبادات المضرة بصحة الإنسان، وصحة الاقتصاد كالصوم، وعلى ضرورة التنصيص في الدستور على الفصل بين الدين والدولة وبين المؤمن والمواطن، هذا الفصل ضروري للانتقال من دولة”مسلمة”، إذاً طائفية، إلى دولة لكل مواطنيها. هذه هي الخطوط الكبرى لمشروعي لإصلاح الإسلام (أنظر: العفيف الأخضر: “إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان”). بالمثل، اقترحت مشروعا لإصلاح العربية لتحويلها من لغة القرآن إلى لغة العلم والتكنولوجيا. كيف؟ 1 – بتبني معجم المصطلحات الغربي بتعريبه [= كتابة المصطلح بالأحرف العربية مع الإبقاء على بنية المصطلح في لغته الأصلية] لأن المصطلح لا يترجم. ترجمة معانيه بأكثر من كلمة تغتاله كمصطلح لاستحالة النسبة إليه، مثلا فزياء: فزيائي. على العربية أن تقلد العبرية التي عبرنت معجم المصطلحات الغربي ولم تترجمه، فتحولت بذلك من لغة ماتت منذ ألف عام، إذ لم تعد صالحة إلا للشعائر الدينية، إلى لغة العلم والتكنولوجيا والإبداع في كل مجال. 2- تيسير النحو بإلغاء الإعراب والوقوف على السكون كما طالب بذلك أحمد أمين وطه حسين، وكما فعلت اللغات الحديثة. إذ أن جميع اللغات القديمة قامت على الإعراب. ألححتُ منذ 16 عاما ولا زلت على الاعتراف باللحن، الذي هو فاعل التطور في اللغة، كما أن البدعة هي فاعل التطور في الدين، والتهجين هو فاعل التطور في البيولوجيا. دعاة نقاء اللغة، ونقاء الدين، ونقاء العرق، مصابون بوسواس الثبات الذي ينافي قانون التطور الحتمي والكوني: “كل شيء يتغير الا قانون التغير”(ماركس)(أنظر العفيف الأخضر: “الأصولية تعيق تطور العربية”، في” قضايا فكرية.” القاهرة. مايو 1977). إذا أمهلني الموت سأعيد نشر هذه الدراسة في 20 حلقة، على المواقع الإلكترونية. فالنشر الورقي سيتوقف لأسباب أيكولوجية في2018، وإلا فوصيتي لقرائي هي نشرها بعد تصحيح أخطائها؛ إقترحت أيضا إصلاحا للأبجدية العربية، بتطوير إصلاح الحجاج لها بإضافة التنقيط والشكل. استغنيت عن التنقيط بتغيير الأبجدية حتى ما عاد حرف فيها يشبه حرفا – كما في اللغات المعاصرة- وألغيتُ الشكل باستحداث أبجدية صوتية في صلب الأبجدية: ترمز إلى الضمة والفتحة والكسرة. هذا الرمز هو الألف(أ) يتكرر 3 مرات: مرة في رأسه فتحة، ومرة في منتصفه ضمة، ومرة في آخره كسرة. أما السكون، فترك العلامة له علامة كما قال النحاة. وأضفت الحروف اللاتينية المستخدمة في الرموز الرياضية التي لا مقابل لها في العربية. وهكذا تصبح العربية من أيسر اللغات على متعلميها ويربح الطفل ثلاثة أرباع وقته الذي يضيعه اليوم في تعلمها (أنظر: العفيف الأخضر: مقدمة البيان الشيوعي. بيروت 1974). اقترحت ايضا مشروعا لإصلاح التعليم والتعليم الديني عبر إعادة تعريف المدرسة التقليدية الحالية، القائمة على التلقين الببغائي، لتطويرها إلى مدرسة تتعلم فيها أجيال الغد كيف تتعلم مدى الحياة وتكوِّن، بدلا من أنصاف المتعلمين والعاطلين. عمال القرن 21: التقنيين، المهندسين، الباحثين، العلماء، والأطباء وجميع المواهب التي يتطلبها المجتمع المفتوح، وإصلاح التعليم الديني، حجر الزواية في إصلاح الإسلام، بتدريس العقل الإلهي[= الدين] بالعقل البشري[=علوم الأديان]، لجعل الظاهرة الدينية شفافة أمام عقول النشء، لوقايته من الانزلاق في الخرافة والعنف والإرهاب مثلما هو الحال اليوم. نقاط الارتكاز في مشروعي لإصلاح التعليم هي تحديث المناهج وتحديث طرق التدريس وتحديث تكوين المدرسين، و إصلاح التعليم الديني بالانتقال من مدرسة اللامعقول الديني الموجودة إلى مدرسة العقلانية الدينية المنشودة. ماذا أعني بالعقلانية الدينية؟: دراسة وتدريس الدين بعلوم الأديان لوقاية أبنائنا من القراءتين السائدتين للقرآن والحديث: القراءة التقليدية السلفية القائلة: “لم يترك الأول [=السلف] للآخر[=الخلف]شيئا” يقوله، فلا يسع المؤمن إلا أن يشرح أقوال الأسلاف وأفعالهم متجنبا كل بحث عن حقائق جديدة لن تكون إلا بدعة “تؤدي بصاحبها في النار”، والقراءة الحرفية التي تعتمد على التصديق لكل ما جاء به النص: “أمام النص نقول سمعنا وأطعنا”(راشد الغنوشي). حتى ولو كان النص هذيانا دينيا مكتمل الشروط، يشكل تصديقه حرفيا خطرا على المسلمين وغير المسلمين! (أنظر: العفيف الأخضر: “معالم على طريق تحديث التعليم والتعليم الديني: تربية إسلامية من أجل السلام “،) إيلاف)؛ اقترحت أيضا مشروع سياسة سكانية عقلانية تنقذ الشعوب العربية والإسلامية وشعوب إفريقيا من قنبلة الانفجار السكاني التي يفجرونها في انفسهم. كيف؟ بنزع فتيلها باستلهام تجربة الهند وخاصة الصين وتونس، قبل سقوطها بين مخالب مجانين الله، للوصول إلى العائلة العقلانية: عائلة واحدة = طفلا واحدا. في غياب هذه السياسة السكانية لا سبيل إلى إصلاح الاقتصاد بالانتقال، من تنمية اقتصاد الحرب والتبذير[=التهافت على شراء الأسلحة وامتلاك السلاح النووي] السائد اليوم، إلى التنمية المستدامة للسلع والخدمات التي تقرأ حسابا لحقوق الأجيال التي لم تولد بعد في موارد وفيرة وبيئة نظيفة.(أنظر: العفيف الأخضر: “ضرورة نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني”(ايلاف)؛ وأخيرا، اقترحت إصلاحا سياسيا شاملا مفتاحه إصلاح صناعة القرار. القرار اليوم يصنعه مرضى الغباء المستوطن في غالبية البلدان العربية والإسلامية بالارتجال، وبأخذ الثأر بدل أخذ الحق، وبالهذيان الديني الذي تجسده عقيدة: “التدخل الرباني في التاريخ»: «إن تنصروا الله ينصركم”. صدام ضم الكويت بناء على حلم رآه في المنام باعترافه هو نفسه، وأحمدي نجاد، يعلن في البرلمان والتلفزيون، أن الإمام الغائب هو الذي يملي عليه سياسته الداخلية والخارجية!.. والحال أن قرار الدول الجديرة بهذا الاسم تصنعه المعاهد، العامة والخاصة، المتخصصة في صناعة القرار بالعلم والكومبيوتر، اللذين يتعاونان على تعريف المصلحة الوطنية تعريفا موضوعيا، ربما بهامش خطأ ضئيل قابل للتدارك، في جميع ميادين السياسة الداخلية والخارجية.
مع قاسم حداد و”فتنة السؤال”، لسنا بعيدين عن الحاجة الماسة إلى الإصلاح: إلى هذا الإصلاح بالذات. الإبداع بحد ذاته لا يحتاج إلى إصلاح: فهو إما أن يكون أو لا يكون، اما أن يكون المبدع، سواء أكان شاعرا أو نبيا، أو صوفيا، أو عرافا، أو كاهنا ـ وهم جميعا من بنية نفسية واحدة- قادرا على أن يكون سكرتير لا شعوره أو غير قادر.
هذيان المبدع، مثلا الشاعر، لا يختلف عن هذيان الذهاني [= المجنون]إلا في تفصيلين صغيرين ولكن حاسمين: الذهاني، حسب النفساني “داكو” تكون دفقته الأولى [=الآية، البيت، السورة، القصيدة، اللوحة]… عبقرية”، أما الثانية والثالثة… والعاشرة فلن تكون إلا تكرارا رتيبا للأولى. الفنان لا يكرر نفسه تكرارا رتيبا دونما إضافة تذكر ـ على الأقل بعد تبييض الدفقة الأولى ـ فكل أثر،كل قصيدة أو رواية أو لوحة،هو خطوة إلى الأمام في ارتياد أعماق اللاشعور البعيدة الغور.، عندما يعجز الفنان عن هذا الارتياد، الذي هو لب الابداع، إما أن يواصل تكرار نفسه، كما يفعل الذهاني.وإما أن يصمت. الطيب صالح صمت بعد “موسم الهجرة إلى الشمال”، لأنه لم يعد قادرا على ارتياد أعماق أبعد غورا في لاشعوره. وحسنا فعل. والشاعر السوريالي عبد القادر الجنابي، بعد كتابة سيرته الذاتية التي هي قصيدة فريدة في بابها، قرأتها دون توقف، من أول سطر إلى آخر سطر فيها. ثم صمت. وحسنا فعل أيضاً. الذهاني عاجز عن تنظيم هذيانه. أما الشاعر فقادر بتعبير قاسم حداد، على “تبييض”هذيانه. أي تنظيمه بتقنيات شعرية تنقله من الدفق المبهم، المكرر والمتشابه، إلى شعر غالبا في متناول القارئ المتوسط أو الخبير. نفسانيا، من الصعب تصديق الشاعر الذي يدعي أنه لا يكتب إلا لنفسه. نعم، ربما كان ذلك قريبا من الحقيقة بالنسبة للدفقة الأولى التي يمليها اللاشعور قهريا. لكنه عندما يشرع في “تبييضها”، أي في تنظيمها/نظمها شعرا، فهو عندئذ قد تاق إلى أن يكون مرغوبا من متلق، من قارئ، تماما كالمرأة، لا تتبرج إلا لتعرض نفسها على راغب، إلا لتكون مشتهاة من “قارئ” يقرأ ملامح جسدها …المبدع هو هذه المرأة. وسألقي إضاءة أكبر على هذه المسألة المفصلية في الحلقة الثانية من هذا المقال. الإبداع إذن لا يحتاج إلى إصلاح، لكن توفير شروط الإبداع الموضوعية الضرورية، لينتشر ويزدهر، في حاجة ماسة إلى الإصلاح. هذا الإصلاح لا بديل له غير المراوحة في المكان. والحال أن التقدم مطلوب لإزاحة عوائق الإبداع من طريق الأجيال الجديدة: الفقر، الأمية، الجهل، العائلة المتعددة الزوجات والعديدة الأطفال، والتعليم والتعليم الديني، المعقّمان للمواهب، وعربية تفتقر إلى معجم المصطلحات،وسوء صناعة القرار بالإرتجال والهذيان الديني…
هذه العوائق، لا فقط حكمت على الإبداع العلمي والتكنولوجي والفلسفي والفكري والأدبي والفني، في مجتمعاتنا، بأن يكون محدودا كما وكيفا، منحصرا في نخبة قليلة العدد وقلما تسامت إلى المتوسط العالمي للإبداع في أي مجال، وجمهور محدود أيضا في عدده وفي مواهبه؛ بل الأدهى أن هذه العوائق مسؤولة عن مرض -بالمفهوم الطبي- الغباء العربي الإسلامي بدرجاته الثلاث: الخفيف،المتوسط والعميق، المنتشر انتشار الوباء في أرض الإسلام. بسببه مازالت الأحوال الشخصية الشرعية تحكم على نصف المجتمع، النساء، بالإقصاء من كل نشاط إبداعي،بل بالإقصاء حتى من الحق في العلاج: لا يحق مثلا للمرأة السعودية أن تدخل المستشفى إلا بإذن زوجها، ومازالت الشريعة تضيّق الخناق على مواهب الأقليات، الحاملة تاريخيا لمشعل الإبداع، مثلا مترجمو بيت الحكمة كانوا كلهم تقريبا من الأقلية المسيحية، بحرمانها من جميع حقوق المواطنة الكاملة ومن فرص تحقيق أبنائها لمواهبهم ومهاراتهم التقنية في المجال العام، وإلى حد كبير، في المجال الخاص أيضا.إذ لا يحق مثلا لطالب الطب المسيحي في مصر أن يتخصص في الجينوكولوجيا[=علم أمراض النساء]حتى لا يكشف على المرأة المسلمة ! [التي لا يجب شرعا أن تكشف عنها وتعالجها إلا طبيبة أنثى!]وهكذا دفعتهم الشريعة التمييزية بذلك دفعا إلى الالتحاق أفواجا أفواجا بجيش الأدمغة المهاجرة؛ وبسبب الغباء العربي الإسلامي، مازالت اللغة العربية مقصاة من حظيرة اللغات العالمية الحديثة، لافتقادها المأساوي لمعجم المصطلحات العلمي العالمي، ولعجزها الجارح- الجارح حتى العظم- عن ترجمة الإبداع العلمي والتكنولوجي والثقافي: جامعيان تونسيان ترجما كتاب المستشرق أندريه ميكال عن “القرآن” اشتكيا في مقدمته من عجز المعجم العربي عن إسعافهم بالمصطلحات !لماذا هذا الإحجام الآثم عن تعريب المعجم الاصطلاحي السائد في العالم؟ لعدم “تلويث”لغة القرآن برطانة الأعاجم! ومازال الجبن السياسي والفكري،كنتيجة منطقية للغباء العربي الاسلامي، يشكل عائقا مخيفا لاصلاح الاسلام وتدريسه بعلوم الأديان،الوحيدة القادرة على جعله ينصهر في بوتقة الثقافة الدينية العالمية وينفتح، كغيره من الأديان الكبرى،على أذواق، وقيم، وعلوم، وفنون عصره، فيعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. مما ترك المجال فسيحا أمام مومياءات الغباء الديني المتحركة، بقيادة القرضاوي، لتحرّم وتجرّم بإسهال الفتاوى الدينية القرقوشية: الموسيقى، الغناء، الرقص، الرسم، النحت، والشعر “غير العفيف”، لمجرد أن نبي الإسلام، في لحظة غضب ظرفي، هجا، ردا على هجائهم له، شعراء عصره. فأبى الغباء الديني إلا أن يحول هذا الهجاء الظرفي إلى لعنة أبدية تلاحق شعراء جميع العصور!
لماذا عجزت النخب عن القيام بمحاولة جدية واحدة لإزاحة جبل العوائق هذا؟
لأن مرض الغباء -دائما هو! ـ أعماها عن رؤية المهام المقروءة والمرئية في الواقع وعلى رأسها: صناعة القرار بالعلم، لا بالاتكال الذّهاني على الله، لمعرفة أين توجد مصلحة شعوبها بفضل تعريف الكومبيوتر لها بدقة رياضية، تساعدها على استباق المشاكل بالحلول لإسعاد سكانها، بدلا من الزج بهم في مغامرات انتحارية كما فعلت حتى الآن!هذه معالم أزمتنا العامة، وأزمة الإبداع خاصة، التي تتخبط فيها، منذ قرون، مجتمعاتنا التي تتفكك من الداخل، بتفكك روابطها الاجتماعية، كل يوم أكثر، ما كُتب حتى الآن عن هذه الأزمة، التي هي بحق أم الأزمات، لايروي غليلا ولا يشفي عليلا، أولاً قليل كميا. وثانيا متهافت فكريا، لأنه يمر بجانب المشكل الحقيقي الذي هو ينبوع جميع المشاكل:سوء صناعة القرار، أنها الأسوأ في العالم. فلا توجد دولة حتى في إفريقا جنوب الصحراء تصنع قرارها بالهذيان الديني! لو اهتدت النخب إلى صنع قرارها بالعلم في جميع المجالات، لأدركت المهام الفعلية المطروحة عليها في هذه المجالات: من ضرورة إصلاح الإسلام إلى ضرورة التنمية المستدامة…، وحتى عندما تكون مقاربة أزمة الإبداع ذكية، فإنها تكون جزئية، تختزلها في عوائق الإبداع الأدبي وتختزل حلها إلى ضرورة مساعدة الحكومات للمثقفين الفقراء ومساعدتهم على الإنفاق على طبع كتاباتهم.
المطلب الأول مشروع، أما الثاني فلن يعود ذا موضوع بعد 6 سنوات إذ سيحل الكتاب الرقمي محل الورقي. الغريب،غير المستغرب في الواقع، هو اختزال أزمة الأبداع إلى الإبداع الأدبي تناسيا فادحا للب الأزمة: أزمة الإبداع العلمي والتكنولوجي والفلسفي والفكري والقائمة طويلة، التي يتوقف على حلها إقلاعنا من تأخرنا التاريخي إلى مصاف الأمم الراقية. هذا التناسي ربما كان “هفوة” بالمعنى النفساني: نسيان مقصود لا شعوريا. فهذه العلوم، التي لا حياة لأمة من دونها، اعتبرها فقهاء الانحطاط،فقهاء النرجسية الدينية “علوما دخيلة”، في مقابل العلوم “الشرعية الأصيلة”، بكل الإيحاءات التحقيرية المضمرة في الدخيلة»: أجنبية، غريبة، متطفلة على “العلوم الأصيلة”.
مثلت النرجسية الدينية عاملا كبيرا في افقار الثقافة العربية الاسلامية بغلقها في وجه الواردات الثقافية والعلمية الخارجية بردع الوعي الجمعي الاسلامي عن تقليد “الكفار”،أي اوربا إبّان ميلادها الثاني، لاقتباس حضارتها؛كما اعاقتها قديما وحديثا عن استبطان،واستدماج وهضم الروافد العالمية، التي لم تتغلغل في الوعي الجمعي الذي اغلقه دونها فقهاء الانحطاط، فقهاء هزيمة العقل الاعتزالي والفلسفي، بالضبة والمفتاح:”لا نقلدهم [= الكفارٍ]،يقول ابن تيمية، في “اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة اهل الجحيم” حتى فيما فيه مصلحة لنا.لان الله اما ان يعطينا خيرا منها او مثلها في الدنيا واما ان يعوضنا عنها في الآخرة”!
يعيد فرويد اسباب الذهانات [= الجنون] الى الافراط النرجسي. فالقليل من النرجسية ضروري للثقة بالنفس،والكثير منها ضار بالنفس.وها أن ابن تيمية يقدم له البرهان الدامغ على صحة فرضيته !
الانطواء النرجسي على الذات، منذ 9 قرون، ادى الى تصحر علمي وتكنولوجي وفكري وفلسفي وادبي وفني.ثقافة، كثقافتنا،تعيش على الاكتفاء الذاتي الثقافي تعقّم نفسها.رفض تبني معجم المصطلحات الغربي كما هو باعثه الحقيقي اللاشعوري:”رفض تقليد اهل الجحيم”حتى فيما فيه الف مصلحة لنا !
واقع مجتمعاتنا المحزن هو، بين عوامل أخرى، ما يغذي “حزن” قاسم حداد في “فتنة السؤال”.
الحلقة الثانية: لماذا الشاعر دائما حزين؟
lafif.lakhdar@yahoo.fr
* كاتب تونسي – فرنسا