لدى القوات اللبنانية أكبر كتلة نيابية مسيحية، لكن العزلة الرائعة التي تنتهجها لا توحي بذلك.
ندّد عضو المجلس المركزي في حزب الله الشيخ نبيل قاووق يوم الأحد الفائت بالانسداد السياسي المستمر في لبنان بشأن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكنه أعلن عمّا اعتبره نبأً سارًّا. فبحسب قاووق، برز في ظل هذا الجمود والتوتر “بصيص أمل وحيد في البلد هو الحوار بين حزب الله والتيار الوطني الحر”، بقيادة جبران باسيل.
تَبادر إلى ذهني سؤالان حين قرأت تصريح قاووق. الأول، كيف سُمح له، ولحزب الله عمومًا، بتصوير التيار الوطني الحر على أنه الطرف المسيحي الأول الذي يجب أن يحاوره حزب الله بشأن الملف الرئاسي، علمًا أن القوات اللبنانية حصلت على عدد أكبر من الأصوات، ولا سيما أصوات المسيحيين، في انتخابات العام 2022، ولديها بالتالي كتلة أكبر في مجلس النواب؟ والسؤال الثاني، أين هي القوات اللبنانية اليوم، إذ تبدو غير منخرطة إطلاقًا في المشهد السياسي؟
هل من مبالغة في هذا التساؤل؟ طبعًا، نسمع كثيرًا من رئيس الحزب سمير جعجع، وأحيانًا من نواب القوات، لكن ليس هذا هو المقصود. بل بالأحرى، ما الذي تطرحه القوات اللبنانية كبديل لبنية الحوكمة الفاشلة القائمة في لبنان اليوم؟ فقد مضت سنوات عدة منذ أن شاركت القوات في الحكومة، أو حتى فرضت نفسها طرفًا محوريًا في شؤون البلاد. ويبدو أنها تراجعت لتدخل في نوعٍ من العزلة الرائعة والمتحجّرة. في شهر تموز/يوليو، عبّر جعجع عمّا يفكّر فيه حين أعلن أنه لن ينخرط في نقاشات مع حزب الله، مبرّرًا موقفه بالقول: “نحن لم نرفض الحوار فقط لمجرد الرفض بل لحقنا الحوار على باب الدار ولكن من دون جدوى، من هنا لا نريد تضييع وقت الناس سدىً”.
لا بدّ أن يتساءل المرء إذًا، ما معنى أن تحظى بأكبر كتلة مسيحية في مجلس النواب إن كنت ستجلس بعيدًا مكتوف اليدَين من دون أن تحقّق شيئًا بالنتيجة التي أحرزتها؟ والأسوأ أن تحالفات جعجع الطائفية قد تضرّرت، إذ إن علاقاته اليوم سيئة مع معظم الطوائف الكبرى. فهو لا يتحدث مع حزب الله، ويتعامل مع وليد جنبلاط بأسلوب مهذّب لكن بارد، واصطدمت علاقته مع الطائفة السنية بحائط مسدود، ولا سيما مع ما تبقى من أنصار سعد الحريري. أما روابطه مع العونيين فهي عبارة عن تبادلات مَصلَحية، إلى أن تكفّ عن كونها كذلك، ويصبح بإمكان القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر العودة إلى عدائهما المألوف.
كان باسيل أذكى على هذا الصعيد، إذ يهدف إلى تحقيق أمور عدة من حواره مع حزب الله. أولًا، هو يضمن بذلك حفاظه على موقعه، في وقتٍ عمد كثرٌ إلى شطبه من المعادلة بعد مغادرة ميشال عون منصب رئاسة الجمهورية. وما زال باسيل أيضًا منخرطًا في صُلب المساعي الرامية إلى حلّ الأزمة الوطنية الأساسية اليوم، أي عجز مجلس النواب عن انتخاب رئيس. وثانيًا، سمح باسيل لحزب الله بأن يكرّس التيار الوطني الحر “الممثل المسيحي الأبرز“، مع أنه ليس كذلك. وهو يسعى، من خلال مجاراة هذا الوهم، إلى إعادة تعويم سفينة التيار الوطني الحر الغارقة، وتقويض مكاسب القوات اللبنانية، التي لم يبذل جعجع أي جهد لتعزيزها. وثالثًا، يخوض باسيل حوارًا مع الحزب الأقوى في لبنان، وهذا ضروري لأي شخص يريد أن يضطلع بدور سياسي في البلاد.
يحاول باسيل أيضًا إعادة إحياء علاقاته مع الطوائف الأخرى. ففي أوائل آب/أغسطس، افتتح مركزًا شبابيًا في الشوف، أي منطقة نفوذ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وألقى في هذه المناسبة كلمة تصالحية، مشدّدًا على أن “لا سبب ليقوم التيار بمعاداة أيٍّ من اللبنانيين بسبب انتمائه أو بفكره، لأننا نتقبّل أفكار الجميع ويمكن أن نتخاصم مع الناس بسبب ممارساتهم وأفعالهم، و]لكن[ ليس بسبب الطائفة أو الحزب أو تفكيرهم”.
وأتى ذلك بعد أسابيع قليلة من مبادرة باسيل إلى تهنئة تيمور جنبلاط بمناسبة انتخابه رئيسًا للحزب التقدمي الاشتراكي. كذلك، اتصل بوليد جنبلاط مهنّئًا ومعربًا له عن “كل الأمنيات الطيبة بالانتقال الهادئ لقيادة الحزب والتمني بالتعاون لخير الوطن”.
صحيحٌ أن باسيل واجه صعوبة أكبر مع السنّة، إلا أنه باشر برأب هذا الصدع مع الطائفة السنّية حتى قبل انتهاء ولاية حميّه الرئاسية العام الماضي. كان هذا طبيعيًا لأنه أدرك أن حزب الله لن يدعم ترشحه لرئاسة الجمهورية، لذا أراد توسيع نفوذه الطائفي. وفي أيلول/سبتمبر 2022، زار باسيل مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان برفقة وفد من التيار الوطني الحر، ودافع خلال اللقاء عن اتفاق الطائف. يُذكر أن هذا الاتفاق منح رئيس الوزراء السنّي صلاحيات دستورية واسعة على حساب الرئيس الماروني، لذا صبّت تصريحات باسيل في إطار مساعيه الرامية إلى طمأنة السنّة بأن الموارنة لا يسعون إلى إلغاء الطائف.
أما جعجع، فعلاقته مع معظم القوى السياسية السنّية الرئيسة لا تزال سيّئة. فأنصار الحريري ما زالوا يلومونه، بشكل عادل أو غير عادل، على انقلاب السعوديين على رئيس الحكومة السابق. ويتذكرون أن رفض جعجع، في مناسبتَين، تبني ترشيح الحريري لرئاسة الحكومة حرمه من الشرعية المسيحية، مقوّضًا جهود الحريري الصعبة أساسًا لتشكيل حكومة. كذلك، لم يكن جعجع تاريخيًا على علاقة جيدة مع الشخصيات السنيّة المتحدّرة من خلفية قومية عربية أو مؤيدة للفلسطينيين، ولم يتغيّر هذا الوضع.
يشعر المرء أن جعجع سعى، منذ ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019، إلى الوقوف على مسافة بعيدة من الطبقة السياسية الفاسدة كي يتفادى تشويه سمعته عبر وضعه في الكفة نفسها معها. ويبدو أنه يقوم بذلك من خلال إبقاء حزبه خارج الحكومة والجلوس خلف حاجز مبدئي معطِّل. علاوةً على ذلك، لم يتوجّه إلى القوى السياسية الجديدة التي نشأت من الثورة، وكانت تعاملاته مشحونة مع ما سُمي بتكتّل النواب التغييريين الذي انبثق من المجتمع المدني. فيبدو أن جعجع لا يستطيع أن يفهم تمامًا لماذا يرفضون أن يحذوا حذوه، متغافلًا عن السبب البديهي المتمثّل في أن هذا التكتّل، على الرغم من جميع زلّاته، عازمٌ على البقاء مستقلًّا عن القيادة السياسية التقليدية.
الخطر المُحدِق بالقوات اللبنانية هو أن رفضها تحمّل أي مسؤولية في الحكم سيضعها خارج المعادلة إلى حدٍّ بعيد، وهذا مؤسف لأنها عيّنت في السابق وزراء يتمتّعون بالمصداقية. لكن الوقوف بعيدًا على الدوام والاكتفاء بمراقبة المجريات والانتقاد من المقاعد الجانبية يصبح عادةً مزعجة بعد فترة. أُراهن، بالدولار “الفريش”، على أن القوات ستخسر أصواتًا في انتخابات العام 2026 ما لم يغيّر جعجع استراتيجيته.
أولًا، على جعجع أن يتصرّف بصفته زعيم أكبر حزب مسيحي وألا يسمح لحزب الله بالتغلّب عليه من خلال تصوير باسيل على أنه الزعيم المسيحي الأكثر تمثيلاً. ويعني ذلك ببساطة أن على جعجع التحدّث مع حزب الله، لا بل فرض نفسه. فمن غير المنطقي رفض التواصل مع قوة وازنة في البلاد، أو منح حزب الله هامشًا لنزع الشرعية عن القوات. ليس الأمر وكأن جعجع لم ينخرط في حوار مع حزب الله من قبل، بل فعل ذلك في أكثر من مناسبة، أي في العام 2006 ومجدّدًا في العام 2008. إضافةً إلى ذلك، يتعامل نوابه مع نواب حزب الله بصورة منتظمة.
جعجع محق بأن لدى حزب الله أجندة من المستبعد أن يقدّم بشأنها تنازلات كثيرة. مع ذلك، لقد نجح هو وباسيل في توحيد مواقفهما وحيّدا جانبًا، وإن لبعض الوقت، خيار حزب الله ترشيح سليمان فرنجية للرئاسة من خلال دعمهما ترشيح جهاد أزعور، ما أرغم الحزب على التراجع والبحث عن حل. لكن كان من المفترض أن يعوّل جعجع بصفته زعيم أكبر كتلة نيابية مسيحية، وليس باسيل، على هذا النجاح من خلال الانخراط مع حزب الله في حلحلة الجمود المحيط بأعلى منصب مسيحي ماروني. لكن في الواقع، كان باسيل هو الذي استخدم جعجع لتعزيز موقعه في المفاوضات مع حزب الله، وليس العكس.
يُعجَب البعض بالأشخاص الذين يبقون متشبّثين بمواقفهم مهما حصل. ربما، لكن في المرة الأخيرة التي أقدم جعجع على ذلك، أمضى أحد عشر عامًا في الزنزانة. وبعد الإفراج عنه، نجحت القوات اللبنانية في إعادة تشكيل نفسها وإقامة تحالفات عابرة للطوائف، وأصبحت طرفًا أساسيًا على الساحة السياسية اللبنانية. أما اليوم، فباتت تحالفاتها مع الطوائف الأخرى هشّة للغاية. صحيحٌ أن القوات لديها أكبر كتلة مسيحية في البرلمان، لكنها ليست أساسية جدًّا في السياسات المحلية لأنها اختارت تجنّب الدخول في جحر الأفاعي المتمثّل في المساومات اللبنانية اليومية. وفي حال انحسر دور القوات اللبنانية وأصبح يقتصر على إطلاق مناشدات دورية غير محقّقة، فالانتخابات إذًا لا تعني شيئًا والسياسة لا تتمتع بأي أهمية.