لا يمكن فصل ايقاع التوتر الامني – المذهبي، بتداعياته السنية – الشيعية في صيدا، عن ايقاع المواجهات في سورية. كما لا يمكن فصله عن الأزمات المتراكمة في مسار العلاقة الملتبسة بين “حزب الله” وجزء اساسي من المشهد السياسي والديني في صيدا منذ سنوات خصوصا بعد عدوان تموز 2006، وبشكل واضح بعد 7 أيّار 2008. من هنا شكلت ظاهرة الشيخ احمد الاسير، المتنامية، ابرز مقومات التعبير عن الاحتقان الموجود في المدينة، الذي تغذّى على الآتي:
أوّلا: من الازمة السياسية المستفحلة على المستوى الوطني والتي توجتها اطاحة “حزب الله”، من على رأس الحكومة عام 2010، الممثل الفعلي للطائفة السنية سياسيا وتمثيليا، ابن المدينة النائب سعد الحريري. اطاحة اراد القائمون عليها اظهار ان “حزب الله” هو من خطط وقاد ونفذ قرار الاقالة، باعتزاز ومن دون تردد او توجس من ارتداداتها المذهبية.
ثانياً: منذ ما بعد العام 2006 ضاعف حزب الله من وجوده في المدينة، وعمد الى فتح عشرات المكاتب الامنية فيها. خطوة اثارت الريبة لدى كثيرين من ابنائها، كما أشار كاتب هذه السطور مرارا وتكرارا قبل أعوام، خصوصًا ان هذه المكاتب كانت محاطة بهالة من السرية والتكتم الذي لطالما أضاف القلق، في ظل ازمة سياسية يشكل العنوان المذهبي طاقة استفحالها وتمددها. في وقت كان يمنع على “تيار المستقبل” فتح مكاتب مدنية له في صور او النبطية او بعلبك او غيرها من مناطق حيث له وجود حقيقيّ.
ثالثا: إنخراط “حزب الله” مباشرة في تشكيل وتمويل مجموعات مسلحة في المدينة تحت مسمى “سرايا المقاومة”، حظي عناصرها بحصانة امنية رسمية اتاحت لهم القدرة على اثبات نفوذهم واستقوائهم في احياء المدينة متسلحين بهذه الحصانة وبشعار المقاومة (فيما يستمر قتلة لبنان العزي وعلي سمهون طليقين). واظهرت في المقابل ان حزب الله يشكل اطارا سياسيا وعسكريا جديدا في المدينة قوامه مجموعة من “شبيحة الاحياء” والعاطلين من العمل في مقابل بدل شهري. وهو ما اثار حفيظة حلفاء الحزب في المدينة قبل خصومه، تحديدا النائب السابق اسامة سعد والدكتور عبد الرحمن البزري، لشعورهم بان الحزب، في الحدّ الادنى بات غير واثق عبر سلوكه هذا بحلفائه لجهة ضمان الثوابت التي يقوم عليها تحالفهم معه. ولعل المواجهة التي حصلت بين مناصري سعد و”سرايا المقاومة”، نهاية العام الماضي، وأدّت الى سقوط قتيل، كانت مؤشراً الى هذا الضيق.
رابعاً: في ظل استفحال الانقسام السياسي والتوتر وتنامي شعور الثنائية الشيعية بالقوة، عمدت الأخيرة الى الاطاحة بعرف ان يكون رئيس غرفة التجارة والصناعة في صيدا والجنوب حاظيا بتوافق من فاعليات المدينة. وجاءت عبر الانتخاب بأحد المقربين من الرئيس نبيه بري، وهي خطوة اثارت ردود فعل فاقمت من حال الاحتقان في المدينة ومن شعور الاستقواء المذهبي عليها. وهذا ما فسر اندفاعة احد تجار المدينة لتمويل اعتصام الشيخ الاسير الشهير على مدخل صيدا الصيف الماضي. والى هذه الخطوة يضاف قيام هذه “الثنائية” بتعطيل اتحاد بلديات صيدا والزهراني بسبب رفضها ان يكون رئيس بلدية صيدا رئيساً للاتحاد كما جرت العادة منذ تأسيسه قبل عقود.
خامساً: واكب دخول “حزب الله” المدينة تضخم الخصوصيات المذهبية فيها. فقبل ذلك كان مألوفا ان تجد المصلين الشيعة من ابناء صيدا في مساجد المدينة التي يؤمها علماء ومشايخ سنة. كما لم يكن محل استهجان ان يكون عديد المشاركين السنّة في مراسم عاشوراء، حضوراً وخطباءً، اكثر من الشيعة. مع دخول الحزب بدا ان المشهد يتغير وينحو نحو ابراز الخصوصيات المذهبية وشعور بعض المتهورين والمراهقين الشيعة بالقوة الموهومة. تلك التي دفعت بعضهم الى اقتحام مكاتب “المستقبل” في قلب المدينة يوم 7 ايار، بالسلاح، ما ادى الى سقوط قتيلين كانا يمران صدفة قرب المكتب. فيما ساهم هذا التمايز والشرخ المذهبي في تراجع ملحوظ للزيجات المختلطة على سبيل المثال، وفي خلق تطابق غير مسبوق بالمدينة بين الانتماء السياسي والمذهبي، وإلى ازدياد ظواهر قيام مجموعات من خارج المدينة باستعراض قوة داخل المدينة خلال السنوات الماضية، وهي، إن كانت ذات طابع فردي غالبا، الا أنّ انتماءها الشيعي زاد في الاحتقان والشعور بالمظلومية المذهبية داخل المدينة.
هذه بعض مقومات قوة الشيخ الاسير ونفوذه. واذا كان البعض يريد ان يفهم اسباب نشوئها وتمددها، لا يمكن ان يحيل الامر تهربا الى مؤامرة والى تدخلات اقليمية واستخبارية. يمكن ان يكون ذلك رافدا، لكن بالتأكيد هو كلام يريد التعمية على مسؤولية سلوك سياسي دخيل على المدينة انطوى على استهزاء وتهميش واستعلاء على اولئك الذين وصفهم السيد حسن نصرالله بـ”العقلاء” حين سأل “الا يوجد عقلاء وحكماء” في مدينة صيدا… لا اعتقد ان السيد حسن نصرالله كان يقصد السيدة بهية الحريري…المخيف ان لغة العقل باتت وراء الجميع. لغة العقل تبدو منهكة امام (حيوية) التحريض الذي بدأت صناعته منذ سنوات وقبل ان يطل امام مسجد بلال بن رباح الشيخ احمد الاسير.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد