حتى اشهر خلت، كانت محافظة الانبار تعيش حالة فريدة من نوعها بين مدن العراق، فعلى ارضها الشاسعة التي تمثل ما يزيد عن ربع مساحة العراق، تواجدت جميع الاطراف المتناقضة، وكل بمشاريعه التي تحمل حتمية الغاء احدها للآخر. كان معظم ما فيها، يبدو غريبا وغير خاضع لأية حسابات. “القاعدة” وجدت بين اقضية الانبار وقراها، مكانا نموذجيا لتخزين الاسلحة واقامة المعسكرات، كذلك لاستقبال الدعم الآتي من حدود دول مجاورة، لا تفصلها عن المحافظة سوى بضعة كيلومترات. اما التعبئة الطائفية، فقد
نبتت لها آذان وافواه، تردد صداها على امتدادات واسعة.
“المقاومة العراقية” بدورها، وجدت في الأنبار معينا لا ينضب، ارضا وبشرا وإسنادا معتبرا. ومع صعوبة السيطرة العسكرية على محافظة كهذه من جانب القوات الاميركية، وامكان تعاون بعض منتسبي الوحدات العسكرية العراقية – كرها او طوعا – سارت الامور بشكل يكاد يكون نموذجيا، للمقاومة و”القاعدة” على حد سواء. لكن ذلك كان اشبه بزواج قسري املته الظروف، لذا نمت بذور الافتراق بعد معركة الفلوجة مباشرة، ثم في ما تلاها من عمليات ضد العراقيين، جعلت موقف المقاومة هشا ومحرجا. فتلك العمليات لا يمكن تبريرها بدعوى مقارعة الاحتلال، كما انها ضيّقت الخناق على حركة المقاومة ذاتها، حيث انحسر حجم التأييد الشعبي الذي يمكن ان تحظى به مقاومة وطنية، صافية التوجه وواضحة الهدف.
كانت “القاعدة” بانتحارييها وبأموالها الطائلة وفتاواها التكفيرية، اكثر صخبا من المقاومة العراقية بامكاناتها المحدودة، وحركتها المحكومة بنوع من ضوابط يتطلبها كل عمل مقاوم. وعليه تآكل ظهر المقاومة، وصودر قرارها أو تراجع الى حدود محرجة، بل هُدِّدت قياداتها وكوادرها بالقتل – نفذت “القاعدة” ذلك فعلا في الكثير من الحالات – وعليه بدأت
الاوضاع تأخذ منحى خطيرا لم يعد السكوت عنه جائزا.
كانت “المقاومة” تواجه صعوبات هائلة تتزايد باطراد، فقد استولت “القاعدة “على الكثير من مستودعاتها، فيما صادرت القوات الاميركية والعراقية بعضها الآخر. اما قادتها وكوادرها، فهم اما معتقل لدى الاميركي او مهدد من جانب “القاعدة”، وفيما كانت طبول الحرب الاهلية، تقرع الابواب بقوة، جارفة في طريقها العراق برمته نحو الهاوية، بدت “المقاومة” عاجزة عن الخروج من المأزق الذي وجدت نفسها تغوص بعمقه.
ومما زاد في حراجة الموقف، ان قيادة “المقاومة” لم تعد تستطيع كشف نفسها، وتاليا الاقدام على مبادرة علنية ضد “القاعدة”، تلف حولها فئات اكبر من العراقيين، خاصة بعد ان اهتزت صدقيتها – بصمتها او تواطئها مع ما كان يحدث من اعمال ارهابية -، أما المحاولات الخجولة لتسمية ناطق رسمي باسمها، فقد باءت جميعها بالفشل، لذا وجدت “المقاومة” نفسها كَـ”بالع الموسى” المجروح في الحالتين.
كان لابد من حركة تمتلك عددا من المقومات التي تضمن نجاحها: التفاف وتفهم وطنيان – ادامة الزخم الميداني والقدرة على الصمود، شعار جامع يداعب مخيلة العراقيين بتجاوزه الطائفية والانقسام، الذي اصبح كابوسا لجميع المكونات.
كانت اليوميات العراقية الدامية، قد اجبرت حتى اشد المتمسكين بطائفيتهم، على مراجعة الذات، فأقل الحسابات تعقيدا، تشير بأن سفينة العراق غارقة لامحالة. الوطن الذي كان يوما في عداد البلدان الاقليمية الكبرى، اصبح “رجل المنطقة المريض” والدول الاقليمية في معظمها، باتت تشحذ اسنانها لاخذ حصتها من العراق، بعدما خاضت حروبها الخاصة، باجساد عراقية.
وهكذا جاءت المبادرة ممن كان يفترض انها التشكل الاجتماعي الاول – العشائر- التي لا بد للدول المتطورة من أن تتجاوزها نحو بناء أعلى يسمى المواطنة.
في دراسة لكاتب هذه السطور، بعنوان “العشائر العراقية ومشروع الدولة والمواطنة” – نشرت اجزاء منها في هذه الصفحة بداية 2004 -، أشرت الى ان انهيار الدولة العراقية ومعها مفهوم الهوية الوطنية، سيعيد المكونات العراقية الى بنية العشيرة واعرافها. ولما كانت العشائر العراقية تحمل في موروثها التاريخي، شكلا ناضجا نسبيا، لمفاهيم سياسية أفرزها العديد من الثورات والانتفاضات ضد المحتلين – سجل لبعضها الفضل في قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921 – اضافة الى عوامل اخرى تتعلق بالانتساب المشترك للعشائر، والمصاهرات والنخوة وما شابه، فإن ذلك لا بد سيجعل من تلك العشائر، رافعة قوية، تمكّن العراقيين من الركون اليها في محاولاتهم تجنب الحرب الاهلية، وتاليا المساهمة في قيام دولة عراقية بمفاهيم جديدة او متجددة.
لذا لم تكن “صحوة الانبار” مفاجئة، بمقدار ما كانت متوقعة منذ زمن أبكر مما اعلن عنه، لكنها ايضا لم تأت متأخرة تماما، فما زال امامها عمل كثير.
وعلى رغم ان اطلاق اسم “الصحوة”، يمثل اعترافا ضمنيا بالخطأ، حيث انقاد بعض ابناء الأنبار وراء خطاب “القاعدة”، في زمن سابق، الا ان هذه التسمية ينبغي تجاوزها الى مصطلح اخر اكثر ملاءمة، خاصة ان كلمة “انتفاضة” تعبر اكثر عن واقع الحال، فأهل الأنبار قد انتفضوا على ممارسات الارهاب التي لا تقل خطرا عن الاحتلال ذاته، بل هي احتلال من نوع اخر.
انهم يستعيدون بانتفاضتهم هذه، قراراهم ووطنهم وشعبهم، كذلك “مقاومتهم” التي تشوه وجهها كثيرا وآن له ان يغتسل، اما النتائج، فسوف لن تتأخر في الظهور، حيث اصبح أغلب العراقيين، يستندون الى ما فعلته “صحوة الانبار”، لرد من يطالب بالاقتتال الطائفي. انها باختصار “سلاح وطني”.
*بغداد
(نقلاً عن “قضايا النهار”)
عشائر الأنبار هل تنقذنا من الحرب الأهلية؟ كم وددت لو شاركت السيد الكاتب تفاؤله ولكن الواقع يثنينى ويخالف أيضا ما ذهب اليه , فبالرغم من توافر الظروف الموضوعية بل أكاد أقول المثالية , لم ترتق قيادات المقاومة الى مستوى المسؤولية الوطنية فسقطت فى الوباء الطائفى وتجمدت بالتالى فى مواقعها المحلية والجهوية , وكذلك فان صحوة العشائر المزعومة لم تنشئها مثل عليا ولا غايات نبيلة برغم الكلمات المضيئة بالشعارات الوطنية والوحدوية بل أنشأها ذهب المعزّ – الحكومى والأميركى – لتشهر سيفها فأشهرت صوتها ! ولعل فى سيطرة القاعدة ومجاميع اللصوص وقطاع الطرق على طريق بطول 650 كلم بدءا من ضواحى بغداد… قراءة المزيد ..