إنه كتاب ضخم بحوالي ألف صفحة، أو بالضبط 990 صفحة. لكن بالرغم عن ذلك، فإن القارئ لا يستشعر الكثير من الثقل. وقد يَحِلّ في المستقبل مرجعا هاما في أرفف المكتبات لطلاب العلوم السياسية والباحثين في تاريخ الأوضاع السياسية في ولاية كيرالا منذ تشكيلها بعد استقلال الهند من الاستعمار البريطاني.
ويمتد هذا التاريخ إلى عصرنا الحاضر شاملا وكاملا يغطي جميع الأحداث الهامة. وأثناء رحلتنا مع الكتاب نستعذب أسلوب الكاتب السلس، حكائي الطبع، ونستشعر كأننا نجلس أمامه. وهو صحفي بارع يحكي لنا الأوضاع السياسية في الولاية بالتفصيل.
وإعداد كتاب بهذا الحجم ونشره في ظروف موبوؤة بداء الكوفيد التي ترتب عليها ركود شديد في سوق الكتب يُعدّان مغامرة من جانب الكاتب والناشر سويا. لا تتقدم مكتبة إلّا DC لنشر كتاب مثله في ظروف حرجة مثلها. وهذا يدل على اهتمام هذه المؤسسة بتقديم خدمات في مجال نشر العلوم النافعة.
قبل تصفح الكتاب قد يطيب لنا الإطلاع على خلفية هذه المؤسسة. إن “دي سي” ليس بمجرد حرفين، وهي الآن كبرى دور النشر في كيرالا. وهذان الحرفان إختصار إسم رجل له مكانة بارزة في تاريخ نشر الكتب في كيرالا، وكان لمساعيه دور مشكور في إستثناء الكتب المطبوعة من ضريبة المبيعات. هذا هو “دومانيك تشاكو“(1914 – 1999)، أول من أنشأ جمعية تعاونية للكُتّاب حيث جمع رأسمالها منهم لإيداعه في نشر كتبهم يستهدف إنقاذهم من استغلال الناشرين في القطاع الخاص. كانت كبرى دور نشر في آسيا تتميز بتخصيص مكافأة للمؤلفين تبلغ 40 % من قيمة كتبهم الإسمية. تطورت هذه الجمعية بأصول ممتلكات مكونة من فروع في كل عواصم المحافظات في الولاية خلال زمن قصير. وبعد تحقق نجاح باهر نشبت في مرحلة لاحقة إختلافات بين أعضاء الجمعية مما إضطر دومانيك تشاكو للتخلي عن منصبه الرسمي في الجمعية. كان هو روح الجمعية، وكانت نتيجة غيابه تلاشي بريق هذه الجمعية النشطة. أما هو فبدأ مشروعا خاصا له برأسمال خبراته في مجال صناعة الكتب وجعل الحرفين الإنجليزيين في إسمه أيقونة لمشروعه الجديد. هكذا أتت دار نشر “دي سي” في حيز الوجود وصارت رقما لامعا في إنتاج الكتب خلال فترة قصيرة. ولها الآن فروع في جميع المدن الكبرى في كيرالا. تَنشر كتبا أكاديمية قيمة وإبداعات رائعة وترجمة مختارات من الأدب الكلاسيكي العالمي. السيد “رافي“، إبن دومانيك تشاكو، هو الذي يتولى أمور هذه الدار الآن. ويجدر الذكر هنا أن « دي سي » هي التي نشرت في لغة “مالايالام” ترجمة “مختارات من الشعر العماني الحديث” التي إختارها الشاعر العماني الدكتور هلال الحجري. وكتاب ” التاريخ السياسي لكيرالا ريشة ذهبية جديدة على تاج هذه الدار.
وقد سبق لمؤلف الكتاب، “بيجو راج“، نشر بحوث وتحقيقات عن مواضيع مثيرة، منها تحقيقات صحفية عن الكفاح المسلح الذي قام به عمال في منطقة “فايالار” بقيادة الحزب الشيوعي قبل استقلال البلاد. وكُتُبٌ تتناول موضوعات مثل ثورة مليبار بقيادة المسلمين ضد الاستعمار البريطاني والعمليات المسلحة التي قامت بها الشيوعيون المتشددون المعروفون بـاسم “نكسال باري“، وسيرة حياة أمبيدكار، باني الدستور الهندي وقائد المنبوذين في الهند. يقول المؤلف أنه يُحبّ أن يرى سرديته أقرب إلى دفتر لصحفي منه إلى سجل تاريخي. دفتر يحتوي معلومات يمكن طلاب العلوم السياسية من خلالها مراجعة الأحداث السياسية التي تطورت في الماضي والتأكد من صحتها. ويعترف بأن هذا الكتاب ليس محاولة ذات طابع سياسي إجتماعي (ٍSocio Politics) في معنى الكلمة ولا تأليفا يستهدف إلى الكشف عن الحالات الاقتصادية السياسية(Political Economy) في كيرالا، بل محاولة لإلقاء الضوء على جميع الأحزاب السياسية الرئيسة في الولاية، حالاتها ومآلاتها بما في ذلك من صراعاتها الداخلية ومعارك بعضها مع بعض. وهي ثمرة جهد جهيد إمتد إلى خمس سنوات. ويؤكد المؤلف أنه قد سعى ليغطي جميع الأحداث الهامة على قدر المستطاع. حتى أن الأحزاب التي قد لايعرفها الجيل الجديد ورد ذكرها تفصيلا في الكتاب، منها حزب كيرالا الإشتراكي الذي قام بتشكيله “متى مانجوران” بهدف إقامة جمهورية في كيرالا ذات سيادة مستقلة. وكان مانجوران قد ألّف كتابا حول هذا الموضوع. لو كان هذا في عهدنا الحاضر لكان يُعدّ خيانة عظمى.
لم يدخر الكاتب وسعا في الاستفادة من المستندات الرسمية وغير الرسمية مثل أرشيف المجلس التشريعي وأضابير الصحف والمجلات وتقارير اللجان الرسمية ومذكرات السياسيين. كل فصول في الكتاب يمكن تطويرها كتبا مخصصا. ولكن الكاتب يقول إنه قد حذف كما هائلا من أجزاء الكتاب لاختصار حجمه. بالرغم عن ميوله اليسارية في السياسة فقد حافظ على عدم إنحياز تامّ في تحليل الوقائع. ودوره في هذا الشأن يبدو مثل دور عميد الأدب العربي طه حسين حين كتب الجزئين من “الفتنة الكبرى – بنو عثمان وبنو علي” حيث قال إنه لم يكتب هذا الكتاب كمسلم بل كمجرد مؤرخ يسجل الأحداث كما هي ويحللها بدون إنحياز إلى أي طرف من الطرفين في تلك الأحداث.
إن كيرالا من أصغر الولايات الهندية تقع في أقصى جنوب البلاد إلا أن شعبها شعب أكبر وعيا سياسيا بالنسبة إلى شعوب في أخرى من الولايات. ويدلّ على ذلك أن حزب بهارتييا جناتا المتطرف الهندوسي لم يحصد حتى مقعدا واحدا في مجلس الشعب في الولاية بينما إكتسح طوفانه معظم الولايات في الإنتخابات الماضية. وهي في مستوى عال بموجب مؤشر التنمية عام 2020 – 2021. وتوجد في % 98.1 من البيوت في الولاية مرافق المراحيض، الإلمام بالقراءة والكتابة بين النسوان فيها % 97.9، وبموجب مؤشر الشؤون العامة الرسمي هي أحسن ولاية في فن الإدارة، هي الولاية الوحيدة الآن التي يحكمها التحالف اليساري بقيادة الحزب الماركسي، ولكن الحُكم سجال بين هذا التحالف والجبهة الدموقراطية المتحدة بقيادة حزب المؤتمر. وبُعيد استقلال البلاد كان الحزب الشيوعي محظورا بسبب كفاحه المسلح في “تيلونغانا” بقيادة “بي. سوندارايا“. وكان كثير من نشطاء الحزب إختفوا من أعين الناس واختاروا العمل سِرِّيا. وقد تعرضوا لإجرآت قمعية واضطهاد من قبل الحكومة المركزية. ولكن سرعان ما تميز الحزب خطأ هذه الإستراتيجية وتركها. وفي الانتخابات التي جرت في الولاية عام 1957 فاز الحزب الشيوعي بأغلبية كاسحة. كان هذا حدثا تاريخيا، لأن حزبا شيوعيا في العالم كان لأول مرة يصل إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات. (كان الكاتب المصري أنيس منصور ذاك الوقت في زيارة في “تيروفانانتابورام” عاصمة الولاية. ومن الطبيعي أن يثير الحدث في نفس أنيس رغبة في معرفة التيارات السياسية والحالات الاجتماعية السائدة في كيرالا. وقد سجل مشاهداته في كتابه الموسوم بـ” 200 يوم حول العالم“). ولكن الحزب لم يقدر له البقاء في الحكم مدته المحددة. إندلعت ضد الحكومة الشيوعية مظاهرات عارمة بقيادة الجبهة المتحدة الثلاثية المكونة من حزب المؤتمر والحزب الإشتراكي ورابطة المسلمين. فتداخلت الحكومة المركزية في شؤون الولاية الداخلية حتى عزلتْ تلك الحكومة المنتخبة. وكان ذلك وصمة عارعلى جبين جوهر لال نهرو الديموقراطي رئيس الوزراء آن ذاك. إنكسفت فيما بعد أن أيادي خفية من وكالة المخابرات المركزية كانت قد لعبت وراء تلك الاحتجاجات. كانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والسوفيات في أوجها في تلك الزمن حيث لا تحب واشنطن أن يأتي حزب شيوعي على سدة الحكم في أي بلد في العالم. كانت تحاول قلب الحكومات اليسارية في مختلف أنحاء العالم. ولم تتردد في استخدام أي وسيلة من الوسائل لذلك كما ورد في كتاب مايلز كوبلاند (Miles Copeland) ” لعبة الأمم“(Game of the Nations). وقد أشار غالبريت السفير الأمريكي آنذاك إلي بعض هذه الأحداث في مذكراته. يرى المؤلف أن الحكومة الشيوعية إبان حكمها كانت تنتهج نفس السياسة القمعية التي تنتهجها الأحزاب الأخرى في شأن التظاهرات الإحتجاجية وكان ذلك أيضا من العوامل التي أدت إلى سقوطها.
التطورات السياسية في الولاية ورد ذكرها في الكتاب على تسلسل زمني مقسمةً على ثلاثة أقسام. والقسم الأول يتضمن الأحداث منذ تشكيل الولاية حتى إعلان حالة الطوارئ في عهد رئيسة الوزراء الراحلة إنديرا غاندي. وهذه المرحلة تبدأ من عام 1956 وتنتهي في عام 1975. وقد وردت في هذا القسم عنواين عن تشكيل ولاية كيرالا بانفصالها من ولاية “مدراس” (تامل نادو حاليا)، وتشكيل حكومة الحزب الشيوعي بعد حصوله على الأغلبية في أول الانتخابات، وفض تلك الحكومة المنتخبة من قبل الحكومة المركزية إثر الاضطرابات العارمة، والإنشقاق في الحزب الشيوعي بشقين أحدهما مواليا لخط السوفيات والثاني لخط الصين (المعروف فيما بعد باسم الحزب الشيوعي الماركسي). والإنشقاق داخل حزب المؤتمر أيضا حدث في هذه الفترة مسببا لصعود حزب محلي باسم حزب مؤتمر كيرالا، وفي القسم ذاته تقرأ عن عودة الحزب الشيوعي في دوره الثاني بالتحالف مع سبعة أحزاب بما فيها رابطة المسلمين، وعن تشكيل محافظة جديدة باسم “مالابولرام” يكتظ فيها المسلمون بالرغم عن مخالفة الحزب السياسي الهندوسي “جانا سانغهام” (حاليا “بهاراتييا جناتا“)، وعن صعود حزب متطرف من الحزب الشيوعي باسم “ناكسال فادي” الذي ينتهج خط الثورة المسلحة وهجومهم على عدد من مراكز الشرطة والإجراءات القمعية البوليسية ضدهم، وعن تشكيل حكومة باتلاف حزب المؤتمر مع أحد شقي الحزب الشيوعي ورابطة المسلمين والحزب الإشتراكي الثوري وحزب مؤتمر كيرالا وغيرها من الأحزاب الصغيرة، وعن إخراج بعض القياديين مثل “آريان” و“أم. في. راجهافان” من الحزب الشيوعي الماركسي، وعن الإنشقاق داخل حزب رابطة المسلمين، وعن تشريع القانون لتحديد ملكية الأراضي وغيرها. ويشمل هذا القسم 38 فصلا.
كانت حالة الطوارئ التي أعلنتها إنديرا غاندي حقبةً مظلمةً في تاريخ الهند بعد الإستقلال. ألغِيَتْ فيها الحقوق الإنسانية والحقوق الأساسية الدستورية، وأعتُقل قياديوا أحزاب المعارضة على نطاق واسع، وتعطلت أنشطة المعارضة تماما، وكُمِّمت أفواه الجرائد بحيث يصبح الجمهور محرومين مما يجري داخل البلاد. يبدأ القسم الثاني تحت عنوان عريض “إنهيار الديموقراطية واستعادتها” يبحث فيه الكاتب هذا الموضوع بالإضافة إلى 35 موضوعا آخر. هذه الحقبة التي تبدأ من 1975 وتنتهي عام 1990 تعد مرحلة استعادة الديموقراطية وبناؤها من جيديد. يكتب المؤلف: قبل أن يبلغ عمر الولاية عشرين سنة أُختُطِفت الحقوق الديموقراطية وظلت في تلك الحالة قرابة 21 شهرا. وهذه الإنتهاكات لم تكن مقتصرة داخل الولاية فقط بل عمّت جميع الولايات. ظل مجلس التشريع مفوقودة حيويته طوال هذه الفترة. إذا فحصنا المستندات المطبوعة من إجراءات المجلس التي تبلغ 2540 صفحة منذ إعلان حالة الطوارئ حتى سحبِها في 27 مارس 1977 سييأس كاملا من يتمتع بشيئ من الشعور الديموقراطي. وهذه المستندات تُمثِّل عارا كبيرا على أحزاب المعارضة بما فيها حزب الشيوعي الماركسي“. وفي هذه الفترة حصلت رابطة المسلمين على منصب رئاسة الوزراء في كيرالا لأول مرة في تاريخها. ومن الأحداث الهامة في هذه الفترة تدمير المسجد البابري. ومن الجدير بالذكر ان ولاية كيرالا كانت استثناءا من الإضطرابات الطائفية الناجمة عن هذه الكارثة والتي إجتاحت أنحاء الهند. غير أن رابطة المسلمين لم تنج من تداعياتها. كانت في حينه حليفة في حكومة الجبهة المتحدة الديوقراطية التي يقودها حزب المؤتمر. فتزايدت الضغوط عليها للإنسحاب من مجلس الوزراء إحتجاجا ضد الإهمال الشديد في شأن الدفاع عن المسجد من جانب الحكومة المركزية التي يقودها حزب المؤتمر. كانت النتيجة الإنشقاق داخل حزب الرابطة مما تشكَّل حزب جديد بقيادة رئيسها لعموم الهند إبراهيم سليمان سيت. فتحالف هذا الشق مع الحزب الشيوعي الماكسي فيما بعد.
أمّا القسم الثالث من 1990 إلى 2021 فيسجل مرحلةَ التغييرات الجذرية التي تعرضتْ لها الولاية حيث هيمنت على سياسات الحكومات فيها، يمينية كانت أو يسارية، آثار العولمة ونفوذ الشركات متعددة الجنسيات. بانهيار الكتلة الشيوعية العالمية بدت تتبخر دوغمائية حزب الشيوعي في كيرالا كما تم تخفيف بالغ في مواقفها المتزمتة حتى أصبح مجرد حزب سياسي مثل سائر الأحزاب السياسية التي تتكالب للسلطة. شهدت هذه الحقبة لانهيار القيم والمبادئ في جميع أنحاء الحياة في مجتمع كيرالا كما شهدت لعدة نضالات من الطبقات المهمشة للحصول على حقوقهم الأساسية مثل حقوق ملكية الأراضي والعدد المخصص في الوظائف الحكومية. وشهدت أيضا لاستقواء الحركات البيئية والكفاح ضد الشركات العالمية مثل كوكو كولا. وفي هذه الحقبة إضطر الوزير “كونجي علي كوتي” أحد القياديين البارزين في حزب رابطة المسلمين للاستقالة من مجلس الوزراء إثر فضيحة جنسية كما تمت مقاضاة على “بيناراي فيجايان” أحد القياديين البارزين في الحزب الماركسي ورئيس الوزراء في الولاية حاليا فيما يتعلق بتهمة رشوة تسلمها من شركة “لافلين” الكاندية. وينتهي الكتاب بفصل يدور على الدورة الثانية من حكم التحالف اليساري بقيادة الحزب الماركسي الذي انضم إلىيه شق من حزب مؤتمر كيرالا بعد أن ترك الجبهة الديموقراطية. حصل التحالف مرة أخرى أغلبية كاسحة في الإنتخابات التي جرت عام 2021 أبريل. وكان من العوامل الرئيسة في فوزه تأييد حزب مؤتمر كيرالا الذي إنتقل إلى التحالف اليساري من الجبهة الديموقراطية والذي يتمتع بقواعد قوية من المسيحيين والكنائس.
القسم الأول من الكتاب يغطي فترة 21 سنة من التطورات بينما القسم الثاني يغطي فترة 13 سنة والقسم الثالث 31 سنة من أهم الأحداث السياسية. ولم يسقط من قلم الكاتب حدث ذو صلة سياسية طفيفة في هذا الشأن، حتى نرى أنه قد ورد في الكتاب، على سبيل المثال، ذكر الإنشقاق داخل جمعية العلماء لعموم كيرالا التي كانت تواكب مع خط رابطة المسلمين تاريخيا في الشؤون السياسية. الشطر المنشق من هذه الجميعة بقيادة الشيخ أبوبكر كانتابورام الذي نصب نفسه مفتي الهند بنفسه إتخذ سياسة موالية مع الحزب الماركسي فيما بعد لمصالح ذاتية. لا تسمح المساحة لإلقاء الضوء على كل المواضيع داخل الكتاب ولو أن جميعها مهمة جدا.
الكتاب: التاريخ السياسي لولاية كيرالا، المؤلف: بيجو راج،
الصفحات: 990، اللغة: مالايالام، سنة النشر: 2021
الناشر: DC Books، كوتايام