إنّ إحدى أعوص القضايا
الّتي تواجه المجتمعات العربية التي يشكل الإسلام عمودها الفقري هي انعدام ثقافة حساب النّفس. تجدر الإشارة إلى أنّه، وبخلاف مجتمعات أخرى التي تشكّل آليات حساب النّفس ركيزة هامّة في حضارتها ما يمكّن من إجراء تصحيح ذاتي، لا نعثر في المجتمعات العربية على آليات من هذا النّوع. فلا الدّين يزوّد هذه الآليّات، ولا الأنظمة الفاسدة معنيّة بآليّات كهذه، ولا رجال الفكر العرب، ما عدا قلّة قليلة منهم، يزوّدون المجتمع بهذه البضاعة. لقد قضى الشاعر الفلسطيني محمود درويش نحبه منذ مدّة، ولن يستطيع التّطرُّق إلى حرب غزّة الآن. غير أنّه، وقبل أن يفارق الحياة، كان قد نشر، في تموز 2008، قصيدة بعنوان “سيناريو جاهز”، يرسم فيها خطوطًا لسيناريو مفترض عن عدوّين يجدان نفسيهما داخل حفرة. الأوّل هو الشّاعر ذاته الذي يرمز إلى الفلسطيني، والثّاني هو “العدو”، بـ أل التّعريف، دون أن يذكر هويّة هذا العدو. إذ أنّ القارئ سيعرف لوحده من هو العدو المقصود.
وها هي حفرة غزّة
تفغر فاها على مصراعيه ويسقط فيها العدوّان. وها هو الفلسطيني يجد نفسه عاجزًا أمام حالة الكذب على الذّات. ففي مقالة نُشرت في صحيفة “الأيّام” الفلسطينيّة يستهجن الكاتب الفلسطيني هاني المصري شحوب ردّ الفعل الفلسطيني في الضفّة الغربيّة إزاء أهوال القتل والهدم في غزّة: “التحركات الشعبية التي شهدتها الضفّة حتّى الآن، ونحن في اليوم الرابع عشر للعدوان، لم ترتق الى مستوى التلاحم بين الشعب الواحد ولا الى مستوى شلال الدم النازف والمجازر اليومية، وكانت أشبه بالتضامن الذي يجري في أي بلد من بلدان العالم، بل ان الكثير من بلدان العالم تضامنت مع غزة بشكل أقوى من خلال المظاهرات المستمرة المليونية وباشكال متنوعة أوسع كثيرًا مما حدث في الضفّة”، كما يكتب هاني المصري (الأيّام، 10 يناير 2009).
مرّة تلو أخرى تتعالى أصوات
المراثي الفلسطينية على المصير الّذي آل إليه الفلسطيني دون أيّ محاولة لإجراء حساب نفس حقيقي. “نحن عاجزون.. نحن منهزمون…. فاعذرونا يا أطفالنا الموتى”، يكتب عبد الله عواد، في صحيفة “الأيّام” ويُطلق سهام النّقد باتّجاه القيادات الفلسطينيّة: “لماذا لا يذهب مشعل وعباس لغزة؟… هذا ليس سؤالاً خاصاً، وانما سؤال الشعب، سؤال الناس. وهو يقوم على فرضية ان القائد يكون بين شعبه.. دائماً وابداً. ليست شاشة التلفاز مكاناً للقادة ولن تكون، وإنما مكانهم بين شعبهم.. وناسهم.. ومقاتليهم. وحتى اللحظة لم يظهر اي قائد بين المقاتلين او بين الناس”، يصرخ عواد (الأيّام، 8 يناير 2009). أمّا الكاتب الفلسطيني علي الخليلي فيتأسّى على أنّ العرب والفلسطينيّين قد تركوا دور الضحيّة، وأنّهم تركوا هذا الدّور للقاتل الذي يمتلك كلّ هذه القوّة. “والأنكى من ذلك”، يكتب الخليلي هو: “أن يرى العالم، إلا القليل والمهمش منه، هذه الرؤية الإسرائيلية ذاتها، فينقلب الجلاد الواضح بكل جبروته المزلزل، والمتحفز لمزيد من القتل والإبادة، على مدار الساعة، إلى ضحية لا حول لها ولا قوة، إلى الحدّ الذي تستدر فيه العطف والرثاء.” (الأيّام، 8 يناير 2009). ثمّ يعود الخليلي ويؤكّد على إنّه يريد استغلال “محرقة” غزّة من أجل إعادة دور الضحيّة إلى الفلسطيني، لأنّ هذا هو الدّور المخصّص بنظره للفلسطيني مقابل القتلة الإسرائيليّين: “الآن، في محرقة قطاع غزة، هل نشهد صحوة لهذا الهدف، فنرفع الضحية التي هي نحن، إلى منصة القضاة، في مواجهة القتلة والجلادين؟”.
المثقّف الفلسطيني الوحيد
الّذي كتب نقدًا حادًّا ضدّ حماس هو الكاتب حسن حضر. للهجوم العدواني العنيف على غزّة، كتب حسن خضر، أهداف تتخطّى إحراز إنجازات عسكرية هنا وهناك يمكن لإسرائيل أن تصل إليها. إنّ الهدف من ذلك هو إجراء تجارب على الجيل الرّابع من الأسلحة وإجراء تجارب على تكتيكات حربيّة جديدة. كلّ هذه الظّروف للهجمة الإسرائيليّة قد وفّرتها حماس لإسرائيل. يعلم الإسرائيليّون أنّ اللّه حباهم بأعداء مثاليّين، يكثرون من الصخب والبلاغة، كتب حسن خضر، وأضاف: “لـم يكتمل نصاب الظروف الـمواتية نتيجة عطب أصاب الضمير في الإقليم والعالـم، أو حتى نتيجة شطارة الإسرائيليين،… بل اكتمل لأن ميليشيا حماس، لـم تُبق على حلفاء ولا أصدقاء للفلسطينيين شعباً وقضية، وفعلت كلّ ما من شأنه إقناع منْ لـم يقتنع بعد بأن الفلسطينيين هم، في الواقع، غولياث. وبالتالي فهم يحتاجون إلى تدبير أمرهم بالقوّة.” (الأيّام، 6 يناير 2009).
السّطور الأخيرة من القصيدة-
السيناريو الّذي نشره درويش قبل رحيله تنتهي هكذا: “ههنا قاتلٌ وقتيل ينامان في حفرة واحدة / وعلي شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو / إلى آخره”. وها هو، وعقب الحرب في غزّة، يأخذ شاعر فلسطيني آخر، سميح القاسم الذي يعتبر نفسه شاعرًا وطنيًّا قوميًّا – وهو مواطن إسرائيلي وفي قائمة المرشّحين الفخريّين لحزب الجبهة الديمقراطية لانتخابات الكنيست – على عاتقه إنهاء السيناريو. ففي قصيدة بعنوان “موعظة لجمعة الخلاص” يكتب: “أنا ملكُ القُدسِ. لا أنتَ، ريتشاردْ!…/ أنا ملكُ القدسِ. من أوَّلِ النقْبِ حتى أعالي الجليلِ…/ فلملِمْ سيوفكَ. واحزِمْ دروعكَ. ريتشارد / وباشِرْ رحيلَكْ. / ستنزلُ أنتَ.. لأصعَدْ… / … أنا ملكُ القدسِ. دعْ لي الصليبَ / ودعْ لي الهلالَ. ونجمةَ داوودَ. وارحَلْ… / إذا شئتَ. حيًّا. سترحَلْ / وإن شئتَ. مَيْتًا. سترحَلْ”. (عن: موقع حزب “الجبهة الديمقراطية” الإسرائيلي، 10 يناير 2009) في مواجهة هذه البلاغة المزيّفة والكاذبة، تنتصب كلمات الكاتب الفلسطيني حسن خضر كالمنارة: “وإذا كان ثمة من كوميديا سوداء، فمن تجلياتها أن غولياث الـمزيّف يهدد غولياث الحقيقي بالويل والثبور وعظائم الأمور، معلنًا أن نهاية إسرائيل أصبحت وشيكة، بينما يسدد الأخير إلى أجساد الفلسطينيين اللكمة تلو الأخرى، والطلعة الجوية تلو الأخرى، ويبكي”، يُجمل حسن خصر كلامه (الأيّام، 6 يناير 2009). في قصيدة كان درويش قد نشرها عقب سيطرة حماس العنيفة على قطاع غزّة، ثمّة تطرُّق إلى الكذب الذّاتي الفلسطيني: “كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء! / أن تُصدّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك”، كتب درويش (الحياة، 17 يونيو 2007).
وفي هذه اللّحظة الّتي أخطّ فيها
هذه الكلمات لا زالت مسرحيّة الدّم مستمرّة. يبدو أنّ الممثّلين والجمهور في هذه البقعة من الأرض لا زالوا يطلبون الكثير من الـ “أكشن” في هذه التّراجيديا الغير المنتهية. لذلك، ومن أجل إنهاء هذا السيناريو السّيّء الّذي يكتبه أناس سيّئون في ربوعنا، فإنّ هذا المكان بحاجة ماسّة، وأكثر من أيّ شيء آخر، إلى مُخرج شجاع وحكيم، ليس من صنف المخرجين السينيكاليّين من فصيلة الزّعامات الإسرائيليّة والفلسطينيّة، وذلك من أجل أن يضع هذا حدًّا لعرس الدّم الإسرائيلي الفلسطيني. ولأنّه لا يوجد مسرحيّون ومخرجون حكماء في ربوعنا، فعلى هذا المخرج أن يأتي من خارج هذا المكان، على شكل ضغط دوليّ شديد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ولإقامة دولة فلسطينيّة في جميع المناطق المحتلّة منذ العام 1967، ودفع الجانب الفلسطيني والعربي إلى تذويت حقيقي للاعتراف بدولة إسرائيل، وذلك من أجل وضع حدّ لهذا الصّراع الدّموي. لأنّه بدون ذلك، فأغلب الظنّ أنّ هذه المسرحيّة التّراجيديّة ستخرج في رحلة عروض دمويّة في أطراف العالم الواسع.
القدس 12 يناير 2009