لم ينتبه اولئك الذين بادروا الى احياء ذكرى 29 عاما على انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – “جمّول”، في بلدة عدلون الساحلية الجنوبية، انهم قد يزعجون خاطر البعض.
فالمقاومة، على ما جاء في إنجيلها الجديد، مسلسل “الغالبون” التلفزيوني، هي صناعة إلهية حزبية لم يمسسها غير أهل “النصر الإلهي”، فكيف بمن يتصل اسمه بشيوعيين او مواطنين لبنانيين غير مسجلين في لوائح منزلة من علّ.
لم يدرك انصار الحزب الشيوعي اللبناني في بلدة عدلون ومحيطها ان دورهم في اطلاق المقاومة ولوائح شهدائهم فيها، ليس كفيلا بان يتيح لهم الإحتفال مع اهاليهم ورفاقهم على الارض التي ساهموا في تحريرها قبل 26 عاما. لم ينتبهوا ان ثقافة التشبيح والإلغاء ظاهرة تكتسح كل القيم، وتطيح بكل المواثيق.
فالحزب الشيوعي الذي كاد يفتقد خصوصيته السياسية، بسبب حجم الولاء السياسي الذي اعطاه لـ“سلطة الامر الواقع” – على امتداد الوطن – كما وصف بيان اتحاد الشباب الديمقراطي (المنظمة الشبابية للحزب) في بيانه الاحتجاجي القائمين بالتعديات التي طالت المحتفين بالمقاومة في “عدلون” امس الأول. يفتقد هذه الخصوصية لما سلّف من مواقف سياسية لهذه الجهة بحجة المقاومة وحمايتها ودعمها في مواجهة ما يعتبره من مخططات اميركية واسرائيلية تستهدفها. ويعلم المسلَّفون (بفتح السين) حجم الاضرار السياسية التي تلقاها بسبب هذا الموقف على المستوى الوطني.
كل هذا العطاء الباذخ الى حدّ التبذير، لم يشفع لبعض الشباب الشيوعيين ان يساهموا على طريقتهم في الاحتفال بما يظنون انه خيار السلطة هذه الايام سواء في المؤسسات الدستورية، او في تعبيراتها السياسية والشللية على الارض، وان يستذكروا تضحياتهم واسلافهم وغيرهم من ابناء هذا الوطن في عملية انجاز تحرير معظم الاراضي اللبنانية، وان يستحضروا شهداءهم وشهداء لبنان من يسار مروة الى الدكتور حكمت الامين وابو جمال بدران، وغيرهم المئات من الشهداء الذين سقطوا في مواجهة العدوان والاحتلال الاسرائيلي، الى غيرهم من اسرى انصار وعتليت والخيام…
كل تنازلات “الشيوعي” لـ”حزب الله” لم يشفع لبعض شبابه أن يحتفلوا بمقاومتهم
لم يستسغ “الشبّيحة” هذا الميل الى التذكير والاحتفاء والدعم لخيار المقاومة. فالاخيرة ماركة مسجلة في سيرة “الغالبون” وما عداها من سيَر ليس الا “رجس من عمل الشيطان” يستحق الرجم او العزل. اما التذكير بأن هذه المقاومة كانت انجاز شعب بكل ما فيه من المؤمنين والملحدين، من نساء ورجال وما بينهما، فهو من قبيل التشويش، والمصادرة لصورة احادية تنبذ التعدد والمشاركة.
هذا ما حصل مع الحزب الشيوعي الذي يعرف الجميع موقعه اليوم. ولسائل ان يسأل: ماذا لو كان من “ارتكب” الاحتفاء بذكرى انطلاقة المقاومة تيار يتمايز سياسيا عن قوى الامر الواقع او يختلف معها؟ هل كنا شهدنا سقوط ضحايا الاحتفاء بذكرى انطلاقة المقاومة الوطنية؟ وماذا لو لم يكن للاحتفال علاقة بعنوان المقاومة اصلا؟
انه التهافت الذي يكشف عنه منطق “الشبّيحة”. منطق مسكون بنزعة حزبية وفئوية. ففي بيان “اتحاد الشباب الديمقراطي”، اثر المهرجان المذكور في عدلون: “قامت مجموعات من الأشخاص معروفي الانتماء بالتشويش على مسار المهرجان عبر افتعال إشكالات خارج المهرجان والتعرض له عبر رمي الحضور بالبيض. وما ان انتهى الحفل الفني حتى سارع المعتدون إلى محاولة دخول الملعب للطلب من الحضور والمنظمين المغادرة فوراً، فوقعت بعض الإشكالات العابرة نتيجة هذه التصرفات الغوغائية التي لا تعبّر إلا عن الانحطاط الأخلاقي والفكري لأصحابها. إلا أن حكمة المنظمين جنّبت البلدة مشكلات أكبر كان يمكن ان تحدث لولا استيعاب هذه المجموعات الفوضوية”.
ليس ما جرى في “عدلون” سوى مشهد يزداد في التمدد في معظم البلدات الجنوبية، ويتخذ اشكالا مختلفة جامعها المشترك هو ضخ الكراهية والخوف. وتحت هذا العنوان العريض للمراقب ان يعرف معنى استسهال استباحة الاملاك العامة ومصادرتها. وهو اذا كان له وجه غير مقصود، الا ان النزعة الاستئثارية والشهية المفتوحة على المال والسلطة، بوجه ديني او طائفي او باستغلال مقولة الحرمان والمستضعفين، ساهمت في إطلاق حملات الاستكبار تحت ذريعة الاستضعاف.
وللمراقب ان يرى ماذا تقوم قوى الامر الواقع بفعله، فاذا كان المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى قد ضجّ من حملة نقل الملكية الملتوية على المراكز الدينية من قبل جهات حزبية، فلك ان تتخيل ايها القارىء ماذا يجري للمشاعات في المناطق الحدودية من نهب منظم ومدروس على قاعدة ان المشاع مشاعٌ للاقوى ولمن حرّر… وفي هذا لنا حديث آخر… يأتي قريبا.