القرار الأخير للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية سلط الأضواء من جديد على حقائق الأوضاع العالمية الجديدة، العولمة الراهنة، التي يكاد يتجاهلها الممانعون في منطقتنا إذ يتوهم بعضهم تحقيق انتصارات في مواجهتها، ويتصور آخرون أن “إمبراطورية” العولمة في أيامها الأخيرة، في طريقها للانهيار أمام تصديهم وصمودهم.
العولمة ليست فقط في المجال الاقتصادي حيث يزداد السوق العالمي ترابطاً، أو فقط في المجال السياسي حيث تتوسع مسؤولية مجلس الأمن عن أوضاع العالم حتى يكاد يتحول إلى حكومة عالمية قيد البناء، فالعولمة أيضاً تتقدم في المجال التشريعي بتكامل القوانين الدولية التي تكتسب تدريجياً أولويتها على القوانين الوطنية لكل دولة. والمجال المتمم لهذه القوانين هو السلطة القضائية التي تجعل هذه القوانين واجبة التطبيق، وتضمن عدم إفلات الخارجين على القانون الدولي ومنتهكي حقوق الإنسان من العقاب.
المحاولات قديمة لإقامة سلطة قضائية دولية مكملة للسلطتين الدوليتين التنفيذية والتشريعية. فقد سبق تقديم رجالات الحكم النازي لمحاكم عسكرية دولية عقب الحرب العالمية الثانية، وعطلت الحرب الباردة بين القطبين الاقتصاص من مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، إلى أن عادت العدالة الدولية في التسعينيات مع إنشاء محاكم خاصة لمقاضاة مجرمي يوغوسلافيا السابقة وراوندا وسيراليون ولوكربي والمحكمة الخاصة بلبنان.. إلا أن جميع هذه المحاكم مقتصرة على قضية واحدة ومجال جغرافي محدد ينتهي عملها مع طي ملف القضية التي تنظر فيها، مما أبرز ضرورة محكمة جنائية دولية دائمة تنظر في جميع القضايا المحالة إليها من أي مكان في العالم.
المحكمة الجنائية الدولية (م. ج. د I. C. C. ) التي أنشئت بموجب اتفاقية روما- تموز 1998-، وفعّلت في العام 2002, تشارك فيها حالياً 107 دولة، إضافة لعشرات الدول الأخرى التي وقعت الاتفاقية ولكنها لم تصادق عليها رسمياً. وهي تختلف عن محكمة العدل الدولية، فالأخيرة تابعة للأمم المتحدة ومختصة بالنزاعات بين الدول، بينما (م. ج. د ) مستقلة عن الأمم المتحدة وتنظم علاقتها بها اتفاقية خاصة، وتنظر في قضايا ضد أشخاص ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية أو جرائم حرب وأعمال اغتصاب واستعباد جنسي وإشراك الأطفال في الأعمال الحربية والترحيل الإجباري للسكان، ويمكن تخويلها، في مؤتمر لأطرافها المشاركة يعقد في العام القادم، بقضايا العدوان العسكري واستهداف المدنيين أثناء الأعمال العسكرية..
اختصاص (م. ج. د) لا يتعارض مع الولاية القضائية الوطنية فهو مكمل لها في حالة تقاعسها أو عجزها عن ممارسة واجباتها، أو أن المحاكمات التي أجريت من قبل القضاء الوطني لا تتسم بالنزاهة أو الاستقلالية، أو أجريت بشكل صوري لحماية المتهمين من تقديمهم أمام المحكمة، التي تحقق حالياً بانتهاكات لحقوق الإنسان في: الكونغو، أوغندا، جمهورية وسط أفريقيا، السودان، وتحتجز أربعة متهمين ومنهم قائد المتمردين في الكونغو والنائب السابق لرئيس الكونغو.
حظيت المحكمة منذ إنشائها بتأييد أعداد متزايدة من المنظمات المدنية في العالم والبلدان العربية، ومنها التحالف اليمني والإقليمي من أجل (م. ج. د) والتحالف العربي المقام في القاهرة ويضم خمسين منظمة عربية غير حكومية، ويعملان بالترابط مع التحالف الدولي من أجل (م. ج. د) المؤلف من 2000 منظمة أهلية من ضمنها منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس واتش، تعمل لنشر الوعي بدور المحكمة وتطالب الحكومات بالتصديق عليها.
وقعت على الاتفاقية ما يزيد عن عشر دول عربية إلا أن المصادقة عليها لم تتعد الأربع، وهي الأردن واليمن وجيبوتي وجزر القمر. ويمكن فهم سبب امتناع الأنظمة الشمولية العربية عن التصديق، لخوف مسؤوليها من احتمال تقديمهم لهذه المحكمة لانتهاكاتهم المستمرة لحقوق الإنسان في بلدانهم. وقد ازداد قلق بعضهم بعد طلب مدعي عام المحكمة توقيف أول رئيس عربي بتهمة جرائم حرب وإبادة جماعية لما لا يقل عن 135 ألف من سكان دارفور ودفع مليونين منهم للفرار من ديارهم بعد تدمير قراهم ونهب ممتلكاتهم من قبل ميليشيات مسلحة (الجنجويد) موالية للحكومة ومدارة من قبلها.
أصبحت المحكمة الجنائية الدولية بعد هذه الخطوة الجريئة غير المسبوقة، فزاعة لرؤساء وملوك دول المنطقة، فهرعوا لما يتقنونه من إصدار بيانات الاستنكار من خلال مؤسساتهم الهرمة كالجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي.. وادعوا الشجاعة والممانعة أمام شعوبهم، وأنهم متآزرون في التصدي “للعولمة” التي نبتت أسنانها في مواجهة منتهكي حقوق الإنسان مهما علت مناصبهم وقويت شوكتهم. ولا يستبعد أن هبة الأنظمة في مواجهة قرار المدعي العام هي للاستهلاك المحلي، إذ سيهرعون سراً لعقد الصفقات لإنقاذ مناصبهم وامتيازاتهم.
وتقوم أنظمة ومنظمات بتعزيز الأوهام بإمكانية صد هذه الهجمة للعدالة الدولية بتقديم تبريرات تبدو قوية لمن لا ينظرون أبعد من أنوفهم، ولكنها لا يعتد بها في مواجهة الحقائق، وهي تبريرات تتم عادة باسم السيادة والهوية الوطنية والأمن والقوانين المحلية، المفصلة خصيصاً لاحتياجات القادة “التاريخيين”.
السيادة الوطنية المدعاة مشجب لتعليق الانتهاكات التي يروج لها كشأن داخلي، مع تجاهل أن الشعوب لم تعد ملكية خاصة للطغاة يفعلون بها ما يشاءون، فهناك حساب وقصاص دولي، يمكن تأجيله ولكن لا يمكن تفاديه. وقد ادعى النظام السوداني أن لا ولاية للمحكمة في السودان لعدم مصادقته على نظامها الأساسي مستغبياً من لم يطلع على نظامها، الذي تنص أحدى مواده على أنه يمكن النظر في قضايا ضد شخصيات من دول ليست مشاركة في اتفاقية روما، إذا تمت إحالتها من مجلس الأمن بحسب الفصل السابع، وهو ما حصل بالنسبة لقضية دارفور.
والتبرير “الوطني بامتياز” لعدم التعاون مع المحكمة هو أن أميركا وراء نشاطات المحكمة وتسخيرها للتخلص من معارضي سياساتها، وأن الأمم المتحدة ومجلس الأمن “في جيبها”… وهي تبريرات تنافي الحقائق، فأميركا لم تصادق على اتفاقية المحكمة وعارضت صيغتها بشدة، وطالبت باستثناء جرم العدوان من اختصاصاتها، وحضت دول على عدم تصديق معاهدتها، وحرمت دول أعضاء فيها من المعونة العسكرية، كما أصدرت قانون يمنع تعاون الهيئات الحكومية والمحاكم الأميركية مع المحكمة، ، ويحظر وقف أي شخص لصالح المحكمة ويمنع تحقيقاتها على الأرض الأميركية.
أما تبرير حصانة الرؤساء فهو متهافت حيث نظام المحكمة يمكن من مقاضاتهم إذا علموا، أو يفترض أنهم علموا، أن مرؤوسيهم ارتكبوا جرائم تدخل في اختصاصها ولم يتخذوا أية إجراءات لإيقافها. وهناك تبرير آخر يبدو مقنعاً ظاهرياً، بأن اتهام الرئيس البشير سيعرقل عملية السلام في دارفور، وليكتسب هذا الابتزاز وجاهة ما، صرح مساعده: ” نحن لا نحمي سيادتنا بالحوار والتودد.. ولكننا نحميها بالبندقية..” وهي صورة تشبه نظامه بالنظام العراقي السابق الذي هدد “التتار الجدد” بتكويم جماجمهم عند أسوار بغداد، وعندما جد الجد سلمت بغداد بلا أدنى ممانعة.. المرجح أن الادعاء الدولي سيسهل عملية السلام التي عمل النظام على عرقلتها، فالسلام والعدالة مترابطان ولا يتحقيق أحدهما دون الآخر.
الادعاء على طاغية وجلبه أمام عدالة العولمة يمكن أن يعيد الأمل للشعوب المغلوبة على أمرها بإمكانية التخلص من أوضاعها المأساوية. وما هو مطلوب ليس “الانتفاض” للسيادة الوطنية المدعى انتهاكها، فهي في حقيقتها الراهنة سيادة الأنظمة المطلقة على مواطنيها وتطويعهم بشتى أشكال الانتهاكات لحقوقهم المشروعة.
لقد مضى عهد الإفلات من العقاب، والمطلوب توجيه الضغوط لهذه الأنظمة لرفع قبضتها عن شعوبها ودفعها للالتزام بتغليب المواثيق والعهود الدولية على القوانين المحلية. والعمل لتعديل اختصاصات (م. ج. د ) لكي لا تقتصر على محاكمة الأشخاص، ولتشمل الهيئات الحكومية وغير الحكومية. وتوسيع مجال عملها ليشمل العدوان على الدول والانتهاكات ضد المدنيين أثناء الحروب وضد الحريات الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغير ذلك.. أو إنشاء محاكم دولية أخرى متخصصة بهذه الانتهاكات.. أي عمل كل ما يمكن لتحويل العالم إلى مكان غير آمن للطغاة.
ahmarw6@gmail.com
• كاتب سوري- دمشق
عدالة العولمة
العولمة…او حقيقة ألأمركة لاتمت للعدالة بصلة,هي عدالة زائفة تطبق فقط على الضعفاء،الذين يغردون خارج السرب ألأميركي،اذ اين عدالة العولمة في التعاطي مع الجرائم الصهيونية والابادة اليومية بحق الشعب الفلسطيني،بل اين عدالة العولمة في التعاطي مع جرائم جورج بوش والادارة الأميركية في العراق وباكستان؟؟؟الحق ماسنه القوي بسيفه….فلحده التحليل والتحريم.
عدالة العولمةالحوار بين الديانات…مغلق! د. خالص جلبي الحوار بين الأيديولوجيات والأديان في العادة طريق مغلق؛ لوجود عقبة لا يمكن تجاوزها، من الشعور بامتلاك الحقيقة، كل الحقيقة، وكامل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، وعند الآخرين لا حقيقة؛ بل باطل من القول وزور. وحين نقول تجتمع الأديان لحرب الإلحاد؛ فكل صاحب ديانة يعتبر بقية الديانات إلحاداً؛ ولم تشتعل حرب في تاريخ البشر كما شنها أصحاب الأديان والأيديولوجيات، ضد بعضهم البعض، من الحروب الدينية البغيضة بل والعالمية، بين الشيوعية والنازية والفاشية. ولعل أفظع وأطول حرب دينية في التاريخ كانت الحروب الصليبية التي شنها الأوروبيون ولمدة 171 عاماً في سبع حملات صليبية، بين عامي… قراءة المزيد ..