قبل أشهر قام “الشفّاف” بترجمة “شرعة 08” الصينية، التي وضعها 300 من المثقفين الصينيين وبعضهم موظفون حكوميون. الـ300 مثقّف، ممن يمكن إعتبارهم من أبناء الثورة الصينية أدانوا نظام الحكم في بلادهم من كل جوانبه، وطالبوا بنظام ديمقراطي ليبرالي مستوحى من أعرق تقاليد الليبرالية الأوروبية. في المقابلة التالية، ينتهي إبن الثورة الإيرانية، المفكر “الديني” (كما يسمّى نفسه) الدكتور عبد الكريم سروش إلى نفس النتيجة التي توصّل إليها المثقفون الصينيون. وهو يعرّف الديمقراطية الليبرالية بأنها نظام تغلب فيه الحقوق على المسؤوليات.
الدولة الليبرالية التي يطالب بها عبد الكريم سرّوش هي نقيض “الدولة القوية” التي يحلم بها السيدان حسن نصرالله وميشال عون! دولة عبد الكريم سرّوش دولة “ضعيفة” في مجتمع مدني قوي. وسرّوش يعرف عما يتحدث. فهو يقول أن إيران كانت انتهت إلى مصير “طالباني” لولا معارضة المفكرين الدينيين، ولو أنه يختار نعتاً أكثر “حداثة” لأحمدي نجاد، وهو نعت “فاشي”. أما رأيه في “الحكومة الإسلامية”، بنموذجها الإيراني، فهو أنها “الحكومة الاكثر فساداً على وجه الأرض”!
حتى حينما يتحدث العرب عن “الخطر الإيراني”، فلا مفرّ من ملاحظة أن حضارة إيران العريقة، وخصوصية التشيّع العربي والإيراني (الذي احتضن “الفلسفة” وظلّ يدرّسها في “الحوزات” حتى حينما اعتبرت الفلسفة “زندقة” في الجناح “السنّي” من الإٍسلام) ، يمكن أن تفاجئنا في مستقبل قريب أو أبعد بتحوّلات كبرى بالإتجاه الديمقراطي. النخبة الإيرانية لم تقل كلمتها الأخيرة بعد، رغم القمع الذي يمارسه “الباسداران” و”الباسيج”، وفد تحقّق هذه النخبة “ثورتها المخملية” (تمثّلاً بـ”الثورة المخملية” للمثقفين التشيك التي أسقطت النظام الشيوعي) التي يعتبرها السيد خامنئي أكثر “كوابيسه”. نظام الملات والفاشية الدينية محكوم بالسقوط، في طهران كما في.. بيروت.
“الشفاف”
*
أثناء حملة الإنتخابات الرئاسية التاسعة في إيران في العام 2005، وقبل مزحة “مهدي كروبي” بأن قضاء قيلولة لبضع ساعات في يوم الإنتخابات يمكن أن يغيّر النتيجة وأن يسمح لأحمد نجاد بالحصول على الأغلبية، كان الدكتور عبد الكريم سروش قد صرّح في مقابلة مع “روز” بأن أنصار أحمدي نجاد لا يستحقون سوف نعت واحد وهو: الفاشية. وبعد مرور 4 سنوات، يعود الدكتور عبد الكريم سروش ليقول في هذه المقابلة الجديدة مع “روز” أن “الشخص السيء يجد أسوأ سلاح في الدين لكي يرتكب أسوأ الجرائم بإسم الدين، وليقتل البشر، وليمارس التعذيب، والإرهاب، وكله بإسم الله”. ويضيف أن لعبة الإنتخابات هي لعبة الديمقراطية وأن الديمقراطية تبدأ دائماً من موقع ضعيف وتقويّ نفسها بالتدريج”. نص المقابلة:
روز: سأبدأ هذه المقابلة بما يتراءى من إهتمام غربي بما تسميه أنت “الصحوة الإٍسلامية”. هل هذا صحيح، ولماذا؟
عبد الكريم سروش: نعم ولكن، لسوء الحظ، فإن اهتمام الغرب بالإسلام وبالصحوة الإسلامية لا يقوم على أساس سليم. أعني أنه انطلق من نقطة لا نستستغيها نحن، حيث أنه انطلق من “الطالبان”. ويعني ذلك أن هوية الغرب تواجه الآن هويّة جديدة تتمثّل في هوية “الطالبان” المتحدّية. في جميع الأحوال، فعالم الإسلام يعيش الآن طوراً غريباً، وقد لعبت الثورة الإيرانية، وما تزال تلعب، دوراً في هذه الظاهرة. أنا لا أزعم أنه ينبغي لنا أن ننسب كل الآثام إلى هذه الثورة، ولكن ليس هنالك شك في أن هذه الثورة قد أعطت المسلمين الشعور بامتلاك هويّة جديدة، والشجاعة للتعبير عن هذا الشعور. الجانب المؤسف هو أن البحث عن الهوية يتمّ عبر التحدّي. والأمر يشبه حال شخص يريد أن يعبّر عن شخصيته إزاء شخص آخر غير أنه لا يستخدم العلم لهذا الغرض لأنه لا يملك علماً، ولا يُظهر ثروته لأنه لا يملك ثروة، فلا يبقى أمامه سوى أن يستخدم عضلاته وحدها، أو قوّته. وهذا كل ما لديه. إن ما يشاهده العالم لدى “الطالبان” ليس سوى هذه القوة العضلية نفسها، أي العنف كما نعرفه. وتبعاً لذلك كانت هذه هي القضية المركزية التي يراها الناس حينما ينظرون إلى الإسلام. لكن علينا أن نستفيد من هذه الفرصة لنبيّن للعالم أن الإسلام ليس ما يتراءى له. جاء في القرآن أنه حينما تهطل المياه من السماء وتشكّل أنهاراً، فإن الزبد يطفو على سطحها. الإكتفاء برؤية الزبَد ليس علامة حكمة. ينبغي على المرء أن ينظر الى المياه الأعمق، وأن يضع الزبَد جانباً، وأن يسبح في المياه الصافية.
روز: وضعك معقّد وصعب. من جهة، عليك أن تقول للغربيين أن الإسلام ليس مجرّد زَبّد (يطفو على السطح) وأن هنالك مياها تحته. ومن جهة أخرى، عليك أن تقوم للمسلمين الذين يشكّلون هذا الزّبّد- وعددهم ليس قليلاً- أن هنالك مياهاً كذلك.
سروش: تماماً. والواقع أنه أكثر صعوبة أن تواجه الخصوم المسلمين لأنهم يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء وأنهم يملكون أرضهم التي يسعى ىخرون لانتزاعها منهم مما يجعلهم أكثر مقاومة. مع ذلك، لا بد من القيام بعمل ما. أعتقد أن المثقفين الدينيين قد تقدّموا بصوت جديد ورسالة جديدة. وقد أحرزوا أهمية واجتذبوا قدراً من الإهتمام، وتبعاً لذلك فإن العقول المنطقية باتت تقبل فكرة أنه يمكن أن يكون هنالك نوع مختلف من المسلمين وأن هنالك، فعلاً، نوعاً مختلفاً من المسلمين.
روز: ما هو هدف أشخاص مثلك يمثّلون الناطقين بلسان مثل أولئك الأفراد، ويملكون تأويلاً دينياً مختلفاً؟
سروش: حسناً، لا يمكننا أن نُخرِجَ الدين من مجتمعنا ولا نريد ذلك. إن الدين جزء من هويّتنا، من ثقافتنا، من معتقدنا ومن مُثّلِنا. طبعاً، حينما يتوصّل مجتمع بأكمله أو أغلبية فيه إلى قناعة بأنها ترغب في أن تنبذ الدين، فإن الوضع يصبح مختلفاً. ولكننا لا نناقش مثل هذه الفرضية الآن. نحن نتحدث عن وضع قامت فيه ثورة بإسم الدين وآظهر فيه الناس أنهم، رغم الفوارق بينهم، يتمسّكون بقوة بمنظومة المعتقدات هذه. ولكن، كما قلت سابقاً، فإن منظومة المعتقدات هذه ليست سوى مياه موحلة جارية ولا بدّ من تطهيرها. إن الزّبّد الذي يطفو على السطح عميق، أي أنه ليس شيئاً يمكنك أن تزيله في ليلة أو في سنة واحدة. إن الزّبّد يبدو أحياناً وكأنه هو المياه نفسها. ويعني ذلك أن على المجدّدين الدينيين أن يفسّروا بأن الدين نفسه ينبغي أن يخضع للإصلاح.
روز: لماذا؟
سروش: لأنه يحقق منافع إلهية. لو لم أكن أعتقد أن هنالك في الدين خيراً يفوق جوانبه السيّئة، لما كنت أؤمن بهذا الدين. أنا أعرف أن الإيمان بدينٍ ما له جانبه السلبي كذلك. وهو بالفعل كذلك. لا يوجد في هذا العالم شيء يخلو من جانب سلبي. ولكننا لم نفقد الإمل في البشرية. في الحساب الأخير، الخلاصة التي توصّلنا إليها هي أن الإنسان مصدر للخير أكثر مما هو مصدر للشر. لا ننكر أن البشرية قامت ببعض الأعمال السيّئة بإسم الدين كذلك.
روز: حينما تتحدّث عن منافع، فأنت تتحدث عن مسائل شخصية في حين أن هنالك أوضاعاً يصبح فيها الدين أداة لأهداف سياسية..
سروش: حسناً، أنا أعرف الجوانب السلبية للتديّن. ولكنني أعتقد بالمقابل أن الجوانب الإيجابية والسلبية الموجودة في أي دين تتواجد كذلك في أي فكر سياسي، ولكن بطريقة أخرى. بكلمات أخرى، العلمانية كذلك تسبّبت بكثير من الضرر. من شنّ حربين عالميتين كانوا مفكّرين علمانيين ومؤمنين بالعلمانية ولم يكونوا مفكّرين دينيين. وعدد القتلى في هذين الحربين يعادل قتلى كل الحروب السابقة. إن العديد من الحكام الديكتاتوريين في العالم كانوا أفراداً غير متديّنين.
روز: الفارق هو أنك إذا لم تكن متديّناً (في دولة دينية) فإن الجماهير المتعصّبة والدولة تكون ضد الفرد.
سروش: ليس الأمر كذلك، فلو عشت في روسيا في عهد ستالين، فإنه كان بإمكانهم أن يقولوا أنك لست شيوعياً وستكون العاقبة سيئة كذلك. ما أسعى لقوله هو أنه ينبغي اعتبار الإنسان فوق ذلك وأبعد منه. إن الحكمة أكثر أهميةً من الإيمان بدين. مع الدين، يمكن لإنسان طيب أن يصبح أفضل في حين أن الشخص السيء يصبح أسوأ. هذه نقطة مهمة. وهذا يشبه الخمر. الخمر يعرّي الإنسان. هنالك خمر حتى في الجنة، مما يعني أن الخمر موجود في مكانه المناسب حيث يمكنه أن ينجز أعمالاً بنّاءة. لقد سألني أحدهم لماذا يتوفّر الخمر في الجنّة في حين أن الدين يحرّمه بشدّة على الأرض. وكان جوابي له هو أن تلك هي النقطة بالضبط. فلأن هنالك أفراداً طيبين فحسب في الجنة، فإن الخمر يزيد في طيبتهم. أما في هذا العالم، حيث يتعايش الخير والشرّ جنباً إلى جنب، فقد حرّم الله الخمر فيه. وهذا المثال ينطبق على الدين. فهو يجعل الشخص الجيّد أفضل والشخص السيْ أسوأ. الدين أسوأ أداة للشخص السيء لأنه يصبح قادراً على ارتكاب أسوأ الأمور بإسم الدين. فيكون بوسع أن يقتل، وأن يعذّب، وأن يمارس الإرهاب، وكله بإسم الله. أما في أيدي الأشخاص الجيّدين، فإن الدين يمكن أن يكون أفضل أداة لبلوغ الطيبة. نحن نغسل أنفسنا بالماء، ولكن علينا أن نبقي المياه نظيفة. ونحن نغسل أنفسنا بالدين، ولذا فعلينا أن نبقي الدين نظيفاً كذلك. الدين يمكن أن يتعرّض للتلوّث بدوره، ويمكن له أن يلوّث عالماً بأسره.
روز: ولكن حينما يصل أشخاص جيّدون إلى مراكز في السلطة، فإنهم بدورهم يمكن أن يصبحوا أشخاصاً سيّئين لأن ذلك طبيعة السلطة، ويمكن لهم أن يعملوا لتوسيع سلطتهم. وسرعان ما لا يبقى أمامهم سوى خيار سلب الناس إمكانية تطهير دينهم. والسؤال الحقيقي، إذا، هو: هل يمكن مزج السلطة مع الدين؟
سروش: ما تسألني عنه في الواقع هو يمكن لنا أن ننكر على المتديّنين إمكانية ممارسة السلطة والتعاطي بالسياسة. إذا كنت أنا شخصاً متديّناً وأشارك في الصراع ضمن نظام ديمقراطي أو إذا كنت أكافح ضد نظامٍ توتاليتاري، فهل يملك أحد الحقّ لأن يقول لي أنني لا أملك مثل هذا الحق؟ السؤال المهم هو ما الذي يُفتَرَض أن أقوم به على المستوى العملي؟ بكلمات أخرى، الإيمان بأي دين لا ينبغي أن يشكّل حاجزاً يحول دون الوصول إلى السلطة.
روز: ولكنك تحدثت عن نظام ديمقراطي؟
سروش: نعم، لا ينبغي أن تكون السلطة إستبدادية، ولا ينبغي لأحد أن يحرز السلطة من معتقداته الدينية.
روز: من أين يحرزها، إذاً؟
سروش: من الناس ومن السياسات السليمة. مع ذلك، لا ينبغي حرمان أحد أي شيء لمجرّد أنه يؤمن بشيء معيّن. في أي حال، ينبغي أن ترسم القوانين والنظم حدودَ السلطة بدقّة.
حكومة رجال الدين هل الحكومة الأقل أخلاقية على وجه الأرض
روز: هل ينبغي أن يمتزج هذا القانون بالدين، كما هو الحال في بلادنا؟
سروش: ينبغي أن يتوفّر في القانون شرطان: ينبغي أن يقبله الناس، وينبغي ألا يخرق حقوق الإنسان. طبعاً، “الشرعة الدولية لحقوق الإنسان” ليست قانوناً إلهياً لا يمكن المساس به.. فمن الممكن تعديله وتغييره. أعتقد أنه إذا توفّر هذان الشرطان عند وضع القوانين، فأياً كان الشخص الذي سيصل إلى السلطة فستقوم حكومة إنسانية ومقبولة شعبياً.
روز: هل تسمّي مثل هذه الحكومة حكومةً ديمقراطية؟
سروش: أسمّيها حكومة علمية وأخلاقية.
روز: ماذا تشعر حينما تسمع تعبير “حكومة إسلامية”؟
سروش: إذا كان المقصود بعتبير “حكومة إسلامية” هو حكم رجال الدين، فأنا أعتقد أن مثل هذه الحكومة ستكون الحكومة الأقل أخلاقية على وجه الأرض. ففي حكم رجال الدين، لا يعتبر رجال الدين الديكتاتورية باعتبارها حقاً لهم فحسب، بل ويعتبرهم واجباً عليهم كذلك، وذلك هو أسوأ أشكال الإستبداد وأكثره وحشية. أما بالنسبة لتعبير “الحكومة الإسلامية”، فليس عندي مشكلة معه. يمكن أن تقوم حكومة إسلامية. ولكننا نقوم بكل شيء بصورة معكوسة. الخطأ في إيران هو أنهم كانوا يعتقدون أنه لا بدّ من رؤية الإسلام بعيون الفقه الذي، بدوره، ينبغي أن يُنظرَ إليه من منظار القوانين الجزائية. باختصار، فُرِضت علينا وجهتا نظر مشوّهتان. الحقيقة هي أن الإسلام لا ينحصر بالفقه الإسلامي ولا بشرائعه الجزائية. من يعتقد بذلك يكون مخطئاً. ما حدث هو أنهم أعلنوا أولاً أنهم يريدون حكومة إسلامية قبل أن يضعوا فقهاً لها ثم شرعوا بقطع الأيدي والأرجل، وبرجم الناس حتى الموت، إلخ. هذا بالضبط ما حدث في بلادنا. “الطالبان”، كذلك، عرّفوا النظام الإسلامي بنفس الطريقة، وتبنّى العالم هذا التعريف. ولكن، إذا كانت الحكومة الدينية تعني أن الناس سيكونون قادرين على ممارسة معتقداتهم الدينية بحرّية، فإن ذلك يعني خلق مناخٍ صحي يمكنني فيه أن أملك تأويلي الخاص للدين، وطريقتي الخاصة للتواصل مع إلهي، والحياة الأخلاقية التي إختارها بنفسي. أنا أعتبر ذلك أفضل مناخٍ ممكن، وأعتقد أن على الحكومة الدينية أن تخلق مثل هذا المناخ بدلاً من أن تقوم بقطع الأيدي، وسمل العيون، ورجم الناس، وبدلاً من أن تعتبر مثل هذه الأعمال ضرورات دينية.
سأكون صريحاً جداً معك وأقول أن بعض رجال الدين عندنا لا يختلفون عن “الطالبان”. ما فعله المفكّرون الدينيون الجدد في إيران هو أنهم ألحقوا العار بمثل رجال الدين هؤلاء، وبوجهات نظرهم. أي أنهم لم يسمحوا لهم بتطبيق وجهات نظرهم، وهذا ليس إنجازاً ضئيلاً. أعتقد أن ما لم يتوفّر في ظل “الطالبان” كان مثل هذا النشاط الفكري الديني. ببساطة، لم يكن بينهم مثل هؤلاء المفكّرين. ولذا، فقد نشروا الأيديولوجية الوحيدة التي كانوا يملكونها، وفرضوها على المجتمع.
في حالة إيران، فالمسألة ليست أن رجال الدين- وأنا لا أعني، بالطبع، رجال الدين كلهم- لم يكونوا يريدون ذلك، بل أنهم لم يتمكّنوا من فرض مثل هذا الوضع على المجتمع. فقد تصدّى لهم قسم كبير من المجتمع الإيراني وكبح زخمهم وحرمهم بالتالي من إمكانية فرض وجهات نظرهم على المجتمع. ولو لم يحدث ذلك، لكنت شهدت في إيران أيضاً مزيداً من السلوك الطالباني. وهنا يحسن بنا أن ندرس رجال الدين كجماعة. في “قم”، واحد من كبار رجال الدين، وهو معروف بأفكاره المنفتحة جداً، قال لي وبصراحة أن من الأفضل ألا أعبّر عن أفكاري أمام الناس بل أن أناقشها معهم، أي مع رجال الدين. بكل هذه البساطة، وبكل هذه القطعية. دعوني، إذاً، أحلّل موقفه هذا. موقفه يعني أن هذه الجماعة من الناس (رجال الدين) تريد أن تظلّ مقفلة وسرّية. وهو يعني أن الناس ليسوا جديرين بالثقة، ولذا فلا ينبغي تشجيعهم على نقاش قضاياهم مع رجال الدين. من جهتي، أنا أزعم أن أحد مهام المثقف الديني هو، بالضبط، أن يسلّط الضوء على العلاقة مع الحكومة. من وجهة نظر رجال الدين هؤلاء، فمثل هذا الإنفتاح يمثّل خطيئة كبرى ولا يمكن التسامح إزاءه.
روز: يتراءى أن القدرة على إبداء وجهات النظر في ما تقوم به الحكومة (وعلى طرح القضايا والمطالب بوضوح) محصورة بالمفكّرين الدينيين وبمن يفهمون لغة الحكومة؟
سروش: نعم. الحكومة تدرك ذلك جيداً. وهي تعرف أن المفكرين الدينيين الحداثيين هم الوحيدين القادرون على توعية الناس حول الوضع الحكومي. وبالطبع، فقد دفعنا ثمن ذلك.
روز: لنتحدث عن إنتخابات الرئاسة المقبلة. ما المطلوب بنظرك؟
سروش: بعض أصدقائي يقولون أنهم ينبغي لنا ألا نشارك في الإنتخابات. لكنني غير مقتنع بحججهم. أنا أفهم ما يقولونه، وأفهم المنظور الذي ينطلقون منه. فهم يعتقدون أن النظام هو الذي يصنع هذه الإنتخابات، وبالتالي فإن الدخول في اللعبة هو لمصلحة النظام…
روز: بمعنى أن الإنتخابات تعني الإعتراف بشرعية النظام؟
سروش: نعم. ولكنني حينما سألتهم عما ينبغي أن نفعله، لم يكن لديهم جواب. ليست هنالك طريقة أخرى، إلا إذا كان المرء يفكّر في ثورة، أو في الإطاحة بالنظام، إلخ. وقد رويت لبعض أصدقائي قصة رجل يحفر حفرة ثم يحتار عما سيفعله بالتراب الذي استخرجه منها. فاقترح عليه صديق له أن يحفر حفرة أخرى ويضع فيها تراب الحفرة الأولى. وأترك لكم أن تتصوّروا بقية القصة.. فقد قضى بقية حياته وهو يحفر حفراً ليطمر تراب الحفرة السابقة. وقد قلت لأصدقائي أننا قمنا بثورة واستخرجنا كمية كبيرة من التراب من حفرة المجتمع. ونحن الآن نواجه مأزق ماذا نفعل بالتراب الذي استخرجناه. وقلت لهم أنهم في الواقع يطالبوننا بحفر حفرة أخرى، ولكن السؤال يظل هو نفسه: ماذا سنفعل بالتراب من الحفرة القادمة؟ لا نستطيع أن نمضي حياتنا في حَفرِ الحُفَر.
روز: البعض يردّ أن حفر حفرة (أي بئر) قد لا يسمح بالوصول إلى طبقة المياه ولكنه يُشغِل الناس وقد يحقق لهم بعض الفوائد؟
سروش: ولكن هنالك وضعاً أسوأ وهو أن لا يحقّق ذلك فوائد لأحد وأن يغرق الجميع في البئر. الحقيقة أننا لا نستطيع أن نواصل حَفرَ الحُفَر. والحقيقة هي أن علينا أن ننخرط في اللعبة وأن نقوّيها إلى درجة أن تحقّق نتائجها فوائد حقيقية. بكلام آخر، علينا أن نصل إلى نقطة إيجابية نسبياً لأنه يستحيل تحقيق المُثُل. أن الديمقراطية المثلى غير موجودة في أي مكان. وعلى المرء ألا يبحث عن النقاء المطلق وعن المثال الأعلى في هذا العالم. لهذه الأسباب، وسواءً في إيران أو في الخارج، فقد لاحظت أن دعوات المقاطعة قد اختفت. بل أن بعض أكثر دعاة المقاطعة تشدّداً، يقولون اليوم أنهم لن يصوّتوا ولكنهم لن يطالبوا غيرهم بعدم التصويت. أنا أعتقد أن لعبة الإنتخابات هي لعبة الديمقراطية، والديمقراطية تبدأ دائماً من نقطة ضعيفة ثم تكتسب القوة بالتدريج. لا ينبغي أن نتوقع ديمقراطية كاملة منذ بداية الطريق. طبعاً، أنا لا أقصد أنه ليس هنالك فارق بين من يمكن أن يصلوا إلى السلطة. هنالك فرق. آمل من كل قلبي أن لا ينجح أحمي نجاد. لقد أساء كثيراً إلى إيران، وكذب كثيراً على الشعب. وقد نشر كثيراً من الخرافات، وأهدر قدراً كبيراً من أموال النفط.
روز: من هو مرشّحك المفضّل للإنتخابات الرئاسية؟
سروش: السيد كروبي. خصوصاً أنني لا أجد أية رسالة في ما يقوله السيد موسوي. كما لا ألاحظ شيئاً خاصاً في ما يفعله. وأعتقد أنه لم يتخلّ كلياً عن أفكاره القديمة. ومع أنه يعرض أفكاراً جديدة أحياناً، فإن جذورها تعود إلى نفس الأفكار القديمة، وهنالك جذور مثيرة للقلق في ما يقوله. وعلى المستوى العملي، فقد تنحّى واكتفى بالتفرّج على القسوة والوحشية من غير أن ينبس بكلمة واحدة.
روز: إذاً، لماذا يؤيّده السيد خاتمي؟
سروش: هذا موضوع يثير تساؤلاتي. بل إنني لا أفهم لماذا أعلن بعض أصدقائنا تأييدهم للسيد موسوي. ومن منظور سياسي، فإن ذلك يثير حيرتي كلياً. ولأكون صريحاً معك: أنا لا أحب شخصاً يعود إلى السياسة زاعماً أن لديه رسالةً فكرية. إن على شخص يملك التصميم على العمل أن ينزل إلى الميدان.
روز: المشكلة هي أن الناس يزعمون أنه حتى لو عاد السيد كروبي إلى السلطة، فإن المشكلة ستظلّ هي نفسها.
سروش: يتوقّف الأمر على ما نتوقّعه من رئاسة الجمهورية في إيران. توقّعي الشخصي هو أن المناخ العام يمكن أن يشهد قدراً من الإنفتاح بحيث يتاح للمفكرين والإصلاحيين أن ينشطوا داخل المجتمع المدني. ويمكن أن تصبح وسائل الإعلام أكثر حريةً، وأن يشعر الناس بقدر أكبر من الحرية، وأن يبتعد شبح الحوف عنهم. كما يمكن أن يصبح القضاء أنظف. مثلاً، أنا لم ألاحظ في تصريحات السيد موسوي أية تلميحات، أو أية حساسية خاصة، حول ما يجري ضمن السلطة القضائية. وهذا في حين أن جوهر الديمقراطية والعدالة هو في السلطة القضائية. أن سلطتنا القضائية الحالية، وكما نعرف جميعاً، منكوبة بالفساد. وإذا لم تتوفّر الشجاعة والإرادة للتصدي لهذا الفساد، فلا يمكن تحقيق شيء على صعيد أجهزة الدولة الأخرى.
روز: ولكن رئيس الجمهورية لا يملك سلطة تعيين رئيس السلطة القضائية؟
سروش: ينبغي لرئيس الجمهورية أن يملك الشجاعة لإعلان هذه الأمور. وأنا أوجّه كلامي للسيد كروبي وحتى للسيد موسوي، فإذا وصل أحدهما إلى الرئاسة فعليه أن يتعامل بجدية مع هذه المسألة: إن رئاسة السلطة القضائية ينبغي، هي الأخرى، أن تكون منصباً خاضعاً للإنتخابات. وأعتقد أن ذلك سيسمح بحلّ العديد من المشاكل، وسيتيح كسر إحتكار السلطة. وآمل أن يكون الدستور الذي سنضعه مختلفاً عن الدساتير الموضوعة في أنحاء العالم الأخرى من هذه الناحية على الأقل، وأن يكون بوسعنا أن نقدّم للعالم نموذجاً لعدالة حقيقية. أنا أعتقد أن إصلاح السلطة القضائية يسمح بالتوصّل إلى ديمقراطية حقيقية وإلى حكم الشعب.
روز: إسمح لي أن أعود إلى نقطة تحدّثت أنت عنها في بداية لقائنا وهي أن شكل الحكم الذي تحبّذه هو الديمقراطية الليبرالية. في هذا الحالة، ما هو دور الدين في نظام الحكم؟
سروش: الديمقراطية الليبرالية هي نظام تكون فيه الغلبة للحقوق على حساب المسؤوليات. الليبرالية تعني نموذجاً تكون فيه الحقوق في تنافس مع نموذج المسؤوليات. الديمقراطية الليبرالية تعني نظاماً يقوم على حقوق الناس ويختار الديمقراطية كشكل للحكومة. وحق ممارسة الدين هو أحد حقوق الناس. وهذا يعني أن النظام الليبرالي يضمن لك بالكامل حقّك في ممارسة دينك. أنا ضد العلمانية المناضلة التي توسّع نطاق العلمانية إلى درجة تقييد حق المؤمنين في معتقداتهم الدينية. بكلمات أخرى، العلمانية غير المتسامحة تكون عرضة لنفس الإنتقادات.
Nooshabeh Amiri أجرى المقابلة:
ترجمة: بيار عقل