كان ينبغي لمقالة اليوم أن تكون الجزء السابع من سلسلة عن العام 1979، الذي زُرعت فيه بذور كل ما يحصد الفلسطينيون والعرب والعالم الآن. ومع ذلك، وعلى أمل العودة، إلى هذا الأمر، بعد أسبوع، ثمة ما يبرر التوقّف أمام دلالة وتداعيات، شخصية، استدعاها خطاب ترامب المُتلفز عن القدس.
شاهدتُ، كملايين غيري، خطاب الرئيس الأميركي، وتصادف أنني فرغت، قبل الخطاب بيوم واحد، من قراءة كتاب “حالة دونالد ترامب الخطيرة: 27 من الأخصائيين النفسيين، وخبراء الصحة العقلية، يُقيّمون رئيساً“ الصادر بالإنكليزية في أكتوبر من العام الحالي.
أعرف، طبعاً، أن العرب عموماً يحبّون الشتائم، ولسان حالهم ما قال الأعرابي ذات يوم: “أشبعتهم شتماً وفازوا بالإبل“، وقد رأيتُ على شاشة التلفزيون أشخاصاً يضربون صور ترامب بالأحذية، وهذه طريقة مُقززة، وسخيفة، في التعبير عن الغضب.
لذا، لا تمثل الإشارة إلى الكتاب المذكور محاولة، حتى من طرف خفي، لممارسة رياضة الشتم، وهي الأكثر شعبية في العالم العربي، بل التذكير بحقيقة أن الكلام عن الصحة العقلية لترامب يشغل بال أميركيين مرموقين، ومُحترمين، وأصحاب اختصاص. بين المشاركين في الكتاب أساتذة في جامعة ييل، ومَنْ يعرف مكان ومكانة ييل في الأكاديميا الأميركية، والغربية، يعرف أن الأستاذية هناك تستدعي مؤهلات كثيرة، ليس من بينها مصلحة تحض، بالعصا أو الجزرة، على الولاء للحاكم.
علاوة عليه، لم يُسهم أحد من هؤلاء في تقييم حالة ترامب لأنه يريد شتمه، أو التقليل من شأنه، بل فعلوا ذلك بوصفهم مواطنين، وأصحاب رأي في الشأن العام، دفعهم الحرص على سلامة بلادهم إلى توظيف خبراتهم، ومؤهلاتهم العلمية والعملية، للتحذير من مخاطر محتملة على حاضر ومستقبل تلك البلاد، وعلى العالم.
وبناء عليه، لم أكن قادراً على رؤية ترامب خطيباً، والتحديق في ملامح وجهه، وحركات يديه، ونظرات عينيه، وطريقته في النطق، ناهيك عن تحليل وتأويل مفرداته، في معزل عن قراءة وتحليل 27 خبيراً في شؤون الصحة النفسية والعقلية، كان طازجاً في الذهن. ومع ذلك، لا يرى الناس الأشياء نفسها بعين واحدة، فما ترى يعتمد بالقدر الأكبر على ما ومَنْ تكون، وأين تكون.
فالأميركي قبالة التلفزيون في نيويورك، يرى بعين تختلف عن عين الأفريقي، في برازافيل، أو التركي في إسطنبول، أو المغربي في مراكش، أو الفلسطيني في مخيّم جباليا، أو الصيني في بكين. لا يملك أحد إحصاءات، ولن يتمكن أحد من معرفة حقيقة ما يرى، بالضبط، وكيف يرى، كل هؤلاء.
لذا، لا أتكلّم إلا عمّا رأيتُ، ولا أرى مدخلاً أكثر جدوى من الكلام عن العالم، فكل ما لا يبدأ بالعالم، وما لا ينتهي إليه، لا يُعوّل عليه. وعلى خلفية كهذه: فلسطين وإسرائيل، وبينهما القدس، مجرّد وسيلة إيضاح لرياح أبعد وأعقد تهب على العالم، ولم نملك بعد اللغة، ولا المفاهيم المناسبة، وأدوات التحليل، للقبض على معنى عالم جديد في طور التكوين، قد ينتهي بطرد قيم الحرية، والعدالة، والمساواة، والذاكرة التاريخية، من التداول، والاستعاضة عنها بالعنف السافر الوحشي والمتوّحش، سواء تجلى في أدوات القتل المباشر، أو قانون العرض والطلب في السوق.
ليس من قبيل المصادفة، أو زلاّت اللسان، مثلاً، ألا تزيد الثروة اللغوية للرجل الذي يقرر مصير مدينة مُشبعة بمفردات أرضية وسماوية لا تحصى، عن خمسين مفردة، من نوع “رائع“، “جميل“، “زائف“، و“فاشل“، يُطلقها على أغصان تويتر والناس نيام، وأن يُسقط تعبير “عملية السلام“ عن التسوية المحتملة، والمُنتظرة، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ليختار لها اسم الصفقة، الخارج من لغة السوق.
ولا من قبيل المصادفة أن تتحوّل “الصفقة“ إلى ما يشبه الشأن العائلي، والمهني، وثيق الصلة بالسوق، ليوظّف فيها صهره، رجل الأعمال، إلى جانب شخص آخر يمتهن المحاماة، ويختص في فض النزاعات العقارية. أي: يُختزل كل معنى ومبنى الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي، المُثقل بذاكرة تغطي قروناً من حروب المُقدّس، وتستنجد بكتبه، بوصفه خلافاً على عقارات، يُراد لبعضها، بمنطق ترامب، أن تكون أبدية، إذا أراد لها الإسرائيليون أن تكون كذلك. ولكن أحداً لا ينتصر على أحد في صراع الأبد. فالأبد طويل، عصي على القياس. وللفلسطينيين والعرب، أيضاً، شغف مقيم بالأبد.
والمفارقة، أن ميل الفلسطينيين، والعرب (نتيجة الإعياء، أو الأعباء، لا فرق) للتفاوض على الأبد، لاقتسامه، وربما على أمل العثور على صيغة تحرره من شحنة السم، يُقابل بإصرار إسرائيلي ـ تسكنه خلاصية يهودية تقومنت، ومعطوفة على إنجيلية مسيحية تستعجل نهاية الأيام ـ لا يقبل بأقل من انسحاب الفلسطينيين والعرب، أخيراً، من سباق الأبد، مقابل السماح لهم بالحياة، والتسامح مع أربعة عشر قرناً من تطاولهم عليه. أي: في حين يُطالب الفلسطينيون والعرب، في خطاب ترامب، بنسيان، أو تناسي، أن هذا هو الأبد، يصر الإسرائيليون، وهو معهم، على أن هذا، فعلاً، هو الأبد.
ولنبقَ في العالم. الشخص الذي لا تزيد ثروته اللغوية عن خمسين مفردة، الذي اختار، مؤخراً، أن يُسرج خيله في سباق الأبد، والذي قدّم 27 أخصائيا في علوم النفس، والصحة العقلية، مرافعات تغطي ما يزيد عن 380 صفحة، للتدليل على خطورته على أميركا والعالم، هو نفسه الذي يوحي، مرئياً من جانب فلسطيني، يجلس قبالة التلفزيون، في مدينة تحت الاحتلال، بمدى هشاشة العالم. هو عالمٌ ترامبيٌ، وهش.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني