إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
هنا دارة الشدياق. آرمة تحدد المطرح. بنى والده يوسف البيت عام 1776. أشجار مثمرة مثل الليمون والزيتون تحوط المكان. وعبق التاريخ والفسلفة يزدحم في صور ومخطوطات. نجلس في حضرة الفيلسوف المعلقة صوره في الأرجاء بطربوشه الأحمر ولحيته الكثة. هذا هو أبو النهضة الفكرية ورائد القومية العربية وصقر العرب. تعريفٌ عنه من داخل البيت. فماذا في تفاصيل أهل البيت؟
شارل كميل الشدياق، حفيد أحمد فارس، يدنو من تسعينه. وفي رصيده ثروة لا تقدر بثمن: أعمال ومخطوطات وحياة الأديب الفيلسوف. كل شيء يدل على عظمة رجل لا نعرفه كثيراً يختصره حفيده بعبارة: «لو ولد فارس في أوروبا لدفن مع نخبة العظماء ولنصبت له تماثيل في كل مدن بلاده». لكن، لا نصب لأحمد فارس في لبنان ولا تماثيل. لماذا؟ في الجواب البسيط «لأنه أسلم». لكن، هل هذا هو كل الجواب؟ فلنتعرف أكثر عليه.
العجب حتى يُعرف السبب
والد أحمد يوسف كان «مقاطعجياً»، يلمّ المال ويدفعه للدولة. ويتردد في البيت اسم كتاب «الساق على الساق» الذي كتبه أحمد فارس عام 1845 وترجم إلى الفرنسية والإنكليزية وما زال يباع منه عشرات النسخ دورياً. نسأل شارل الشدياق عنه هو فيجيب «أنا من أحفاد أخيه. كان لأحمد فارس أربعة أشقاء. كانوا على التوالي: طنوس وغالب وفارس وأسعد ومنصور. أنا من سلالة منصور.
وأحمد فارس أشهر إسلامه بعمر 59 بعدما عمل بروتستانتياً». لماذا تبدل حاله؟ عمّا كان يبحث؟ يجيب الحفيد «تأثر الفيلسوف بمن توالوا على لبنان منذ العام 1800، وتحديداً من أتوا وأسسوا الجامعة الأميركية في بيروت. تأثر هو بهؤلاء ومعه أخوه أسعد الذي «قتله» البطريرك يوسف حبيش عام 1827».
قتله؟ يجيب بحسم «فعل ذلك لأنه اعتنق البروتستانتية وكان يشغل منصب أمين سرّ البطريركية. تأثر بالكنيسة الأنغليكانية الأميركية. البطريرك رفض ذلك، وعجز عن إقناعه بالعكس، وبوقف دعايته لتلك الكنيسة، فخُطِف َمن بيته، من هذا البيت في الحدث، ونقل مشياً إلى دير قنوبين بمساعدة المير بشير الثاني عام 1827 ومات في قنوبين ودفن هناك. تعذب ومات. فقامت قيامة فارس وثار على الكنيسة وغادر مع الإنكليز وساعدهم في ترجمة الكتب الدينية. ذهب إلى مصر، قاصداً محمد علي الكبي، صديق شقيقه غالب، واستطاع أحمد فارس، وكان لا يزال «فارساً» من دون أحمد، تغيير الوقائع المصرية من التركي إلى العربي. درس في الأزهر وأحبّ اللغة العربية والعروبة إلى درجة أنه أصبح مسلماً».
نقاطع شارل كميل الشدياق بسؤال: كثيرون اعتنقوا البروتستانتية وغير مذاهب فلماذا حُكم على أسعد الشدياق بالموت؟ يجيب «أحكمي على الموضوع بمنظار تلك الأيام». هل هذه الحادثة هي التي جعلته يعتنق الإسلام؟ يجيب «هو قال لهم (للكنيسة) بتحاوروه، بتنتقدوه، لكن بتقتلوه؟». هل نفهم من هذا أنه فعل انتقاماً لا اقتناعاً خصوصاً أن الإسلام لم يخلُ أيضاً من أحداثٍ من هذا النوع؟ لا إجابة. لكن بعض الإجابة وصلت على قاعدة: الصمت أكثر تعبيراً من كلام كثير. نعود لنسأله: هل انتقد أحمد فارس الإسلام كما فعل في المسيحية؟ يجيب «لم يحكِ بالإسلام». لماذا؟ «لا أعرف وسؤالك في محله». هل فعل ما فعل لأن صدر الإكليروس، حتى لو اخطأ في مكان، رحب أكثر؟ «لا أعرف».
الساق على الساق
نضع «الساق على الساق» ونعود إلى تاريخ الفيلسوف. كان ساخراً في كتاباته. كتب في «الساق على الساق» عن الإنكليز «إذا دعاكم إنكليزي إلى العشاء تأكدوا أن تأكلوا قبل تلبية الدعوة لأن الإنكليز بخلاء».
«أتى الإسلام بأتاتورك بمساعدة أحمد فارس الشدياق». يخبر شارل الشدياق هذا ويشرح «كان أحمد فارس سفير الإمبراطورية العثمانية في بريطانيا. ولاحقاً، طلب منه تغيير الحرف الإسلامي إلى اللاتيني ليلغوا قوة وحضارة وعقيدة وتراث أكبر دولة إسلامية. فأين تركيا اليوم؟ جعلوا منها دولة أوروبية».
هناك اليوم آل الشدياق من المسلمين، فهل يتحدرون من أحمد فارس؟ «لا، أبداً، المسلمون من آل الشدياق لا علاقة لهم بأحمد فارس الشدياق. هو أنجب صبياً وفتاة. ابنته تزوجت من إنكليزي اعتنق الإسلام. أنجبا صبياً ومات ودفن في المدفن الإسلامي في فرنسا. وأولادها الباقون يحملون كنية والدهم «ليغ». فسرتُ مراراً للمسلمين في لبنان من آل الشدياق أنهم لا يتحدرون من أحمد فارس». أيّ شدياق إذاً هم؟ «هم مثل كل العائلات التي تنتقل من منطقة إلى منطقة ويغيّر أفرادها دينهم. هناك آل الشدياق في البسطة بينهم العميد السابق في الجيش اللبناني مروان الشدياق الذي اعتنق بدوره الإسلام. لا قرابة بيننا. نزل إلى بيروت واعتنق الإسلام».
شارل كميل الشدياق أحد آخر عنقود سلالة أحمد فارس ممن ينشرون فلسفته يقول «انا وحدي من اهتم بتاريخه وأحوز المخطوطات التي أنجزها وجمعها عمي فيليب – شقيق والدي – وكان طبيب الملك فؤاد، ملك مصر، الخاص». لشارل الشدياق شقيقان هما سيزار (قيصر) الذي أسس قسم طب العائلة في الجامعة الأميركية في بيروت. وشقيق آخر يعلّم الاقتصاد في جامعات تورنتو الكندية. لكن وحده من اهتم بالتراث ويتحدث عن نفسه «درستُ في مدرسة برمانا. أردتُ الدخول في السياسة، لكن كميل نمر شمعون خاننا. نحن ربيناه وعلمناه وكان والده يصعد في عربة الخيل الخاصة بنا إلى بعبدا حيث مكتبه ككاتب عدل. وكان جدي طبيباً بيطرياً يتنقل ليلاً ونهاراً على عربة الخيل لمعالجة الأبقار في صاليما. وبعمر الثانية عشرة نقلني والدي إلى مدرسة «الآي سي». أتذكر أنني ذهبت بسروال قصير فضحك علي التلامذة «قدّ الجحش ولابس شورت». تطاولوا عليّ بعدما كنت الزعيم في مدرسة برمانا. فضربتهم. وطردت. تدخل صائب سلام وكميل شمعون حتى عدت».
جبهة النهضة العربية
نعود لسؤاله، ما الذي دفعك إلى حفظ مخطوطات وتراث أحد أجدادك؟ يجيب «أنا وطني. هل تعرفين ما هي الوطنية؟ مهمة الدولة معرفة المواطن. وعقيدتي النهضة العربية (شارل الشدياق أسس حزب جبهة النهضة العربية)».
نستطرد بسؤال، ماذا عن علاقة أهل البيت بكميل نمر شمعون ولاحقاً بحزب الأحرار؟ «والدي درس مع كميل شمعون في المعهد الأنطوني الذي أسسه ابن عمّ جدي «اللزم» المدبر يوسف الشدياق عام 1906. والدي يقول إن كميل نمر كان أكبر منه بثلاث سنوات لكنه صغّر عمره من مواليد 1900 إلى 1897. كان دونجواناً. والدي لم يعمل في السياسة. وأنا تخرجت من الجامعة عام 1962. دخلت حزب الأحرار ونظمته وأصبحت أمينه العام. ووقتها أردت الدخول إلى عالم السياسة من باب النيابة. ترشحت إلى الانتخابات عام 1972. لكن كميل نمر شمعون وضع ابنه دوري مكاني أميناً عاماً للحزب ووضعني خارجاً. وأخذ على لائحته بيار دكاش. ريمون إده أخذ بدوره على لائحته إدوار حنين فعملت لإيصال حنين بأصواتي». لماذا تصرَّف شمعون الكبير هكذا؟ يجيب «لأنه كره بيت الشدياق ومن يساعدون الناس. في كل حال سألته عن هذا فأجابني: نكاية بريمون إده. بيار دكاش كان كتلوياً. أخذه وأدخله معه نكاية بريمون».
هل يعقل ذلك بعد كل هذه العلاقة التي يتحدث فيها الشدياق الحفيد بين العائلتين؟ يبتسم قائلاً «أفلس كميل نمر عام 1967 ورهن منزله في السعديات، بعدما اشترى معدات من مال أعطاه إياه الملك حسين، وبدأت الحرب. أفلس. ولم يعد قادراً حتى على تعبئة صفيحة بنزين. أعطاه والدي سيارة «فولز فاكن» هدية ليوفر البنزين فترك «البنتلي» وقاد «فولز». ساعدناه لكنه تخلى عنا».
مآخذ كثيرة لشارل الشدياق و»خبريات» وتأكيد منه «لن أنتخب كميل دوري شمعون المرة المقبلة» لكن فلنعد إلى أحمد فارس الشدياق ومخطوطاته وإرثه «عمي فيليب جمع المخطوطات ونحوز 240 عدداً من جريدة «الجوائب» التي أسسها. وهناك في متحف لندن أربعة أعداد وفي متحف اسطنبول ثلاثة. اهتممت بتاريخ العائلة التراثي والفكري والثقافي. ورثتُ تراثنا وتمسكت به وأحاول نشره. أملك أرشيفاً «ثمنه ملايين». وليس لدي من أورثه إياه. أولادي في الولايات المتحدة الأميركية. وقد أهبه إلى الجامعة الأنطونية».
شهادة مارون عبود
من عمق هذا التراث، ماذا يخبر شارل الشدياق الناس عن أسرار أحمد فارس؟ يجيب «أكثر من فهمه كان مارون عبود وقال عنه: أهم فيلسوف في القرن التاسع عشر. لكن لا تمثال ولو واحد له في لبنان. ومقبرته في الحازميه سرق أحد أعمدتها الرخامية. ويستطرد: كل العائلة أحبته. اعترضت على اعتناق شقيقه أسعد البروتستانتية أما هو فلم يواجه بنفس الاعتراض. ومنذ قتل أسعد توقفنا نحن، آل الشدياق، فترة طويلة عن إقامة جنازات في الكنائس. أصبحنا نقيمها في البيوت. في هذا البيت. وأتذكر أنني يوم زرت البطريرك في بكركي عام 2000 قال لي جاري، وهو قاض يدعى روجيه الشدياق: من قتل أسعد لا نزوره. كان قاضياً متطرفاً».
غريبةٌ هي قصّة الفيلسوف. والأكيد أن لا أحد فهم – أو سيفهم – لماذا حصل ما حصل ولماذا أسلم فارس الشدياق؟ ولماذا قتل أسعد الشدياق؟ وربما قول الفيلسوف سقراط «من صميم الرغبات العميقة تنبثق عادة الكراهية القاتلة» يجعلنا نعتقد أن ما حصل أبعد من كل ما قيل.
نتابع. «شغل الفيلسوف اللبناني منصب وزير التربية في تونس. ويوم أتى سلطان تركيا عبد العزيز في زيارة إلى تونس أعدّ له أحمد فارس شعراً من 2500 بيت. أعجب به وطلب اصطحابه إلى اسطنبول وعيّنه مستشاراً واستمرّ حتى وفاته» ويتذكر شارل الشدياق «في العام 1858 دعا أحمد فارس البطريرك مسعد إلى اسطنبول. وعرّفه إلى السلطان الذي سأله: هل تأمر بشيء؟ أجابه: أتمنى إعفاء المسلمين في لبنان من الخدمة العسكرية في الجيش التركي. سأله عن السبب فأجاب: لأنهم يسيئون معاملتهم. ففعل السلطان ذلك. وجال أحمد فارس معه في كل اسطنبول، على كل كنائسها، فسأله والد البطريرك: لماذا أسلمت يا ابن عمتي؟ أجابه: الدين يا ابن خالي مسعى عند الله. قلّ هذا لمن يسألك عني».
هل كان هذا هروباً آخر من الجواب؟ يجيب الحفيد «كان هذا جواباً مهذباً منه».
مات أحمد فارس في اسطنبول. أراد الأتراك دفنه هناك لكن وصيته كانت العودة إلى الحدث. لكن، أليست جذوره عشقوت لا الحدث؟ يجيب شارل «هو ولد هنا وكبر هنا وإن كانت العائلة تحدرت من حصرون إلى عشقوت إلى الحدث».
لم يأخذ أحمد فارس حقه المعنوي أما مادياً «فعاش ملكاً». وأورث الكثير إلى ابنه سليم. وابنة سليم ورثت خمسين ألف إسترليني. نقلب في المخطوطات في أرجاء دار الشدياق، دار أحمد فارس الشدياق. نقلب بين صفحات جريدة «الجوائب» التي كانت تباع ذات زمن في مصر وتونس وعدن وجبل لبنان وبيروت ويافا والجزائر والإسكندرية والموصل وبغداد. وقبل ان نغادر نقرأ من كتيب: نقل فارس يوسف الشدياق، الملقب بالشيخ أحمد فارس الشدياق – الذي إليه ينتسب بنو الشدياق في حدث بيروت – بعد مماته في باخرة، صعد إليها العلماء يتقدمهم الشيخ عبد الباسط أفندي مفتي المدينة، وأنزل إلى الميناء على زورق من زوارق الحكومة، وسير به إلى الجامع العمري الكبير، وازدحمت الطرق بالجماهير، واستقبلته فرقة من فرسان الجند اللبناني. ودفن في ضريح فخم في أرض في الحازمية، اشتراها ولده سليم.
نداء الوطن
***
من يوسف يزبك إلى مارون عبود
ولو شاء القدر لظل في بني الشدياق نوحهم الذي كان وحده يصلح لأن يحمل اسم نديم الملوك، ويرثه ويرث مجده، ويفيء على مواطنيه بكبر فضله، وكرم يده، وبياض عمله: عنيت العلامة الألمعي، والعصامي العبقري، شيخ الفضل والأريحية، ورجل الإقدام والوطنية القس يوسف الشدياق؛ من إذا عُدَّت الرجال في قومه عُدَّ بالقوم جميعًا.
ولكن جليلنا المفضال كاهنٌ نذر نفسه لرحمانه لا لدنياه، فاحترامه تقاليد كنيسته أوجب حجب عطفه عن ذويه، في مثل هذه الحالة وهو الرحيم بهم، والجواد عليهم في كل آنٍ، وأن ورعه لا يشجعه على القيام «بواجب» يحنُّ في أعماق قلبه إلى تحقيقه، ويعلم أن رجال الدين الكاثوليكي لا «يستحسنون» صدوره عن كاهن كاثوليكي، وليس على القوم من حرج …
وإذا قصَّر الشدايقة في شكرك؛ فأنا معوض عنهم: بارك الله بنبل وفائك يا أستاذ، واعذرني على فقري في التعويض؛ فلا خيل عندي ولا مال، ولا أقل من الدعاء من الأعماق بطول بقائك دعاءً صادقًا ليس فيه من بضاعة أصحابنا … الداعين لجميع الناس، وفي جميع المناسبات …
ولو أتيح لي شرف الانتساب إلى أدبك الخطير، وكنت صفحة صغيرة على «توراته المشلعة»؛ لحق لي أن أقترح على حملة الأقلام مبايعتك خلافة أحمد، فأنت فيهم — كما كان الإمام في زملائه — الفارس الذي لا يشق له غبار.
متى ولد الفارياق؟
قلت: والبيت المشار إليه بقيت منه بعض أحجار ضخمة في زاويته الغربية تقوم اليوم عليها مدرسة آل سعد الكرام، الذين أنجبوا للبنان رجالًا من أعظم مفاخره؛ وهم أبناء أعمام الشدايقة.
أما رواية طنوس أخي الفارياق فنستنتج منها ما يأتي:
إما أن يكون التاريخ الشائع عن ولادة فارس ١٨٠٤ صحيحًا، فيجب عندئذ أن تكون هذه الولادة في الحدث وطن الشدايقة الذي لجئوا إليه سنة ١٧٣٧، وإما أن يكون الفارياق قد ولد في عشقوت حقًّا موطن أجداده سابقًا، فيجب أن يكون تاريخ هذه الولادة إذن سنة ١٨٠٥ على الأقل؛ أي بعد أن استدعى المير الشهابي والده لخدمته «وأمره أن يتوطن في كسروان». وإني أرجح هذا التقدير الأخير، ولا بأس أن نذكر بالمناسبة المأساة التي سببت نزوح بني الشدياق إلى الحدث، بعد أن كانوا قد نزحوا من مزرعة بيت قصاص إلى عشقوت وتوطنوها منذ سنة ١٦٥٠، واستقروا فيها ثماني وثمانين سنة.
قال مؤرخهم طنوس:
قلت: ومنصور هذا، ابن أخي الشدياق المذكور، هو جد الفارياق لوالده يوسف.
البطرك مسعد والفارياق
وثابت عند قدماء الشدايقة الذين عاصرو الرجلين العظيمين الداهيتين أن البطرك بولس لم يقر عمل زميله الحبيشي في حبس أخي الفارياق «أسعد» ذلك الحبس القاسي، وأنه سفهه إذ اجتمع بابن عمته، وثابت عندهم أيضًا أن أحمد فارس قال ساعتئذٍ للبطرك كلمة تاريخية: «ولن أخجل بعد الآن، يا ابن خالي، أن أكون مسيحيًّا مارونيًّا …»
وشائع أيضًا عند الشدايقة — وانتبه يا أستاذي إلى هذا الخبر الخطير — أن نسيبهم أحمد فارس رجع إلى دين آبائه، وقد مات وذخيرة عود الصليب في عنقه … وهذا ما سأبسطهُ في مقال خاص.
وثق يا شيخ مارون وأنت مثلنا الجبلي الأصيل من عظام الرقبة، والعارف مثلنا نفسية وطننا الصغير الجميل، ثق لو أن البطرك كان يومئذٍ غير حبيشي «أو غير خازني» لما تجرع أسعد ذلك العذاب المرير. ولعلك تذكر عن أبيك عن جدك أن أسيادنا الإقطاعيين ما كانوا يتحملون أن يرد أحد عبيدهم في وجوههم، فكيف بهم إذا كانوا إقطاعيين مزدوجين — إقطاعيتهم اجتماعية روحية — وكان ذلك العبد جريئًا حرًّا شبعان من حليب أمه كشهيدنا أسعد؟
قلت: إن هذه الأسباب كلها كانت من أشد العوامل التي حملت البطرك بولس على تسفيه فعلة سلفه الحبيشي … فالقول إذن بأن «الذي فعله الحبيشي في ذلك الزمان كان واجبًا دينيًّا رعائيًّا» إنما هو قول نعرف قيمته، فلا يجوز حشره في مثل هذه المناسبة؛ لئلا يحمل الناس على الاعتقاد بأنه كان رأي مسعد العظيم.
الشهيد هو أسعد وحده
ربما أننا ننصف الناس وننصف التاريخ أيضًا، فمن الواجب أن نتحفظ في الحكم على أبي الفارياق وجده اللذين جعلتهما مع أخيه أسعد «شهداء حرية الفكر والميل (ص٣، عمود ٣)»، فأبوه «يوسف» وجده «منصور» كانا، ولا سيما الأب، فرسَي رهانٍ في «المرونة» السياسية. وقد جارى يوسف معظم الشهابيين المتزاحمين يومئذٍ على كرسي العبودية والاستعباد. وفي سنة واحدة (١٨٠٤)، لعب على حبلين متعاكسين … وإذا كان شهيد حقيقي في بني الشدياق، بل في جبل لبنان، وإذا كان من لبناني شرَّف وطنه وأمته العربية بتسجيل اسميهما في تاريخ البلدان والأمم الحية التي تنجب شهداء حرية الفكر؛ فذلك اللبناني الشريف الذي ينحني أمام ذكراه كل شريف إنما هو أسعد؛ أسعد القديس الطوباوي الخالد. وأما أبوه وأما جده فكانا في السياسة وتمشية الحال شاطرين، وقد فعلا ما فعله مواطنوهما في عصرهما والناس على دين ملوكهم.
على الهامش
- أولًا: طنوس الشدياق لم يكن قاضي النصارى عندما بعث إليه أخوه الفارياق من لندرة برسالة يعنفه بها؛ لأنه لم يذكر مناقب أخيه أسعد في تاريخه، ولم يكن قاضيًا على الإطلاق. ومن المستغرب أنه لم يشتغل في القضاء مع أنه اشتغل في كل شيء.
- ثانيًا: إن تاريخ الرسالة التي كتبها الفارياق من مالطة في ٨ محرم ١٢٥٥ يوافق ٣ نيسان ١٨٣٩، على ذمة تقويم البشير.
وتكرارًا أبثك شوقي وإجلالي وشكري يا شيخ الأدباء، وسيد المنصفين الأوفياء، راجيًا أن ينصفك بنو قومك في حياتك، التي أتمنى طولها وازدهارها وتوفيقها من صميم القلب.
الحدث
من مارون عبود إلى يوسف يزبك
يا أخي يوسف
لا أدخل الموضوع الذي يخصني من مقالك الشائق؛ لئلا يكون كلامنا من صنف حكَّ لي أحك لك … ولكني أجيب عن بعض نقاط في الموضوع أولها تاريخ الولادة.
أنت محقق أكثر مني في تاريخ لبنان عامة، وتاريخ هذه الحقبة خاصة؛ لأن وثائقها الخطية تحت يدك، ولا أنسى قصتك الرائعة — ليلة عيد الميلاد — عن ثورة كسروان، ولا أنسى أيضًا يوم تلاقينا في «دار المكشوف» وكنت تتأبط خيرًا؛ أي نسخة تاريخ طنوس الشدياق الأصلية. أما المكان فنحن غير قاسمين فسيان عندي عشقوت والحدث والمتن وكسروان، فالرجل ولد بلا شك، وإن نقص من عمره عام؛ فعام الجبار سنون من حياة الأقزام.
أما أنا فاعتمدت، في تحديد الظرفين، العلَّامة الدبس (الجامع المفصل، ص٥٣٤)، والدبس من أصقاء شدياقنا وعارفي فضله.
أما المارونية فلا يعني أدب الشدياق منها شيء؛ إذ ليس هناك أدب ماروني على كثرة أدباء الموارنة، بل هناك أدب من محصولات هذا الجبل كما نقول: بنٌّ عَدَنيٌّ، وتَمْر عراقيٌّ، ورز مصريٌّ وهلمَّ جرًّا.
وما افتخاري بالفارياق وأنا وأنت وكل أديب أقرب إليه من أهله، إلا كافتخار رجل بابن ضيعته، وما لبنان إلا ضيعة من ضياع الأدب العربي، والذي أسميه هنا ضيعة هو القطر بكامله.
فلندع فينيقيا للمتفينقين، والفرعونية للمتفرعنين، وحسبي وحسبك لساننا المبين، فما يزدريه إلا الذين هم أعداء لما جهلوا …
أما طنوس، فالأب شيخو اليسوعي قلَّدهُ منصب القضاء (الآداب العربية في القرن التاسع عشر، جزء أول، ص١٠٦، س٣)، ولدَيَّ مكتوب يوصي به الفارياق بأخيه طنوس الذي هو «من رجال السمت»، ولكن المنصب الذي يرشحه له غير مذكور.
أما البطرك الحبيشي فديِّن، والدينُ لا يخلط بين كهنوته ومشيخته.
أما استبداده فلا أنكره، وكيف أنكر وقد قرأتُ — لا أذكر لمن: «تحت ثوب كل كاهن حاكم مستبد»؟
وكيف أنكر وقد تمرست بالكثيرين منهم؟ ولكن هذا الاستبداد لا ينفي: «إنما الأعمال بالنيات.» فكم في التاريخ ممن اعتقدوا أنهم بالاضطهاد قدَّموا لربهم ذبيحة كما اشترطت التوراة: لا عمياء ولا عرجاء ولا ضعيفة …
أنا أدافع عن الحبيشي ومقياسي القصبة والباع والقامة، لا الإنش ولا السنتيمتر، ثم لا ننس أنه كان يحكم الجبل دينيًّا إلى جانب المالطي الذي كان يحكمه مدنيًّا.
ولا ننس أيضًا أن الكنيسة كانت تساس في ذلك الزمان بالعنف، ولو كنت أنا وأنت يا أخي يوسف في ذلك العهد لزرنا قنوبين وسراي بتدين …
إن المثل الأعلى يتبدل، وما نراه اليوم حقًّا قد يصير بُطلًا.
ماذا تريد من بطرك أن يفعل وأحد أساقفته؛ المطران بطرس أبو كرم، أسقف بيروت، يُصدر رسالة رعائية أطول من يوم الجوع، صفحاتها ٨٥، وتطبعها رومة سنة ١٨٣٠، وما هذا المنشور غير رد على يونس كين صاحب أسعد؟
والكتاب عندي أنشر هنا أولى صفحاته للتاريخ والعبرة:
رسالة رعائية
مؤلفة من السيد الجليل بطرس أبو كرم؛ مطران بيروت الماروني الكلي الشرف والاحترام، منفذة منه إلى أبناء رعيته خصوصًا، وإلى غيرهم عمومًا؛ دحضًا وتفنيدًا كاثوليكيًّا للمكتوب الأراتيكي، المحرر في ٥ أيلول سنة ١٨٢٥، من الرجل البيبليشي الأماريكاني الضال يونس كين، الذي بعد أن ذهبت سدى اجتهاداته، وحيل أرفاقه الأراتقة في أن يجذبوا إلى ضلالهم المبين بعض الأشخاص البسيطين من سكان جبل لبنان وغيرهم. وكان قدس السيد يوسف حبيش؛ بطريرك الموارنة الأنطاكي الكلي الطوبي، ومثله كثيرون من الرؤساء الكنايسين نهضوا لمقاومة هؤلاء المُضلِّين، وبددوا وأحرقوا كتبهم، فهو؛ أي يونس كين، حين سفره من بيروت، قد أشهر المكتوب المرقوم بصفة وداع منه إلى أحبابه في بلاد فلسطين وسوريا، ومِن ثَمَّ التزم السيد المطران المذكور بأن يدحضه في هذي الرسالة، التي قد طبعت الآن بإذن الرؤساء في مطبعة مجمع انتشار الإيمان المقدس في مدينة رومية سنة ١٨٣٠.
وللبطرك الحبيشي رسالتان نشَرتُ شيئًا منهما على صفحات «صوت الأحرار» الغراء.
يا ليت شعري لو كان الحبيشي اليوم، أما كان كالبطرك أنطون الرجل الحكيم الواسع الصدر؟!
بلى، ولكنه لم يكن. وهنا فقط يصح لوم الزمان، ولو خالفنا الشافعي.
قد فعل الحبيشي ما فعل معتقدًا أنه يقدم لله قربان هابيل، وليفعل قايين ما يشاء.
لست أجهل أن الحبيشي كان شيخًا إقطاعيًّا، وأذكر ولا يزال يرن في أذني خبر ما وقع بين العلامة بولس مسعد والخازنين حين صار بطريركًا.
أراد أحدهم أن يلبسه الجبة حسب التقاليد، ولكنه أبى ولبسها وحده بلا معونة … كما لبسها سلفه الخازني من قبلُ.
سمعت كل هذا يا أخي الحبيب، وأسلم بأن الحبيشي كان صارمًا لا يمشي على الهينة. كان سيلًا جارفًا والويل لمن يفتح فمه.
خبرني جدي أخبارًا عديدة تدل على حزم الحبيشي وبطشه يوم كانت عصا جدي سيفًا في ظل رئيسه … وأحيانًا كنت أسمعه ينفخ نفخة تذري بيدرًا، آسفًا على سلطانه المفقود، ناعيًا على الرؤساء رخاوتهم.
في عين كفاع رجمة طالما قرعها جدي بعصاه في طريقنا إلى الكنيسة، ووقف يقول لي: هنا مدفون ديب الكريدي المحروم، قتله الجزيني لأنه عاصٍ ما خضع لأمر المير والحبيشي.
والحرم، يا أخي يوسف، مثل البطيخ منه كبير ومنه صغير. أما حرم العم ديب فكان «كبيرًا يخرق جسمه كالزيت في الصوف، ويحل على صاحبه الغضب الذي نزل على التينة …»
كل هذه القصص لا تدفعني إلى لوم الحبيشي، ولا تحملني على «تسفيه» رأيه في الأمس. أما اليوم فكلنا على دينك، ولا أستثني الشيخ فؤاد حبيش؛ صاحب «المكشوف».
كان للطائفة في ذلك الزمان آراء مختلفة جدًّا عما نراه اليوم؛ فالآباء اليسوعيون جاءوا عمشيت قبل غزير فطردوا منها، ولم يقبلوهم غير مبالين بقول يسوع: «من قبلكم فقد قبلني.» وعمشيت ضيعة مارونية من أبرشية غبطته. أما اليوم ففي عمشيت من هذه البضاعة أشكال، والمطران طوبيا عون، وهو الذي جلس على كرسي المطران أبو كرم، أُهدي تمثالًا من الغرب، فاستبشع الهدية، وأبى أن ينصب في كنيسته صنمًا، وظل التمثال «المقدس» نائمًا في القبور حتى أيقظه الدبس من رقدته، وفتح الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد.
وماذا تقول في خوري ليس من المتقدمين في الأخوة، مع أنه بعل امرأة واحدة، يأبى وحده ويبقى طويلًا لا يختم قداسه بالسلام الملائكي ولا «السلام عليك أيتها الملكة أم الرحمة والرأفة»؟
ذلك الخوري هو جدي لأبي. ما أمتثل لمشيئة روما العظمى مع أنه كان يقول كل ساعة: «إيمان بطرس إيماني.»
استغرب أن يزاد على «النافور» (كتاب رتبة القداس) حرف، ولو كان الأمر من بابا رومية خليفة الله المعصوم.
وأغرب من ذلك أن هذا الخوري مات ولم يسلم بأن لقلب يسوع — دونه كله — عيدًا مخصوصًا، وكم كان يهز برأسه هزًّا مضحكًا حين يختم كهنتنا الجدد الذين يكهنون في فلسطين قداسهم ﺑ «يا قلب يسوع الأقدس»!
وكان يستهجن أن يقدس حفيده الخوري يوسف الحداد همسًا، وجدي جده يريد القداس جهوريًّا، صغيرًا كان القداس أو كبيرًا.
على الخوري أن يسمع الشعب ما يقول، ولو في السريانية التي لا يفهمونها.
كم أزعجني وأنا شماسه الصغير بهذا التطويل! وكم آثر الناس قداس غيره على قداسه لهذا السبب!
ماذا أقول لك بعد؟
على هذا الرجل الذي ربيت في حجره، وشهد له الناس بالتقوى، قست سيده الحبيشي، فهو الذي سامه كاهنًا، وفسح له من العجز؛ أي صغر السن.
وبراءة التفسيح والسيامة محفوظة عندي.
أنت تعرفني لا أعمل برأي أحد. عشت وسأموت بعد عمر طويل على هذا الرأي النحس الذي خرب بيتي.
وما عذري اليوم يا بو يوسف ونهار المشيب يضيء الطريق قدامي؟
لك أن تقول فيَّ إن شئت: «وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده.» أما إذا أخطأت؛ فكالحبيشي عن اعتقاد لا يشعر به سوء نية.
أما أسعد فأنا من «مطوبيه»، وقد جاهرت بذلك أكثر من مرة.
إني أعظم حريته وجرأته، والذي اتضح لي من حواره مع رجال الدين أنه نزاع إلى الإصلاح والتهذيب البيعي، وله مطالب دينية لخير الرعية (قصة أسعد الشدياق، ص٤٤).
والرجل في كل حال سابق لعصره. وهذه ميزة النابغة أخفق أو أفلح.
شكرًا لك، يا أخي، على ما لاحظت. أما أسعد والحبيشي فهما الآن معًا عند الذي في بيته منازل كثيرة.
رزقني الله وإياك منزلًا صالحًا ليس ككوخ الحطيئة في آخر الجنة.
١٩٣٨