يشهد الأدب الفلسطيني ظاهرة جديدة، تتجلى في سلسلة من الروايات والمذكرات والتواريخ الشخصية، التي نشرها فلسطينيون وفلسطينيات في الآونة الأخيرة باللغة الإنكليزية.
ومن بينها نذكر: “أوقات الصبح في جنين” لسوزان أبو الهوى، و”تذوّق طعم السماء” لابتسام بركات، و”أبي كان مقاتلا في سبيل الحرية” لرمزي بارود، و”لن تخسر شيئا سوى حياتك” لسعاد العامري، و”صدع في الزمن” لرجا شحادة.
هذه الكثافة في النشر، استنادا إلى حقيقة أن أغلب الكتب المذكورة ظهرت في العام الحالي ـ ويمكن للقائمة أن تطول إذا عدنا إلى سنوات قليلة مضت ـ تبرر الكلام عن ظاهرة.
بداية، ينبغي إبداء ملاحظات تمهيدية: النسبة المرتفعة للنساء الفلسطينيات في القائمة أولا، وكون الأعمال منشورة بلغة غير العربية ثانيا، وحقيقة أنها في الغالب لا ترسم المشهد العام، بل تنتمي إلى جنس السيرة والمذكرات ثالثا، وقد كتبها فلسطينيون وفلسطينيات يعيشون في فلسطين وخارجها رابعا.
والواقع أن مساءلة الشخصي والجزئي والهامشي والخاص تحيل إلى دلالة يصعب تجاهلها، وأعنى بهذا أن السردية البطولية الكبرى، كما تجلت في أعمال أصبحت كلاسيكية الآن، وهيمنت على الذائقة والمخيال الأدبيين منذ صعود الحركة الوطنية الفلسطينية في الستينيات، فقدت مركزيتها.
نجم فقدان المركزية عن تحولات سياسية واجتماعية راديكالية وهائلة على امتداد العقدين الماضيين. وفقدان المركزية ليس علامة سلبية في جميع الأحوال، بل يدل على نضج الحقل الثقافي نفسه، واستجابته لما طرأ على حياة الفلسطينيين وثقافتهم من تحوّلات.
وإذا عدنا بأثر رجعي سنكتشف بأن محمود درويش نفسه، الذي أسهم في إنشاء السردية البطولية، هو الذي زحزح مركزيتها، في كل ما أنجزه على مدار العقدين الماضيين. وبهذا المعنى كان المؤسس الكبير محدّثا أيضا.
وإذا جاز لنا في هذا السياق الاستعانة بعملين ظهرا باللغة العربية، ولكن فيهما ما يكفي للتدليل على فقدان المركزية، يمكن الإشارة إلى عمل ربعي المدهون “السيدة من تل أبيب”، و”حليب التين” لسامية عيسى. في الأوّل يطرأ تحوّل على معنى المنفى. وفي الثانية يطرأ تحوّل مشابه على معنى المخيم.
ولكن إلى أي حد يمكننا التعامل مع أعمال منشورة بلغات غير العربية باعتبارها جزءا من الأدب الفلسطيني؟
هذا سؤال إشكالي جابهته جماعات كثيرة في مناطق مختلفة من العالم، وما يزال مطروحا لدى الإسرائيليين في سياق التمييز بين الأدب اليهودي والأدب الإسرائيلي والأدب العبري، وكلها تسميات لأشياء مختلفة.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالفلسطينيين فإن عمر الشتات يبلغ ستة عقود. وهذه فترة كافية لإنشاء المنفى بالمعنى الرمزي والواقعي، أيضا. وهي فترة كافية للانخراط في حقول ثقافية أخرى، والكتابة بلغات أخرى أيضا. بعض المذكورين في القائمة لا يعيشون في المنفى، لكنهم على صلة دائمة بالمعنى الثقافي والمادي بمناطق أخرى من العالم.
وفي هذه وتلك دلالة إضافية على خصوصية الحقل الثقافي الفلسطيني من حيث تعددية المصادر، وتنوّع التجربة، وهما نتاج للشتات وللعلاقة الملتبسة بين فلسطين وخارجها. ليس هذا مديحا للشتات، بل محاولة للتشخيص.
بيد أن ما يدلل على فلسطينية تلك الأعمال، وانتسابها إلى الحقل الثقافي الفلسطيني، لا يقتصر على شهادات الميلاد، أو الانتماء العائلي، ولا حتى على موضوعها، بل يتجلى في مدى انسجامها مع ميول ظهرت في الأدب الفلسطيني في العقود القليلة الماضية، ومدى ما تسده من فراغ وما تضيفه في هذا الشأن.
وأعني إعادة إنتاج التواريخ الشخصية والعائلية (سوزان أبو الهوا، ابتسام بركات، رمزي بارود، رجا شحادة) وإعادة إنتاج اليومي، والهامشي، وكل ما لا يحظى باهتمام خاص، من نوع المجازفات التي يقدم عليها العمّال الفلسطينيون عند تسللهم إلى سوق العمل في إسرائيل بحثا عن لقمة الخبز، كما فعلت سعاد العامري، التي قدّمت من قبل شهادة مشابهة عن معنى اليومي والخاص في ظل نظام منع التجوّل، أو إعادة تأمل المشهد الطبيعي الفلسطيني كما فعل رجا شحادة في عمل سابق.
المهم أن الكتابة بالإنكليزية في سياق مشاريع فردية لإعادة إنتاج التواريخ الشخصية والعائلية، وإعادة الاعتبار إلى اليومي، والهامشي، ليست بالضرورة جزءا من مرافعة دعائية، تستهدف جمهورا بعينه في الغرب، حتى وإن فعلت ذلك بطريقة غير مباشرة، لذا يجوز الكلام عن أهمية وضرورة نقلها إلى العربية.
النسبة المرتفعة للنساء في القائمة، والتي يمكن أن ترتفع أكثر إذا أضفنا إليها ما نشرته الفلسطينيات على امتداد هذا العقد، من دراسات وأبحاث بلغات مختلفة، إضافة إلى ما ينشرنه بالعربية، وما تمارسه نساء أخريات في حقول مثل السينما والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي والغناء، تدل على دورهن الكبير في حقلنا الثقافي. بيد أن تدهور مكانة النساء في فلسطين، بعد صعود الأصولية، وانهيار الحركة الوطنية، تحيل إلى مفارقة مؤلمة.
على أية حال، يكفي القول: ثمة ظاهرة جديدة ومُفرحة.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
Khaderhas1@hotmail.com