يُعتبر مفهوما الجهاد والتكفير من أكثر المواضيع راهنية، ومن أكثر المسائل جدية، نظرا إلى تداعياتهما الفكرية والسّلوكية وارتباطها الوثيق بالعقائدي والاجتماعي والنّفسي، وبالفردي والجماعي. فهي موصولة بأمن الأفراد والجماعات وبسيْر الحياة برمّتها. وتكمن خطورة خطابات التكفير و الجهاد في إجراء عمليّات الفرز والتصنيف والتمييز بين أبناء الوطن الواحد والأمة الموحدة، فهي بالتالي تهدّد السلم الاجتماعي، وتقوّض مشروع العيش معا وفق قِيَم التآخي والتوافق ومبادئ المواطنة المشتركة.
وفي هذا الصدد نذكر أن المركز الدولي لدراسات الشرق الأوسط أكد وجود أكثر من خمسة آلاف تونسي منخرطين في الحركات الجهادية وفي النزاعات المسلحة بين سوريا والعراق وليبيا.
فما هي الأسباب التي تدفع بشباب في عمر الزهور إلى القطيعة مع مجتمعه الأصلي والالتحاق بجماعات الموت والقتل؟ …
من المعروف اليوم أن المسألة الجهادية متعلقة بعوامل دولية وإقليمية وبرِهانات جيوستراتجية تلعب فيها القوى المتنفذة على المستوى العالمي وشركات الأسلحة والدمار دورا كبيراً، حيث لا تتوانى عن استعمال كل الموارد الممكنة من أجل تحقيق مصالحها بما في ذلك التيارات التكفيرية التي يظهر أنها “ورقة رابحة”، بشكل أو بآخر، يسهل التلاعب بها وتوظيفها في هذا الاتجاه أو ذاك بحسب ما تمليه السياقات وموازين القوى.
فالعوامل الاقتصادية والسياسية إذاً غذت مناخات بروز الحركات التكفيرية والجهادية في تونس. إلا أن هذه العوامل الخارجية والموضوعية لا تترسخ إلا بالتفاعل مع الأبعاد الذاتية و لمحلية أي السيكولوجية والسوسيولوجية.
إذ يبدو أن التطرف الديني كسلوك عُصابي يعكس بنية نفسية راسخة في أعماق النفس البشرية يحتاج أيضا لمقاربة نفسية لفك رموزه ولتفكيك دلالاته وإدراك معانيه الواعية واللاواعية..
فما هي ابرز هذه العوامل النفس-اجتماعية؟
توجد عدة آليات معرفية وسيكولوجية تؤسس للتطرف نذكر منها
1) التعصب والجمود الذهنيّ .
يقــدم لنا ابن منظور في “لسان العرب” التعريف التالي: ” التعصب هو أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبيته والتألّب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين”. وهذا التحديد لا يختلف في شيء عما قدّمه لاحقاً علمُ النفس حول التعصّب إذ أن التعصّب من وجهة نظر علم النفس هو ميل انفعالي يفرض على صاحبه أساليب وطرقاً في التفكير والإدراك والسلوك تتفق مع حكم بالتفضيل أو عدم التفضيل لشخص أو جماعة. وهذا الحكم يكون سابقاً لوجود دليل منطقي أو دون دليل إطلاقــاً.
ويعرّف علم النفس الجمود الذهني بكونه عطب في المسار الذهني، فهو يتمثل في عجز المرء عن تغيير وجهة نظره ووضع نفسه مكان الآخـــر لفهمه وتفهّم موقفه. كما أنه يعكس عدم قدرة الفرد على تغيير أفعاله أو اتجاهاته عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك.
وهو يوجد في الحالات المرضية مثل العُصاب الاستحواذي، وهو إحدى السمات الجوهرية في تناذر “البرانويـا”. المصاب بالجمود الذهني تنقصـه المرونة الفكرية. له رأي ومبادئ ثابتة، منغلق على حِجج الآخـــر لأن مركزيته الذاتية، جعل الإنسان نفسه مركـــزا للكون، تجعله عاجـزا عن وضع نفسه مكان الآخر أي المختلف عنه في الرأي أو في الدين لفهمه وتفهم وجهة نظره مع ميل لاستعمال العنف مع الآخرين .
ويتشابه سلوك المتطرف في العديد من النقاط مع سلوك مرضى العصاب.
ففي رأي المتطرف أن كل من يخالفه في الرأي والفكر يُحكم عليه بالإقصاء والتكفير، وأخيرا بالتصفية الرمزية أو الجسدية. أما المريض النفسي فتنتابه تخيلات وهلوسات تقوم لديه مقام الواقع، والنيّة لديه تساوي الفعل، كما انه غالبا ما يكون فريسة مشاعر الاضطهاد وهذيانات المؤامرة وينتابه الشك والريبة في جميع المحيطين به.
وغالبا ما يوضع الفرد في دائرة التكفير من خلال التنشئة الاجتماعية التي تؤسس للتطرف والتعصب وتمرّرهما عبر الأساليب التربوية السلبية.
2)التنشئة الاجتماعية السقيمة
أبرزت تجربة كـــورت لوين المجرات سنة 1938 مدى تأثير الأجــواء السائدة في الفضاءات التربوية في بناء الشخصية السوية.
وقد قدمت لنا هذه الأعمال عدة تجارب تتمحور حول ثلاثة أساليب تربوية:
– الأسلوب المتسلط
– الأسلوب الفوضوي
– الأسلوب الديمقراطي
وقد اتضح تفوق الأسلوب الديمقراطي القائـم على مبـــدأ النقاش وقبول الاختلاف مع تفهم الآخـــر.
و في ظل هذا المناخ القائــم على الاختلاف يكون القرار في النهاية بتراضي الجميع، وهكذا يكون “أمر الناس شورى بينهم” فعلا لا قولا.
وهكذا ترتبط ثقافة العنف بالبنى الذهنية التسلطيّة التي مازالت تعيق التواصل الايجابي، وأساليب التربية القاسية، ومناهج التعليم، التي تقتل في الطفل مقومات إنسانيته وتجفف إحساسه ممّا يحول دون تكريس ثقافة الاختلاف والسلام و قبول الآخر والتربية على العيش المشترك.
وفي هذا السياق يؤكد المحلل النفساني مصطفى صفوان أن البنية العائلية للمجتمع تؤثر في سلوك مواطنيه فرادى أو جماعات. إذ أن المجتمع العربي ظل أسيرا لنمط القبيلة والعشيرة، أي الجماعة المغلقة والمتلاحمة، ولم يعرف نمط الأسرة النواة التي يطلق عليها اسم الثلاثية الأوديبية. هذه الأسرة الثلاثية التي سادت في أوروبا منذ القرن الثامن عشر لم يعرفها العالم العربي إلا حديثا. وهنا يلاحظ الدكتور صفوان أن “الانتقال من الانتماء القبلي كوحدة متكاملة للمجتمع إلى الثلاثية الأوديبية قد يولِّد عنفا هائلا لا حيلة لنا أمامه”.
و هذا يعني أن أفراد هذا المجتمع، الذين يشعرون بالقلق نتيجة افتقاد الوحدة والتجانس والخوف من الاختلافات وتعدد الآراء والمذاهب والعقائد، يسعون إلى حل القلق بمحاولة القضاء على أي اختلاف وتصفية أي مغاير ومختلف تصفية مادية أو رمزية. فهم يتبنون بشكل مرضي فكرة الحقيقة الواحدة الوحيدة التي لا تقبل الشك أو التشكيك ، وكلما زاد قلقهم ازداد عنفهم في مواجهة الاختلافات و التناقضات الداخلية.
من ناحية ثانية فإن ضعف سلطة الأب الواقعي، في البيت يضاعف من قلق الأفراد ومن رعبهم ويجعلهم في حالة استماتة من أجل عودته هو أو خلقِ بديلٍ أكثر قوة واستبدادا منه. فكلما «خفت فعالية الزعامة ازدادت الحاجة إليها أكثر»، كما يقول الدكتور صفوان. وبالتالي فإن ضعف دور الأب في الأسرة الواقعية يدفع الأبناء، إلى استبدال صورته بأب آخر رمزي أكثر مثالية وطوباوية. فهم يريدون أباً يبدّل خوفهم أمنا وبؤسَهم نعمةً. أي أنه كلما ضعف مركز الأب في الأسرة الخاصة زاد الطلب عليه اجتماعياً، وهذا من مفارقات بنيتنا النفسية.
3) متعة التحكم والميولات العدوانية
متعة التحكم هي آلية نفسية متأصلة في أغوار النفس البشرية ترفض الاعتراف بحق الآخر في أن يكون آخر أي مختلفا وتجبره على التماهي مع الأنا.
و طبعا تتجسد هذه الآلية في ادعاء احتكار الحق المطلق وامتلاك القدرة على فرضه على من حوله وإسقاط كل شبهات ضعف الذات والتخلص منها بيقين شيطنة الآخر.
وتنعكس متعة التحكم في الآخر في ممارسات تسلّطية تسعي إلى إلغاء الفصل بين الفضاء العام والفضاء الخاص.
فهي غالبا ما تخترق الحياة الشخصية والحميمية الذاتية وتفتش في الضمائر وتتجسس وتتلصص على السرائر وتخلق مناخا بغيضا من الترهيب والتنقيب تسود فيه المراقبة الشاملة والوشاية المعممة.
كما تعتبر الشخصية التكفيرية نموذجاً من الشخصيات العدوانية والمضادة للمجتمع..
و تتسم هذه الشخصية بعدم الامتثال للقانون وبعدم احترام المعايير الاجتماعية وبالاعتداء على حقوق الآخرين. وتعاني من التمركز حول الذات واضطراب في العاطفة أي عدم الاكتراث والاستهانة بآلام ومعاناة الآخرين. كما يتميزون بالاندفاعية وبالسلوكيات المزعجة وبانعدام الشعور بالندم أو الخجل من أفعالهم.
4) البحث عن الاعتراف
يمثل الانخراط في المجموعات التكفيرية و الجهادية محاولة لإعادة تشكيل الهوية الفردية ورغبة في إعادة ترميمها ضمن إطار جديد؛ وهو ما يفسّر تغيير الاسم واستبداله بكنية جديدة مثل “أبو فلان” و”أم فلان”. فجُلُّ الشبان الذين ينخرطون في الحركة السلفية هم من الشباب الذي يعاني من الوصم الاجتماعي والشعور بالهوان بفعل البطالة والتهميش الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى الانحراف والسجن، مما يخلق لديهم هوية مجروحة وموصومة.
ذلك أن كل هوية موصومة هي جرح نرجسي ينزف. فهي ليست فقط إعاقة من الصعب تحملها ولكنها نوع من اللاشخصنة ناتجة عن هوة بين الصورة المثالية التي يحملها الفرد عن ذاته والصورة السلبية التي يجدها عند الآخرين. ومن هنا يغدو الانخراط في الحركات التكفيرية محاولة لإعادة الاعتبار لهوية سلبية والخروج من وضعية دونية لامرئية إلى وضعية مرئية تقوم على الاعتراف الايجابي.
فالخطاب التكفيري هو إذن حيلة لا شعورية معروفة حيث ينقلب الشعور العميق بالدونية إلى شعور بالتعالي والتعاظم الديني والأخلاقي.
وضمن هذه الآلية اللاواعية تنقلب النجاسة إلى الطهارة والنقص إلى القوة والتهميش إلى نجومية، فالنكرة يتحول إلى بطل همام والمحكوم عليه في قضايا حق عام يتحول إلى قاضٍ يوزع صكوك الطهارة والعفة والنقاوة على الآخرين …..
والمنبوذ يصبح أميراً .
والضحية تصبح جلاداً.
العوامل الاجتماعية
إن بروز الحركة التكفيرية في تونس، ليس بالمستجد أو الطارئ، بل إنه متصل في ظهوره بسياقات الواقع التونسي ومفارقاته ونذكر منها:
1) الاستبداد السياسي
ومن نتائجه عزوف الشباب عن العمل السياسي والجمعياتي .
و هنا نذكر أن ركائز الاندماج الجمهوري المتفق عليها من طرف علماء الاجتماع هي المدرسة والأحزاب السياسية والنقابات والمؤسسة الدينية التي تلعب دورا مهما في تاطير الشباب وتدريبه والإحاطة به .
في ظل دولة الاستبداد والتتبعات البوليسية، أصبح الشباب التونسي يعيش حالة من التهميش، والفراغ، يساوره هاجس الخوف من الانخراط في العمل الحزبي والنقابي والجمعياتي المحفوف بالمخاطر والمآسي .
ويرى عبد اللطيف حنَّاشي، الباحث الاجتماعي المتخصّص في الحركات الإسلامية، أنّ محاولة النظام مصادرة الفضاء العام وإغلاق منابر الحوار وتجريم الجدل والنقاش “دفع بالشباب إلى الانزواء في فضائهم الخاص، الذي يشكّل البيت جزء مهماً منه”. و هو ما أدي إلى تذرير المجتمع وتقسيمه.
و هكذا، أدّى الاستبداد السياسي إلى تدمير الفضاء العام بوصفه فضاءً سياسياً بامتياز وظيفته بناء إرادة سياسية بطريقة أفقية هدفها صناعة التوافق والتلاقي والتواصل، على حد تعبير الفيلسوف الألماني هابر ماس.
2 ) الفقر و التهميش
يؤكد علماء الاجتماع، والمحللون المتخصصون في دراسة الحركات الإسلامية، أن القاعدة الاجتماعية التي تستند إليها الحركة التكفيرية الجهادية، غالبا ما تكون من الفئات الاجتماعية الفقيرة، التي تعاني من تدني مستوى تعليمها، ومحدودية تكوينها الثقافي، ومن التهميش الاقتصادي. وفي مثل هذه البيئة الفقيرة والمهمشة، انبثقت الأصولية الجديدة، التي لا تكتفي بمحاربة الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، بل تدين أيضا الأنظمة العربية الحاكمة، باعتبارها أنظمة كافرة ومرتدّة حسب زعمها .
لقد عرفت تونس حركة نزوح من الأرياف اقتلعت الآلاف من بيئتهم الأصلّية، الذين استقروا في الأحياء الشعبية الفقيرة في أحزمة المدن التونسية، عاجزين عن التحوّل إلى بروليتاريا صناعية بحكم عجز المنظومة الرأسمالية عن إدماجهم في دوائر اقتصادية عصرية، وعن تعويض آليات التضامن الآلي التقليدي باليات التضامن العضوي والعصري التي وصفها لنا دوركايم، كما حدث في مرحلة “الثورة الصناعيّة” التي عرفتها الدول الرأسمالية الغربية (الضمان الاجتماعي المعمم و مآوي العجزة والمحاضن ورياض الأطفال الدولية الخ ).
فالأجيال الجديدة للعائلات النازحة فقدت كلّ ارتباط بالعائلة الموسّعة، وتحديداً بالعشيرة وبالقبيلة التقليدية التي كانت تلعب دور الحماية والمساندة المادية والرمزية. وفي المقابل، قوّضت برامج التحرر الاقتصادي أنظمة الرعاية الاجتماعية القائمة وألغت ضمانات التوظيف في القطاع العام من دون أن تقيم على أنقاضها بدائل إجرائية .
كما أدى انعدام الفرص الاقتصادية وضعف نظام الرعاية الاجتماعية إلى اللجوء إلى أطراف أخرى بديلة عن الدولة والقطاعات الاقتصادية القانونية. ونتيجةً لذلك تضاعف نمو اقتصاديات الظل الموازية وتفاقمت مشكلة البطالة بين الشباب حيث تصل نسبة الشباب العاطل عن العمل إلى 29%، كثيرون منهم حائزون على شهادات جامعية. .
و في بحث سوسيولوجي ، تناول ملفّات 1208 من المحكومين سابقاً في قضايا السلفيّة الجهاديّة، تبين أنّ 89 في المئة منهم شباب، وأنّ 70 في المئة منهم إمّا عمّال (ذو دخل محدود) أو تلاميذ وطلبة (لا دخل ثابت لهم عموما). ويشير الخبير بالجماعات الإرهابية عبد اللطيف الحناشي إلى أن أغلب المشاركين في “خليّة سليمان” الجهادية (نهاية 2006 – بداية 2007) أتوا من المناطق الداخليّة الفقيرة والمهمشة .
هذه الشريحة الاجتماعية التي عجزت عن الاندماج في المجموعة الوطنية، وعن تبني قيم الحداثة، تبنت الفكر التكفيري كنتيجة منطقية لتنامي الشعور بالغبن الاجتماعي، والحقد الطبقي، والتهميش المستديم، يدفعهم إليه غضبٌ عارمٌ من جرّاء حربهم على المجتمع التونسي نفسه، وغياب أدنى شعور بالانتماء إلى الدولة التونسية التي عجزت عن احتوائهم وتلبية حاجياتهم الأساسية.
ويؤكد الخبير الفرنسي في الجماعات الإسلامية فرحات كشوفاران السمة المشتركة بين الجهاديين التكفيريين هي استبطان كراهية المجتمع والحقد عليه مع تلبّس دور الضحية والقناعة باستحالة إمكانية اندماجهم في المعايير السائدة والقوالب المهيمنة أي عمل قار ومنزل وعائلة .
فهم يصنعون غلافا مقدسا يبررون به حقدهم وعنفهم و يسعون إلى القطيعة مع هذا المجتمع الذي أقصاهم.
3) التحولات في علاقات الإنتاج
تواجه الفئات الشبابية اليوم تحولات عالم الشغل الذي أصبح مرنا و أدى إلى بروز ما يسمى بالعمل الهش الذي يفضي إلى نوع من الهشاشة النفسية والعلائقية، حيث تعيش الفئات الشبابية تزامناً وتتابعاً بين فترات البطالة وفترات العمل الهش غير المستقر الذي يعيق بناء مسار مهني واضح و منزلة اجتماعية ثابتة .
وكذلك يتزايد لدى الشباب التونسي الشعور بالإحباط، وخيبة الأمل، وانعدام المعنى وعدم الثقة بالمؤسسات الرسمية نتيجة عجز سوق الشغل عن استيعاب خريجي الجامعات الذين يجدون أنفسهم في قلب تجربة البطالة التي يعيشونها بطريقة دراماتيكية .
فضبابية علاقات الإنتاج وتفاقم البطالة وآثارها النفسية المدمرة تحتم إيجاد استراتيجيات فردية للتمكن من إدارة حالة اليأس واللايقين إزاء المستقبل المجهول. وهنا تلعب استراتيجيا التكفير والجهاد أداة لتشكيل الذات وتأكيدها في الفضاء العام، بحثا عن الاعتراف الايجابي وعن قيم ثابتة، ومتأكد منها و عن كرامة مفقودة .
4) رِهاب التنميط وإرادة التميز
تعتبر العولمة في المخيال العربي الإسلامي طمساً للهوية وتنميطاً وتوحيداً للأفكار والمشاعر والأحلام والأحاسيس والأذواق..
كما أنها تأخذ في بعض الأحيان بُعداً تآمرياً! فالعولمة ليست سوى مرادف لأمركة العالم. فهي هجمة شرسة تشنها الحضارة الغربية لتدمير الثقافات الأخرى وخاصة الثقافة العربية الإسلامية. العولمة هي أيضا رمز الانصهار الاجتماعي وسيادة الفردانية وحرب الكل ضد الكل .
وفي هذا الإطار تمثل سلوكيات المجموعات التكفيرية وطقوسها رغبة جامحة في التمايز
فهي تجسد ما يسميه فرويد “نرجسية الفرو قات الصغيرة” أي أن يكون الفرد مسرورا بفروق صغيرة تميزه وتميز المجموعة التي ينتمي إليها .
وتتجسد هذه الفوارق في منظومة رمزية جيدة وهي مجموع الطقوس واللغة والسلوكيات التي تبرزها هذه المجموعات وتتباهى بها في الفضاء العمومي، والتي تستخدمها بوصفها شعارات حزبية وأدوات تواصلية بين الشباب المنتمي للمجموعات، وتتمثل خاصة في المظهر الخارجي، والمتمثل في اللباس (القميص) و(اللحية) والنقاب بالنسبة للنساء، وتلعب هذه المعالم دور التنشئة الدينية .
وتنتج جماعات مُغلقة متكونة من مريدين ومُتمحورة حول زعيم روحي وإيديولوجيا، مُعتمدة إحداث تمايز نفسي اجتماعي بين الأتباع وبين غيرهم من أفراد المجتمع.
و يؤدي مبدأ التماهي بين المريدين وسيادة الامتثالية إلى فقدان الفرد كلّ استقلاليّة وفردانية. فلا مجال لتفكير شخصي خارج ما تفكّر فيه الجماعة وما ترسمه من حدود للمفكّر فيه. فالجماعة هي من يفكّر، ولا مجال للخروج عن إجماعها، فكلّ خروج هو ضرب لمبدأ الولاء ويخرج صاحبه بالفعل من دائرة “أهل الحقّ” أو “الطائفة المنصورة” أو “الفرقة الناجية”.
وعلى عكس منعِ التمايز الشخصي داخل الجماعة، فإنّ الجماعة تشجّع كلّ مظاهر التمايز عن المحيط الخارجي وتُنتج ثقافة مضادة و معارضة للاديولوجيا السائدة وهو ما تختزله مقولة “الولاء و البراء“..
ظاهرة الجهاد والتكفير التي تنخر مجتمعاتنا تعكس أيضا إقصاء جموعٍ هائلة من مواطنينا من الحداثة السِلَعية. هذا الإقصاء يؤجج محنتها ويجعلها فريسة سهلة للحركات السياسية التي تتلاعب بمخاوفها باحباطاتها. هي كذلك نتيجة من نتائج تفكك المنظومة الرأسمالية التي عجزت عن إدارة تناقضاتها الهيكلية وأزماتها البنيوية .
المراجع
سعد الدين إبراهيم ، وآخرون (1989) : مستقبل النظام العالمي وتجارب تطوير التعليم… أنماطها الأساسية واتجاهاتها العالمية العاصرة ، ط2 ، دار القلم للنشر والتوزيع ، الكويت
عبداللطيف الحناشي 2014 : التيارات السلفية المدرسية في المغرب العربي، الموقع العلمي للدراسات الوهابية
أوليفيه روا، تجربة الإسلام السياسي، ترجمة نصير مروة بيروت : دار ساقي، 1997.
Jürgen Habermas. L’intégration républicaine. Paris, Fayard, 1998,
Gilles Kepel, Les Banlieues de l’islam. Naissance d’une religion en France, Seuil, Paris, 1987.
« Farhad Khosrokhavar : “Des jeunes radicalisés qui se rêvent en héros négatifs“», article de Farhad Khosrokhavar dans Le Monde, 9 janvier 2015.
ahikbal@yahoo.fr
جامعية تونسية