كان يجب قبول المبادرة المصرية دون مماطلة أو تسويف. دخول اثنين من مقاولي الدم في الشرق الأوسط، هما قطر وتركيا على خط الأزمة يعني تداخل الإقليمي والدولي في الحرب على غزة. انظروا حولكم، في سوريا، ولبنان، والعراق، وليبيا، واليمن، وفي كل مكان آخر تداخل فيه الإقليمي والدولي، تحوّل السكّان إلى كرة للقدم بين أرجل اللاعبين.
يندرج منطق الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في سياق استراتيجية إسرائيلية عمرها من عمر الدولة، لا نريد الخوض في تجلياتها الآن، ولكن فحواها، باختصار، أن أفضل حل دائم هو المؤقت، خاصة في الصراع مع الفلسطينيين في فلسطين وعليها.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بغزة، ومنذ العام 2007، تنظر إسرائيل إلى حماس باعتبارها قوّة مسلحة غير دولانية ( non state actor) ويختلف موقفها إزاء هذا النوع من القوى المسلحة غير النظامية عن موقف الدول الأوروبية، والولايات المتحدة، التي تعتقد أن ثمة حلولاً عسكرية ناجعة.
يعتقد الإسرائيليون أن الحرب ضد قوّة مسلحة غير دولانية لا تخضع لمنطق الحرب بين جيوش نظامية، تنتهي بانتصار جيش وهزيمة آخر. لذا، تقوم استراتيجيتهم السياسية والعسكرية على مبدأ حرب الاستنزاف طويلة الأمد، التي تتخللها جولات دامية من وقت إلى آخر، وفترات هدوء بين جولة وأخرى، قد تطول أو تقصر استناداً إلى ثبات أو تآكل مبدأ الردع.
وكلما شعروا بتآكل مبدأ الردع، كأن تزداد القدرات العسكرية للقوّة المسلحة غير النظامية، أو تقع عملية لا يمكن التغاضي عنها، دخلوا في جولة عسكرية جديدة. وهذا في الواقع ما حصل في العام 2008 وفي العام 2012، وما يحصل الآن.
كان اختطاف ومقتل المستوطنين الثلاثة في الضفة الغربية ذريعة للدخول في جولة جديدة. وأسهم في تعزيز هذه الذريعة أن الجولات العسكرية السابقة، وعلى الرغم من نقدها على استحياء من جانب الغرب، باعتبارها تمثل استخداماً مفرطاً للقوّة، لم تلقَ رداً سياسياً رادعاً.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بقدرة العرب على ممارسة الضغط السياسي، أو حتى تقديم العون المادي، فإن العالم العربي، في الوقت الحاضر، يشبه سفينة اشتعلت فيها النيران. وهذا ما يفهمه الإسرائيليون، وما يضعونه في قائمة الظروف المواتية. وهذا ما لا ينبغي لنا تكراره واجتراره بمناسبة وغير مناسبة، والأهم لا يحق لنا الفشل في قراءة الوزن الحقيقي لعالم عربي يحترق.
أما المُحرّض الرئيس على الدخول في جولة جديدة، فيتمثل في نظر الإسرائيليين في ازدياد القدرات العسكرية لحماس، وغيرها من الفصائل في قطاع غزة. ولذا يحتاجون لجولة جديدة تمكنهم من تقليص القدرات العسكرية إلى أقصى حد ممكن. وهذا ما يطلق عليه بعض خبراء الاستراتيجية عندهم بطريقة بلاغية تنم عن وقاحة القوّة “تشذيب العشب”.
وما يحرضهم على عمل كهذا، وفي توقيت كهذا، إدراكهم لحقيقة أن نجاح حماس والآخرين في تعويض ما سيفقدونه من قدراتهم العسكرية يحتاج إلى وقت أطول من الجولات السابقة. وهذا في الواقع هو جوهر الحل المؤقت باعتباره أفضل الحلول الدائمة، وفيه ما يفسر كلام صنّاع السياسة والحرب الإسرائيليين، ناهيك عن المعلقين بطبيعة الحال، عن جولات جديدة، حتى وهم في غمار الجولة الحالية.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بما يبرر بدء جولة جديدة، أو الركون إلى فترة هدوء قد تطول أو تقصر، تعتمد الحسابات على العلاقة بين التكاليف والأهداف. فإذا كانت التكلفة أعلى بكثير من الهدف، يمكن تأجيل الجولة. وإذا تناسب حجم الهدف المراد تحقيقه مع تكاليفه المنتظرة، يصبح الدخول في جولة جديدة تحصيلاً للحاصل.
وقد أعلنوا في بدء الجولة الجديدة، كما أعلنوا في جولات سبقت، أنهم لا يريدون إسقاط حكم حماس في غزة، لأن التكاليف أعلى بكثير من النتائج المتوقعة. فالقضاء على حماس يعني احتلال قطاع غزة بالكامل، والبقاء هناك لمدة عام على الأقل، وهذه مغامرة مليئة بمفاجآت واحتمالات خسائر مادية، وسياسية، وفي الأرواح، كبيرة. وحتى إذا صمم الإسرائيليون على دفع ثمن كهذا فليس ثمة ما يثبت أن قوّة أكثر تطرفاً من حماس لن تملأ الفراغ بعد خروجهم وبالتالي تعيدهم إلى نقطة الصفر، وإلى منطق حرب الاستنزاف، والحلول المؤقتة نفسها.
هل يملك الفلسطينيون استراتيجية مضادة للرد على استراتيجية حرب الاستنزاف الإسرائيلية؟
إذا اعتمدنا في البحث عن إجابات محتملة حقيقة ما يحدث الآن، فإن الرد المضاد يتمثل في مروحة واسعة من الصواريخ، وفي اشتباكات مسلحة على الأرض. وخلاصة هذه الاستراتيجية جعل الجولة الحالية مكلفة إلى حد يُرغم إسرائيل على التفكير كثيراً قبل الدخول في جولة جديدة قادمة. وبالمعنى السياسي ثمة محاولة لترجمة الصمود على الأرض، ومروحة الصواريخ، والخسائر الكبيرة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، إلى سياسة، والتفاوض حول شروط جديدة لفترات هدوء قادمة.
جوهر هذا الرد لا ينقض منطق الحل المؤقت، بل يُسهم في تكريسه. ولعل المحاولة الوحيدة لنقض المنطق المذكور تتمثل في تحويل مطلب الحماية الدولية إلى حقيقة على الأرض، مع كل ما يقتضيه أمر كهذا من التزامات لا على الإسرائيليين وحسب، ولكن على الفلسطينيين أيضاً.
المهم، الآن، أن دخول اثنين من مقاولي الدم هما قطر وتركيا على خط الأزمة يُعقدها، والمهم أن مصر هي الطرف الذي لم ولن يتاجر بدماء الفلسطينيين. والمهم أيضاً أن طريق الآلام في غزة، وفي كل فلسطين، ما تزال طويلة.
khaderhas1@hotmail.com