ألغام”رب البيت”
ما ينسب إلى الرئيس اليمني السابق علي صالح، وما يصدر عنه من تصريحات حول المبادرة الخليجية تصفها بـ”المؤامرة الانقلابية”، مؤشر إلى انحدار خطير في الخطاب لا يكتفي برفض حبل خلاص تدلّى أمامه بقدر ما ينطوي على هرولة نحو خيار انتحاري يقذف بصاحبه إلى “الحفرة” لأنه لم يستطع التحرر من جاذبية الثقب الأسود وغواية الهاوية!
لقد تدلّى أمام الرئيس المخلوع حبل النجاة من قبل السعودية ودول الخليج في 23نوفمبر العام الماضي حين وقع على المبادرة الخليجية بالرياض، وكان يومها أشبه بالولد الشقي والمدلل من قبل العاهل السعودي ومن يقف خلفه، وها هو الحبل يكاد ينقطع، ومعه يكاد المسار الكارثي الذي اختطه القذافي يتكرر بمزيج من التلاوين المأساوية/ الملهاوية الذي امتد له من رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، مطلع يونيو 2011م حين تجرأ أردوغان على نصح القذافي وكانت نصيحة خالصة وسخية ولكنه لم يكن من صنف السياسيين الواقعين بتعريف الحد الأدنى!
وفي العموم لا يختلف حال ديكتاتور ليبيا السابق عن حال الرئيس اليمني السابق في مستوى التحلي بالعناد العصابي المفرط، والتعلق الجنوني بالسلطة حتى تغدو في نظر المصاب بجنون العظمة هي السبب في بقائه وبقاء شعبه.
لقد كان “عميد الحكام العرب” وكان اللاحق “فارس العرب” وغيرهما من المتبرقشين بهذه الألقاب مركوبين بالعمى، والمعلوم أن الدكتاتور الأعمى يخاطب الجمهور بما يريد أن يسمعه، ويريد من الجمهور أن يرى بعينيه ويتكلم بصوت “القائد الغارق في تيه سلطته الواسعة، والفاقد للاتجاه وللإحساس بالواقع والزمن وإيقاع الحياة اليومية والتاريخ.
وفيما خص “القذافي” و”صالح” كانت الأنا المتضخمة لا تسمع إلا نفسها وتنتمي لعالم اللامعقول بتجلياته العارية مع تحولها إلى “أنانية مركزية” لا تعرف الحدود بين المباح والممنوع والممكن والمستحيل، وتضرب عرض الحائط بالقوانين الوضعية والضوابط الأخلاقية التي يضيق بها شخص “القائد”، فهو جانح بامتياز ومنتهك أول للقانون من باب اعتناقه لشعار: “أنا ومن بعدي الطوفان”.
وقد كان الطوفان هو النبوءة الصادقة الوحيدة التي ترددت كثيراً على لسان هذا “القائد” البومة، عندما دخل في الساعة الخامسة والعشرين التي يفوت معها كل إنقاذ.
لقد كان بمقدور “القذافي” التقاط حبل النجاة الذي تدلى أمامه مطلع يونيو العام الماضي وكان بمقدور “صالح” التقاط حبل خلاصه في 23نوفمبر وبعده، ولكنه أهدر الكثير من الوقت وتعابث بالفرصة، وضيق على نفسه هامش الحركة والمناورة وكأنه يتقصد التماهي بالمصير الحالك والمهلك لـ”العقيد” أو يصر على أن يكون برهاناً مجسماً لحقيقة أن من يقع في عين العاصفة لا يراها، وكيف له أن يراها وهو في عينها.. كيف له وقد عجز عن تلافيها يوم كان في مرماها.
لقد كانت الإقامة على الانتهاك هي عنوان سيرة “القائد” وخلاصة تعريفه، ولا فرق بين “العقيد” و “المشير” فهو كان –هما واحد بالمناسبة- مصدر الجنوح والفوضى والراقص الأشهر “على رؤوس الثعابين”، كما كان المحفز، المنشط، الملهم، المعلم، والموجه لمشاعر وانفعالات جمهور واسع من المحكومين الذين خرجوا من أقفاصهم بعد سقوط “الزعيم” وانطلق معهم وفيهم مارد انتهاك القانون والانتقام والثأر والدوس على حقوق الإنسان على غرار “رب البيت”. وإلى ما هو أبعد وأفدح، اندفعت الجموع الهائجة لممارسة رقصة الموت حول أسلاب الدولة و… “إذا كان رب البيت بالدف ضارباً و….الخ”!
وبعد انقصاف عنق “العقيد” وزوال عهده تكشف للعيان أن الانجاز الأكبر في مسيرته خلال أزيد من أربعة عقود من استيلائه على السلطة هو “تفخيخ المجتمع” الليبي بعد تكبيله بالحديد والنار، وكان المحصول الناتج عن ذلك هو انفجار صاعق بوجه الدكتاتور وفي وجه ليبيا المنكوبة بحكمه وتركته الثقيلة والتداعيات الخطيرة التي لا زالت تفاعلاتها تفت في جسم ليبيا أرضاً وإنساناً.
وها هي الألغام التي زرعها وكان عادلاً في توزيعها على كافة الأرجاء والأنحاء في ليبيا، تتفجر جميعاً ومعاً وبالتواتر والتتابع، فقد كان “حكيماً” في رعاية وتغذية نوازع الانقسام والموروث الانقسامي، وحتى عندما رحل وعلى وجهه كآبة أرض خراب كان يلفظ بوصية الاستعار واندياح الدوائر المتداخلة والجزر المتناحرة والبلاد غير القابلة على القسمة بين مئتي قبيلة.
هكذا أراد “القائد”.. أن تصبح ليبيا هباءً من القبائل والعشائر المتقاتلة، وذلك هو الإنجاز الفريد لـ”العقيد” الذي سقط صريعاً في 20 اكتوبر من العام المنصرم، ولم يخلف غير نظرات ذاهله ووجه دام، وفي الثلاث الدقائق الأخيرة من وقائع إلقاء القبض عليه وإعدامه كان بلا وجه وكانت لحظة الإعدام تجسد الاعتباط في ذروته العليا، وهو اعتباط جاء من ذات مدرسة “العقيد” الدكتاتور الضالع في سلطة الاعتباط والنزوة وصاحب أكبر سلطة اعتباطية في التاريخ.
ورحل “العقيد” بعد أن اختطف ليبيا ودفعها للوقوع في مخالب جبروت المجهول، والصراعات القبيلة والمليشياوية وقوى الأمر الواقع التي أفرزتها احتدامات ما بعد انطلاقة ثورة 17فبراير2011م، وتدافعت لتنهش السلطة وتستغل هشاشة الوضع السياسي وضحالة حضور السياسة، وضعف قيادة المرحلة الانتقالية التي لم تتمكن من رسم دائرة مركزية تمسك بالقرار وتدير السلطة بانتظار بناء النظام السياسي الجديد.
اختلاط الثورة بالثأر
والواضح أن الموروثات الانقسامية بين بنغازي في الشرق وطرابلس في الغرب والصراعات القبلية القديمة والتحاق كل قبيلة بميلشيا تخصها أو “تمليش القبائل”، ان جاز التعبير، وانتشار السلاح على نحو مهول لم يأت من فراغ بقدر ما تغذى من الفراغ المريع المتمثل في تقطع ذبذبات السياسة وفي غياب البرنامج السياسي والإداري الفعال لدى القيادة الانتقالية المتمثلة بالمجلس الوطني والحكومة.
المصيبة ان المليشيات والجماعات المسلحة لا تحترم القانون وتتمادى في الارتكابات الانتقامية والثأرية دون أن تطالها يد المساءلة والمحاسبة ويتحرك اليوم في طرابلس 11 فصيلاً مسلحاً، وقبل أيام فقط قام “ثوار” الزنتان بتسليم مطار طرابلس للحكومة بعد مفاوضات وارتهان لمنطق “الصفقة”، ولا زال “ثوار” قبائل الزنتان يرفضون تسليم سيف الإسلام، الوريث الذي كان مرتباً وممنهجاً لاستلام مخلفات أبيه، فهو غنيمة ثمينة ولن تسلم إلا بمقابل يخضع تقديره لمعايير القبائل في بلاد يجري فيها احتساب قيمة كل “شهيد” وتتحصل فيه كل قبيلة على المناصب الوزارية وغيرها تبعاً لما دفعت من دماء و “شهداء”، وضمن المعايير التي كانت تنظم إدارة الأمور في الأيام الأولى للغزوات والفتوحات الإسلامية وبمنطق التفضيلات بين أصحاب “السابقة” من المهاجرين والأنصار وغيرهم مع فارق أن ما يحدث الآن يتغلف بعنوان “الربيع العربي”، وهو ربيع بحق، ونأمل أن لا يطغى عليه البعد الاعرابي.
وإلى يوم الناس هذا لا زالت التداعيات والتفاعلات الناتجة عن شخصنة ليبيا في شخص “العقيد” والتعريف عليها باسمه تنطلق على شكل تناحرات وصراعات قبلية مسلحة في سبها وبني الوليد وفي أرجاء متفرقة من ليبيا الدولة رقم 17 من حيث المساحة في العالم ويقطنها أقل من ستة ملايين ولد أربعة ملايين، منهم- أي ثلثي السكان في عهد الدكتاتور.
الفيدرالية حين تفتح باب الانقسام
في نفس المجرى تنساب الكثير من الفعاليات والاستقطابات في الداخل الليبي، بما في ذلك المؤتمر الذي انعقد في 16 مارس بمشاركة ثلاثة آلاف من زعماء القبائل والسياسيين ورجال الأعمال الليبيين في بنغازي وتمخض عن إعلان تأسيس إقليم فيدرالي اتحادي بشرق ليبيا، واختاروا الشيخ محمد السنوسي ابن عم آخر ملوك ليبيا رئيساً للمجلس الأعلى للإقليم الذي استعاد تسمية اقليم “برقة” وهو يحتوي على ثلثي احتياطي النفط فيما يسكنه ربع السكان.
وعلى رغم مشروعية هذه الدعوة، بل هذا الحق لسكان “برقة” الذين عانوا الأمرين من استبداد واستعباد وتهميش وإقصاء المركز في طرابلس، إلا أن المأخذ على مثل هذه الدعوة يكمن في أنها جاءت في مناخ تمزق يهدد بسريان مفعول الانقسام في سائر أرجاء ليبيا وتحللها إلى عناصرها الأولية، ويتفاعل ذلك الانقسام مع مناخ انشطاري يهدد أكثر من دولة عربية بالتفكك، وكان من الأجدر الالتفات إلى التجربة الفيدرالية العراقية ومنحاها التفكيكي وليس التوحيدي- الاتحادي الفيدرالي- القوي والطاغي حتى الآن.
وفي الأثناء ليس بمقدور الإدارة القائمة التي احتجت قيادتها على إعلان “إقليم برقه” ولوحت باستخدام القوة لمنع ما يحدث ثم تراجعت بعد رفض واستنكار وقالت: إنها تقصد استخدام “قوة القانون”.. نعم ليس بمقدور هذه الإدارة إزالة أسباب سخط الذين يريدون الفيدرالية وفك الارتباط مع المركز، وتبديد شعورهم المقيم والقديم بالتهميش والإقصاء.
ويبقى أن الإعلان عن إقليم فيدرالي “اتحادي” في منطقة “برقة” بدون توافق أو اتفاق وفي غياب حكومة مركزية قوية ومؤسسات دولة، بما في ذلك مؤسسة الجيش الذي ما زال في طور التكوين، يستبطن دعوة لتقسيم ليبيا، كما يرى أغلب المراقبين.
ما يزيد الأمر سوءًا هو أن ورقة النفط صارت تُستخدم للابتزاز من قبل القبائل في تعاطيها مع الحكومة ومع بعضها، كما صارت تفسر العديد من التمردات القبلية التي تتخالط وتتقاطع أسبابها مع منطق الدوائر المتداخلة بين الجماعات القبلية المسلحة وتلك المجموعات المستحدثة من “القبائل” الطوعية المركبة بفعل روابط الانتماء السياسي والتاريخ الجهادي المشترك.
في كل الأحوال لم تكن مركزية طرابلس وبالأحرى مركزية “القذافي” تمت للوحدة بصلة، فقد كانت ولا زالت طبيعتها الانقسامية وفسادها من الأسباب الرئيسة لما يحدث الآن من انفجارات وتمردات غير قابلة على التحكم والسيطرة.
لقد كانت “الوحدة” في عهد القذافي عبارة عن مقولة ايديولوجية سوَّغَت لاحتكار الحكم في قبضة رجل واحد أو عائلة واحدة، وكان ولا زال مصير أي وحدة تقام بالغلبة هو الانفراط وذلك ما كان عليه الحال في السودان حين جربت الوحدة وتحولت بفعل الغلبة إلى عامل منفر وبغيض ومرفوض بالمطلق.
ذلك هو المصير المرتقب لكل نماذج الوحدة التي قامت بالغلبة والإلغاء ومنها نموذج الوحدة اليمنية التي أطلقت عليها رصاصة الرحمة في حرب 1994.. حرب الاستيلاء وإلغاء الجنوب وهيمنة مركز النفوذ القبلي العسكري في صنعاء عن طريق القصف المدفعي والديني و…!
ليس لـ”العقيد” من يكاتبه غير “المشير”
تغنّى معظم البواقين والطبالين وحملة مجامر البخور وشعراء بلاط الرئيس السابق صالح بأرذل صفاته وتباهوا به كـ”داهية” فريد من نوعه، ولا يشبه إلا نفسه، وليس بالإمكان مضارعته في بعض صرعاته وتطيراته! فهو –مثلاً- ليس الوحيد الذي اخترق حمم النار والحصار التي اشتد أوارها على القذافي ولم ينقطع عن التواصل معه وشد أزره ومناصرته بشتى أشكال المخاتلة والبهتان، وتأييد مواقفه وبطولاته.
وبما أنه الرئيس “الداهية” المتحدر من سلالة اللامعقول فقد بزّ أسلافه وتحدّى الخيال وأفرط في اللامعقول باقتراف مغامرة لم يسبرها أي وصف حتى الآن. فهو أرسل مبعوثه الشخصي والخاص لزيارة القذافي في وكره بباب العزيزية، وكان المبعوث من خارج طاقم الحكم وطاقم العائلة الحاكمة، وخارج نطاق تقدير ومشورة المستشار السياسي العتيد للرئيس.
كان اختياره لرجل أعمال يكتنفه الالتباس والغموض والاشتباه، ويثير الفضول والريبة ويحفز الخيال البوليسي بمغامراته وعلاقاته مع رؤساء الدول والعصابات والسماسرة والاستخبارات الكونية وابتعاثه كرسول وصاحب شعار “من القصر إلى الخيمة” اختياراً لا يمكن سبر معناه! فالمعنى في قلب الرئيس الذي بعث بمِرساله ورسوله لزميل دكتاتور يترجح تصنيفه بين القبيلي والبدوي ويلفظ آخر أنفاس السلطة، ويلوذ بأحلك وآخر “زنقة”، ويرقد على مليارات الدولارات.
كان الاختيار لرجل الأعمال “شاهر عبد الحق” يحتاج لأكثر من قراءة فهو مبعوث غير عادي بالمرة، و”خاص” جداً، وله مغامرات وعلاقات مع رؤساء الدول والعصابات والسماسرة والمافيات وشبكات الاتجار بالرقيق الأسود و “الفلاشا”.
وبقطع النظر عن القراءة البسيطة التي اختزلت تفسير ذلك الحدث (المغامرة) في حدود ابتعاث رجل أعمال يملك طائرة خاصة يمكن أن ترجع بحمولة ضخمة من الدولارات، والقول بأن الرئيس “قنّاص فرص”، ويعلم تماماً بمردود هذه الخطوة الذكية.
وبعيداً عن ما حدث من اضطراب في بورصة التكهنات الفقيرة كان الأحرى قراءة الأمر من زاوية ثانية.. كيف يرى الرئيس صالح، بل كيف يتمرأى بـ”القذافي”.. وما الذي يمكن أن يحدسه أو يستشفه في منحى انجاد سفينة “الصالح” الجانحة للغرق عبر ضوء خافت يأتيه من طرابلس، علاوة على المدد النقدي بالتأكيد أو حاصل ضرب ريشه، القبيلي، في صنعاء على وتر “البدوي” في باب العزيزية.
وثمة أسئلة أخرى تتصل بكيفية تأثيث المجال لإنشاء أسرة حاكمة في اليمن (الصالح) وتأهيلها للاستئثار بالحكم وتوارثه إلى أبد الدهر، وامتداد نطاق شبكة (الصالح) وتحكمها بمفاصل الحكم، ومراكز القوة إلى الدرجة التي جرى فيها بناء مؤسسة عسكرية أمنية تجارية موازية ثم جيش بديل يعنى بحماية العائلة الحاكمة ورئيسها (النظام- كما يقال). وما كان لهكذا مؤسسة أن تقوم إلا على انقاض مؤسسة الجيش المتهالكة وعلى خلفية التقويض الممنهج لتلك المؤسسة، وكذلك للمؤسسة الأمنية التقليدية البدائية التي أزيحت واختطفت صلاحيتها لاحقاً من قبل عناصر وقوى الأمن العائلي: الأمن المركزي، الأمن القومي.
ثمة أسئلة عن شبكة العائلة الحاكمة وتأهيلها لتكون مالكة عبر الاتكاء على مصفوفة رمزية تقفز باسم “الصالح” إلى صدارة الأشياء والأسماء.. “مجمع الصالح” و “جامع الصالح” و “جمعية الصالح” وكل ما يندرج في مجرى اقتفاء حذافير ما صار في ليبيا ابان عهد حكم عائلة “القذافي”.
ثمة أسئلة عن العلاقة بالحلفاء والمنافسين السياسيين وبالمدينة والبحر، خاصة مدينة عدن بعد استباحتها في عام 1994م.
وأسئلة عن إنجاز صيغة “المجتمع المفخخ”، وغيرها من الأسئلة التي ستكون مدار مقاربتنا في الحلقة القادمة.
mansoorhael@yahoo.com
كاتب يمني – صنعاء