يزعمون أنهم يرحلون في عطلة أو في جولة سياحية بالباخرة. أو أنهم مجرّد سياح يحتذبهم جمال ساحل تركيا. في كل يوم، يمتلئ رصيف المسافرين في مرفأ “طرابلس” بشمال لبنان بشبان سوريين يردّدون هذا الكلام الهازل بدون اقتناع.
في الباص الذي نقلهم من الحدود، قبل ذلك بذلك، كان الأكثر خبرة بينهم قد أبلغوا الآخرين: أن مرفأ طرابلس يقع تحت سيطرة “الأمن العام”، وهو جهاز مخابرات لبناني يخترقه حزب الله، أي عدوّهم الثاني بعد نظام بشّار. لا مفرّ من التكتّم، إذاً. ولا يتحدث هؤلاء بحرية إلا حينما يكونون على متن السفينة التي تؤمن الرحلة، ذهاباً وإياباً، مع مرفأ “مرسين” التركي.
لكن يبدو أن تعليمات الحذر لم تبلغ الشاب الكبير الجثة الذي يرتدي “باسكيت” وجاكيت من الجلد، والجالس في قاعة الإنتظار، وبجانبه فتاة صغيرة وإمرأة تضع غطاء رأس ملوّناً. إلا إذا كان قد تَعِبَ من لعبة التظاهر غير المقنعة. فبعد دقائق قليلة يقول الأب الشاب “أبو أحمد”، وعمره ٢٨ عاماً وهو من “حمص”، أنه هارب من الجيش السوري: “لن أقاتل لا من أجل النظام ولا من أجل الثوار”.
إن السوريين يظلون خاضعين للتجنيد حتى سن ٤٠ عاماً. وحتى ذلك السنّ، يمكن تجنيدهم في أية لحظة، بصفتهم إحتياطيين، وإرسالهم إلى الجبهة إذا كان حظهم عاطلاً. أما الذي يتلقى امر تجنيد ولا يلبّي الدعوة خلال أيام، فإنه يتعرض للتوقيف عند أي حاجز عسكري أو لدى متابعة أية معاملة إدارية.
ويقول ”أبو أحمد” أن ذلك ينطبق عليه: ”فلم أعد قادراً على الخروج من منزلي. ولكي أقدم طلب جواز سفر لإبنتي، فقد اضطرت لتزوير وثيقة تثبت أن وضعي العسكري نظامي. وكلّفني ذلك، مع الرحلة من ”حمص” إلى ”طرابلس”، ٧٠ دولار.
إن الخوف من التجنيد، وفترة ”الإحتياط العسكري” المديدة، هي أحد الأسباب التي تدفع السوريين للهجرة الكثيفة منذ الربيع نحو أوروبا. ويُضاف ذلك إلى حالة اليأس الشامل التي يعيشها السوريون بعد ٤ سنوات ونصف السنة من القتال الذي لا يبدو أن له نهاية. وما يزيد من رغبة الشبان القابلين للتجنيد للفرار إلى الخارج أن النظام، الذي تُعوزه اليد العاملة العسكرية، شرع منذ حوالي السنة في حملة مطاردة للمتخلفين عن الخدمة العسكرية.
”إنها الروليت الروسية”
وباتت أجهزة السورية تكثر من المداهمات المفاجئة في المقاهي، ومحطات الباص، ومداخل الجامعات. ويقول ”أبو هاني”، وهو أيضاً من ”حمص” وكان أستاذ رياضة: ”إنها الروليت الروسية. تفلت من الحاجز الأول، ثم الثاني، ثم يعتقلونك في الثالث. لم أعد أحتمل العيش في هذا القلق الدائم”.
بالنسبة لكل الشبان، فإن “طرابلس” هي مرفأ النجاة. ويشكل الهاربون من الخدمة العسكرية نسبة كبيرة من مئات السوريين الذين يتدفقون كل يوم على هذا المرفأ اللبناني. ويكفي جواز سفر صالح، وتذكرة باخرة إلى “مرسين”، ومستندات خدمة عسكرية سليمة، أو مزوّرة إذا دعت الحاجة، لاجتياز الحدود السورية. ويقول مساعد مدير المرفأ، “عبد الرحمن حجّار”: “في حين كانت هنالك سفينتان فقط تؤمنان رحلتين أسبوعياً إلى “مرسين”، باتت هنالك سفينتان تتجهان كل يوم إلى تركيا خلال شهري يوليو وأغسطس من السنة الحالية “. وحدث أحياناً أن وصل عدد المسافرين إلى ٢٠٠٠ يومياً.
الفرار قبل التخرج من الجامعة
يوجد بين المهاجرين عدد كبير من طلاب الجامعات الذين كانوا على وشك الحصول على شهادات التخرج. ويستبق هؤلاء لحظة التخرّج لأنهم، حينها، يصبحون خاضعين للتجنيد الإجباري. وقال لنا “محمد”: “لقد استفدت من بضعة الشهور المتبقية لي لإنهاء دراستي الجامعية للهرب. لا أرغب في أن أصبح قاتلاً. في الخارج، يمكنني أن أعمل بمهنتي. وتلك أفضل طريقة لخدمة وطني”.
إضطهاد الحماصنة
ويوافق رفيقه ”عبد السلام”، وهو مدرس لغة إنكليزية، على كلامه. ويشرح أنه مُعفى من الخدمة العسكرية لأنه إبن وحيد. ولكنه، هو أيضاً، يرغب في تجربة حظه في الخارج. ويقول: “أنا من حمص، عاصمة الثورة، وفي الوضع الحالي فتلك صفة يصعب حملُها. هنالك مناخ إنتقام في المدينة منذ خروج الثوار منها في ٢٠١٤. إن الجنود ورجال الشرطة يتعرّضون لنا عند الحواجز. وعند الحدود، احتجزني الجندي طوال ٤٥ دقيقة. كنت أرتجف من الذعر..”.
ومع أن هؤلاء الشبان مناوئون لنظام الأسد، فإن أحداً منهم لم يفكّر في الإنضمام للتمرّد. ويقول “يوسف”، وهو طالب فلسفة، “لا أريد أن أموت”. وقد شعر بالذعر حينما اقتربت المعارك من مدينته، “حماه”. “ويقول “عبد الرحمن”، وهو مهندس من “درعا”: “إنهم ليسوا أفضل من جنود النظام“. ويزعم أن الثوار نهبوا مكتبه “قبل أن يهاجروا إلى ألمانيا أو السويد”.
إن خلاص هؤلاء كلهم هو سفينة عبور تتألف من ٣ طوابق، إسمها “ليدي سو”. وما أن يفتح بابها الخلفي حتى يهرع “أبو أحمد”، و”هاني”، و”محمد”، حاملين حقائب الظهر الجديدة التي اشتروها قبل أيام. ويحمل كل واحد منهم، كذلك، غطاء سميكاً مطوياً في كيس بلاستيك، استعداداً لليالي التي سيقضونها على طرقات أوروبا الجنوبية. إن نظراتهم توحي بالتعب والتأثر. فهم يدركون أنهم مقبلون على حياة جديدة بعد ١٥ ساعة.
الأصل بالفرنسية: