تشكيل الحكومة، في حد ذاته، انتصار لمشروع التهدئة الوطنية،لأن اللبنانيين كانوا ينتظرون هذا الحدث ليتنفسوا الصعداء قليلا، ولذلك لم نكتب رأينا إلا بعد تشكيلها: إنها بطريقة تشكيلها، حكومة تخريب الدولة عبر الشراكة الوطنية، بالمعنى المأسوي للكلمة، بعد أن كانت بعض القوى السياسية في السابق تمهد للتخريب بالتعطيل. مبرراتنا في إطلاق هذا الحكم القاسي هي التالية:
أولا:أجمع مؤيدو الحكومة وخصومها، المشاركون في جنة سلطتها والقابعون كالأيتام خارجها،المخططون لها ومنفذوها، ومع هؤلاء جميعا رئيسا الجمهورية والحكومة أيضا، وإن لم يصرحا بذلك، كلهم أجمعوا على أن هذه الحكومة لن تكون إلا حكومة انتظارية. هي ستنتظر نتائج المفاوضات السورية الاسرائيلية، والإيرانية الأميركية، والإيرانية الأوروبية، وستنتظر أحداثا جديدة على الصعيد اللبناني، الخ. بعدها إما أن يقلع المعطلون عن ممارسة دورهم السابق أو أن يستأنفون عملية التعطيل أو يستبدلونها؛ وستنتظر الانتخابات الرئاسية في أميركا أو في إيران، أو زيارات الرؤساء والسفراء والمبعوثين والدبلوماسيين، والمساعدات الدولية، السياسية والمالية والعسكرية، الخ… وستنتظر من بين ما تنتظر، الانتخابات النيابية اللبنانية في الربيع الآتي من العالم المقبل. إذن هي لن تحكم، إنها ستدير أزمة الانتظار.
ولا يعني الانتظار سوى تكريس عجز القوى السياسية اللبنانية عن إدارة شؤون البلاد، ومع ذلك فإن هذه القوى تصر، رغم أنف الشعب اللبناني، على منعه من أن يصير شعبا، ومن أن يكون له دولة، وعلى شرذمته إلى طوائف وملل وبطون وأفخاذ، وعلى ربط مصيره بمصير كل الصراعات الدائرة والتي ستدور على سطح الكرة الأرضية،كما تصر على أنها الممثل الشرعي والوحيد “للشعوب” اللبنانية بجميع ألوانها وأعلامها. نعم، هكذا ومن دون أدنى خجل أو استحياء.
وتصر تلك القوى على جعل المصالح الحزبية مصالح عليا للأمة، على غرار ما فعلته بالأمة كل الانقلابات ” الثورية” والرجعية، ولن يتبين أن هذه المصالح ليست للأمة بل لنزوات الثوريين ولجيوب المستنفعين ومكاسب المتكسبين وانتهازية الانتهازيين وتجار السياسة… إلا بعد خراب البصرة.
وتصر على أنها خير قيادة أخرجت للناس فتتقاذف الشتائم وتتبادل الاتهامات، وبالسرعة ذاتها لا تتأخر معانقة المتآمرين والمعطلين والخونة واللصوص (وهذه بعض لغتهم) وتبادل القبل والمجاملات والمآدب…ثم لا تكون محاكمة إلا للوطن والمواطنين الذين يدفعون من حياتهم وأموالهم وكراماتهم ثمنا لقهر سياسي يمارس بحقنا، نحن الذين نريد وطنا ودولة على غير شاكلة السبابين والشتامين.
ثانيا:قد يكون وزراء الحكومة، أو معظمهم، من أفضل خلق الله، وقد يكونون من أشرف الناس، ولنا بينهم أصدقاء نعتز بصداقتهم، وقد يكون من بينهم من يعتز الوطن بكفاءته ونظافة كفه وإيمانه إيمانا لا يحد بالانتماء إلى لبنان وطنا نهائيا ودولة ديمقراطية، الخ… غير أن الحكومة ليست حاصل جمع بسيط. إنها تركيب حسابي مركب ومعقد، وهي لا تقاس بكفاءة أعضائها بل بظروف اختيارهم وبطريقة تشكيل الحكومة التي ضمتهم…بهذا المعنى تبدو الحكومة وبالا على الدولة لأن ظروف تشكيلها بالذات لم تبق من المعايير الوطنية والقانونية والدستورية ولا من القيم الأخلاقية والاجتماعية ولا من معايير الكفاءة حجرا على حجر.
لم يسبق، في تاريخ الحكومات اللبنانية، منذ الاستقلال حتى اليوم، مرورا بأحلك الظروف وأكثرها تجسيدا لنزوات الميليشيات وممارساتها ، أن اجتمع السياسيون على مأدبة الحكومة بهذه الطريقة الفظة من تقاسم الوطن. هذا لك وهذا لي،هكذا، صادروا، من غير وازع ولا رادع، إرادة الناس و توزعوا الوطن وتقاذفوا بشره وحجره ومؤسساته وإداراته كقطعة حلوى. لم تظهر المحاصصة، كتعبير عن حضارة بائدة وعقلية بالية مثلما ظهرت في تشكيل الحكومة الحالية.
المحاصصة كانت أيام حكم السلاطين، ونظام الراعي والرعية والإقطاعي والفلاحين. هكذا، ببساطة، استعاد سياسيو لبنان دور مقاطعجية القرون الوسطى السلطانية وضربوا عرض الحائط كل منجزات الشعب اللبناني في الحرية والديمقراطية ودولة القانون، ونصبوا أنفسهم بالقهر والتعسف، ممسكين برقاب الشعب اللبناني وأمنه ومصالحه الوطنية واليومية والحياتية، وقرروا بالنيابة عنه، باسم مصالحهم الضيقة،إيكال أمر المستقبل الوطني كله لرياح الصراعات الإقليمية والدولية، وإعادة دولاب العصر إلى الوراء، إلى دويلات الملل السلطانية و المزارع الطائفية والمذهبية. ولا يقولن أحد إن لبنان دخل في هذا المسار و لم يخرج منه منذ تشكيله أول مره، فمأزق المحاصصين لن يجد حله في حروب المذاهب والطوائف، وفي هذا الوطن، الصغير بحجمه الكبير بدوره، من الطاقات والكفاءات والإمكانات البشرية ما يجعلنا نعتقد أن مستقبل لبنان لن يكون بغير الدولة المدنية، دولة القانون والكفاءة والديمقراطية.
ثالثا: طريقة تشكيل الحكومة انتهاك فاضح للدستور والقوانين والأعراف. لا رئيس الحكومة ولا رئيس الجمهورية هما من قام بتشكيلها. اقتصر دورهما على تجميع “الحكومات” في حكومة. كل فريق شكل حكومته، وتدخل في تشكيل حكومة سواه. لسان حل الجميع: ما لنا لنا وما لسوانا لنا ولسوانا. ولم يقصر أحد، على كل حال، في القول باحتمال أن تكون الحكومة حلبة ملاكمة، خصوصا أن كثيرين من الملاكمين تدربوا، طيلة سنوات ثلاث، على كل فنون الطعن وتقاذف التهم والشتائم، كما تدربوا على كل صنوف الكيد، وقدموا عصارة كيدهم في اختيار الأسماء التي تجسد تحديا أكثر من تجسيدها كفاءة.
كان من الأفضل لو لم يشارك الرئيسان في حفلة تقاسم الحصص هذه بهذه الطريقة التي استدرجا إليها، وكان مما يليق بهما وبموقعهما، كمؤتمنين على إعادة بناء الدولة، أن يقوما باختيار الوزراء بما ينسجم مع اتفاق الدوحة ويحترم النسب التي أقرت هناك، بدل التخلي عن دورهما أو تقليصه.
رابعا: أفرغ قادة لبنان السياسة من محتواها السامي حين تنافسوا على المقاعد وفاضلوا بينها وجعلوا الوزارات مراتب ومقامات. بعضها للسيادة، إذن بعضها الآخر ضد السيادة، بعضها خدماتي كأن بعضها الآخر للوجاهة فحسب، بعضها للزفت والتنفيعات والتوظيفات، إلى الحد الذي صارت معه إدارة شؤون الدولة مطية لاستخدام السلطة أسوأ استخدام.
خامسا: أظهرت النقاشات حول البيان الوزاري أن التنافس ليس على قيام الدولة وتعزيز دورها بل إنه تنافس معها، على المقاومة وعلى السيادة وعلى التنمية، ما يكرس أسوأ أشكال الأمر الواقع وأسوأ قوى الأمر الواقع : ميليشيات تلبست لبوس الشرعية والدولة، بسلاح وبغير سلاح، ثم راحت تسعى، باسم الشرعية هذه لابتكار صيغة دستورية جديدة، قوامها تحويل أجهزة الدولة وإداراتها، بعد توزيعها بالمحاصصة، إلى مديريات لا تديرها حكومة الوحدة الوطنية، بل “حكومات” داخل الحكومة، ولابتكار صيغة مواطنيه جديدة قوامها الانتماء إلى قبائل وبطون وأفخاذ من أطر هي دون الوطن، أو إلى قضايا وقوميات وعصبيات تتجاوز حدود الوطن ومصالحه.
أخيرا، قامت هذه الحكومة الانتظارية انطلاقا من إجماع ” غير وطني ” على قانون انتخاب يجدد أسباب الحرب الأهلية اللبنانية.الذين صاغوا الاتفاق رسموا، كل على طريقته وهواه، صورة المجلس النيابي المقبل، لكنهم على اختلاف الطرق والأوهام والتمنيات، وعلى ضراوة الصراعات والحروب والطعون المتبادلة، اتفقوا بأسرع مما كنا نتصور، على قانون المحاصصة إياه الذي يتوزع الوطن ويتقاسمه كقطعة حلوى.
نأمل أن يكون تشكيل هذه الحكومة فرصة لالتقاط الأنفاس من أجل وصل ما انقطع بين اللبنانيين،لكننا نطلب من الحريصين على بناء الدولة، ومن بينهم وزراء في هذه الحكومة،أن يعملوا على تجاوز الثغرات المميتة التي رافقت تشكيلها،سائلين الله أن يلهم قادة لبنان الجرأة الكافية للاعتذار من الشعب اللبناني على ما اقترفوه بحق الدولة والدستور والقوانين، وأن يأتيهم الوحي من أوليائهم، فيعتذروا من أنفسهم ومن رعاة اتفاق الدوحة، ويعودوا عن نقاش قانون الستين إلى كلمة سواء تجمعهم حول قانون آخر(على أساس النسبية والدائرة الواحدة) يكون من شأنه توحيد الوطن وبناء دولة الحق والقانون.
moukaled47@hotmail.com
* كاتب لبناني