-1-
“هناك غراب يحوم حول رأسي، ولا أرى فراشات تحوم في المشهد.
قد نتخلص من خوف قديم، لكن أنياب خوف آخر تستغيث في الجسد المريض، كأن ثقل الفاتورة وطول مدة دفعها، راكم خسائر لا مرئية في الصمت، خسائر تحتاج إلى وقت طويل لترميم الشخصية السورية. فنحن لم نفحص هويتنا يوما، بسبب بلاغة مستوردة من كتب الإنشاء، وها نحن نعيش عرينا الكامل، على رغم أجنحة الطواويس المستعارة في استعراض فردوس الغد.
لست متفائلا بصورة بلاد أخرى لا تشبه بلاد اليوم. فالألغام مزروعة تحت أساس البناء، وسوف تنفجر على دفعات. ذلك ان طابور الوحوش المقنعة التي تنتظر حصتها من الفريسة، أكثر من أولئك الذين يرسمون خرائط الطمأنينة”.
الروائي السوري خليل صويلح
-2-
حين ذهب الكاتب السوري ابراهيم الزيدي لسؤال الدكتور سعد الدين كليب عن:ما معنى سوريا اليوم، إن لم نتحدث عن سوريا الغد؟
أجابه الدكتور كليب المقيم حتى الآن في حلب، ويدرس في جامعتها: يبدو الحديث عن سوريا الغد، ونحن نعيش الفوضى الدموية يوما بيوم، نوعا من الترف النظري. فنحن لا نكاد ندفن ضحايا اليوم حتى نتهيأ لدفن ضحايا الغد، على مساحة التراب السوري.
نحن في ساحة حرب بالوكالة، ساحة حرب وقودها الناس والحجارة، ومنا الأرض والضحايا والبكاء، ومن الدول الراعية المال والفتاوى والسلاح، ولكن مهما امتدت الحرب، ومهما امتدت متوالية العنف والعنف المضاد، فلابد من سوريا جديدة. هذا هو لسان حال السوريين اليوم، وبصرف النظر عن مواقفهم السياسية المتدرجة بين أقصى المعارضة وأقصى الموالاة، فإن سوريا جديدة تتخلق. ولا اعتقد أنها سوف تختلف عما تم تداوله واعتماده في الأوساط السياسية والشعبية في مرحلة “الحوار الوطني” منتصف 2011 وفحواه الدولة المدنية الديمقراطية.
وهنا تكمن المفارقة المأسوية التي تتمخض عنها أشد الأسئلة إيلاما: لماذا هذه الحرب العبثية إذاً؟ والى متى؟ وهل كنا بحاجة الى كل هذه المأساة حتى ندرك ان لا احد يستطيع اقصاء احد، وان سوريا للجميع وبالجميع وفوق الجميع.
-3-
اما الروائي ابراهيم العلي فقد اخذت تساؤلاته بعدا تشاؤميا فهو يقطن بمدينة الرقة وبحسب الكاتب –ابراهيم الزيدي- ان الحالة التشاؤمية تميز ابناء الرقة دون سواهم، باعتبارها المدينة الوحيدة التي تحكمها “داعش”.
يرى العلي ان هذه الحرب: “لن تنتهي ابدا. لم تبدأ هذه الحرب لتنتهي! أجل لن تنتهي الحرب قبل إجراء جرد شامل لكل موجوداتنا العقلية واللاعقلية.
يجب ان نبدأ الجرد منذ العام 533 ق.م، تاريخ أول احتلال فارسي لسوريا”.
-راجع ملحق النهار البيروتية الثقافي: كيف يفكر مثقفون سوريون في الداخل، ابراهيم الزيدي
-4-
فيما يمارس المثقفون السوريون المقيمون في الداخل مراجعات لا ينقطع سيلها ويعولون على الخلاص من بوابة الوعي وعبر الإدراك العميق لأزمة الوعي المخيفة التي تسببت في كل هذا الذي يحدث، والإدراك الأعمق لحقيقة انه لا يمكن إعطاء الحرية إلا بعد التمكن من ثقافة ممارستها.
فيما ينشغل المثقفون السوريون بهذا النوع من الأسئلة، على الرغم من ان سجال الحرب المرتفع هو “اللغة الوحيدة”، لا يلتفت جل المثقفين اليمنيين لواقع انحدار بلادهم إلى قعر هاويات بلا قرار.
في الأثناء ثمة مفارقة صاعقة تتمثل في تسويق “النموذج اليمني” كوصفة ناجعة لتخليص سوريا من براثن كارثة مهولة توشك ان تفضي بها إلى مجرد ذكرى.
ويبدو أن ابتلاء اليمن بالضحالة المعرفية وافتقارها الشديد لمن ينتج المعرفة الخاصة بها من عناصر “النخبة” الثقافية والفكرية هو الأسوأ والأنكى بالقياس الى ابتلاء غيرها من بلدان “الربيع”.
والشاهد على ذلك هو غياب القراءة الايجابية والتفاعلية لمآلات تراجع الاهتمام الدولي أو مآلات انقسام الرعاة لـ”المبادرة الخليجية” على المستويين الاقليمي والدولي، خاصة وان معقد الرهان على خروج اليمن الى بر الامان كان ولازال هو الموقف الدولي والمتابعة والدعم والفعالية المتصاعدة التي ينبغي ان يكتسيها هذا الموقف على خلفية تفاقم عوامل نسف “المبادرة الخليجية” والعملية السياسية التي يشرف عليها المانحون والرعاة وتحويل “المبادرة” الى أطلال وأنقاض وخرائب.
في هذا المنحى لن نجدف بعيدا عن الواقع لو قلنا ان الاهتمام الدولي والانعطاف الغربي الحاد نحو “ربيع اوكرانيا” سيكون على حساب تخريف اليمن وتجريفها، علاوة على غيرها من الدول العربية المضروبة بزلزال الاحداث التي تغلفت بعنوان “الربيع العربي” مع استثناء حذر لمجرى التطورات في البلد الباكورة: تونس.
الواضح ان اليمن ستكون منكوبة اكثر من غيرها بانقسام الموقف الدولي وتداعياته وتردداته بعد اندلاع “ربيع أوكرانيا” وبانقسام الموقف الاقليمي بعد الانقسام غير المسبوق في الموقف الاقليمي واتخاذ السعودية ومعها دولة الامارات العربية المتحدة والبحرين لقرار سحب السفراء من الدوحة.
“ربيع أوكرانيا” حين يعادل خريف اليمن وتجريف بقاياها
والمعلوم ان اليمن ساحة هشة للغاية وهي تتأثر بتلك الانقسامات بسرعة البرق، حيث تتولد عنها استقطابات حادة كما تفضي الى التناسل والتكاثر البكتيري للمحاربين بالوكالة والاحترافيين في مجال التكسب والارتزاق من المتنازعين في دول الجوار الخليجي وعلى مستوى العالم وأصحاب المصلحة الحقيقية في تكريس اليمن كساحة للحروب بالاصالة وبالوكالة، وأصحاب المصلحة في الحيلولة دون إنجاز المشروع وبالاحرى الحلم المستحيل بالنسبة لغالبية اليمنيين: الدولة.
ان تلاشي وانحراف الرادار الغربي وتحوله نحو أوكرانيا سيضاعف من اخطار الصوملة التي تحيط باليمن كما تغتلي وتتفاقم في داخلها، خاصة وان تحول ذلك الرادار الى مواقع اخرى يعني فيما يعني ان تترك اليمن لتواجه مصيرها بنفسها وذلك دون مستوى قدراتها نخبا وشعبا، او نخبا وشعوبا وقبائل لا تتعرف على بعضها إلا بالحرب.
والراجح ان المصير سيكون قاتما، واليمن مؤهلة اكثر من غيرها للتوغل في ادغال واحراش غابة هذا السيناريو الكارثي: الصوملة.
اليمن بلد يعتبر فيها الحديث عن مؤسسة عسكرية أو جيش وطني أكذوبة مسلحة كبيرة، كونه أقرب ما يكون الى كتائب “القذافي” أو الى كتائب منقسمة ومتوزعة الولاءات والاجندة بين مراكز القوى وجنرالات الحرب وسادة الخراب.
وعلاوة على وضع هذه “المؤسسة” التي لا تشبه قط وبالمطلق المؤسسة العسكرية في تونس أو مصر وحتى في سوريا فإن الحكومة في صنعاء فاسدة وفاشلة ومستمرة بقوة قصورها وبتحريك من أصابع نفوذ مراكز القوى الفاسدة والتدميرية التي اعتمدت مبدأ التقاسم والمحاصصة الذي كان قد زج بالبلاد الى محرقة حرب صيف 1994 وتمزيق أواصر الوحدة الهشة بين شمال البلاد وجنوبها وها هو يوشك أن يفضي –اذا ما استمر الحال على ما هو عليه واذا لم تتدخل الخوارق والمعجزات- الى تمزيق ما تبقى من أواصر الالفة وجوامع الجغرافيا في عموم الارجاء.
ان فساد الحكومة وفشلها في حل أي مشكلة من مشاكل البلاد المزمنة والمتراكمة، وعدم قدرتها على وضع أي لبنة ولو بسيطة في سبيل بناء “يمن جديد” فتح الباب واسعا لشتى عناصر العنف والتطرف الاسلاموي والقبلي والطائفي والمجاني والعبثي، كما جعل من اليمن ثقبا أسود وساحة جاذبية للفارين من “داعش” في سوريا و”جبهة النصرة” وكافة فضلات وفوائض العنف التي اغلقت دونها ساحات البلدان الاخرى وانفتحت امامها ساحة اليمن على خلفية ما تشهد من انقسام رأسي وافقي في شتى مؤسساتها وفي مراكز صناعة القرار، علاوة على ان “تنظيم القاعدة” واخواته ليس برانيا في اليمن بقدر ما يتمتع بحضور هيكلي متجذر ومقنع ومكتسح للمفاصل الحساسة والهامة.
ومن امارات الساعة اليمنية وبالاحرى “الصوملة” ان الدولة هنا –ان جاز القول بدولة- غارقة في نزاعات تبتلع كل المواعيد والوعود ببناء مؤسسات الدولة فهناك امارة حوثية في شمال شمال البلاد –معظم أرجاء التموضع الجغرافي الزيدي- وهناك معسكرات وامارات مستقلة لـ”القاعدة” في مناطق شاسعة من جنوب البلاد وشرقها وهنالك بعض المحافظات ومديريات بكاملها تحت قبضة “الحراك المسلح” وهناك عصابات ومليشيات لقطع الطرق وسلب المتاجر وحرق المصانع والقتل على الهوية من حين الى آخر.
وهنالك انتقال من طور الاغتيالات الفردية الى الاغتيالات الجماعية عبر السيارات المفخخة وغيرها.
ثم ان النظام السابق” وهو لازال جاثما على صدر البلاد وانفاس العباد، لم يترك دولة وما انفك يصر على ان يحول دون إنجاز مشروع الدولة، ويثابر بل ويقاتل من أجل مضاعفة اسباب صوملة اليمن عبر نشر وتمويل تجارة السلاح وتهريب الاسلحة وإدخالها من خلال شتى منافذ التهريب البحرية والبرية والجوية، وهو تهريب لا يقتصر على الاسلحة التي تتدفق على الاسواق وتغرقها كما تقلق وتبدد ما تبقى من عوامل السكينة كما تغلق بقايا الممرات الآمنة التي لم تطبق عليها السيطرة التامة لعصابات الجريمة المنظمة.. تهريب للأدوية الفاسدة والمبيدات المحظورة والبشر وما لا يخطر على بال.
في مثل هذا الوضع صار من الطبيعي ان يلجأ اليمنيون الى تنظيم انفسهم في مليشيات وان يشتغلوا على برامج تحديث المشائخ والمشيخات والرموز والتجمعات والجماعات والحواضن الحمائية الأولية، ماداموا يفتقرون الى الدولة الحامية والجامعة.
وفي ظل اقتصاد منهار كما تفيد تصريحات البنك المركزي التي تقول بتبديد مليار دولار من الاحتياطيات النقدية بالعملة الصعبة خلال العام الماضي، فضلا عن تراكم الدين الداخلي ومضاعفات القروض فإن سقوط صنعاء من داخلها، بل وسقوط اليمن في عمومها هو المستقبل المنتظر.
ومع احتدام المواجهات المسلحة في اكثر من رقعة واستشراء واتساع رقعة تلك المواجهات صارت ظاهرة القرصنة من الردائف الطبيعية، وكذلك ظاهرة اختطاف الاجانب حيث ظهرت الى السطح مؤخرا ظاهرة أنجال المشائخ والاقيال الذين يستثمرون في اختطاف الاجانب ويقومون ببيعهم الى “القاعدة” التي تدخل بعد ذلك في مفاوضات لإطلاقهم مقابل “الفدية” التي تتطوع بدفعها دولة قطر وغيرها الى أن تراكمت لـ”القاعدة” ملايين الدولارات.
وكل يوم تفقد الدولة مدخراتها البسيطة في حين تتسول مرتبات موظفيها من دول الجوار الخليجي وكل يوم تفقد سيادتها على ثرواتها النفطية التي يتناقص منتوجها، ومع اعتمادها على آلية رعوية بدائية في كسب رضا المواطنين او المتمردين من القبائل في المناطق المتاخمة لحقول انتاج النفط، ومع استمرارها على شراء ما يمكن شراؤه من الامن الاجتماعي باعتماد هذه الآلية الرعوية البدائية؛ تفقد آخر آليات التحكم بمصير البلاد وتستنقع الى غير رجعة في “الصوملة”.
لاشك ان “صوملة” اليمن تهدد المنطقة برمتها، وان مصلحة المنطقة والعالم تدعو الى اعانة اليمن على الخروج من الوضع الحالي من واقع الإقرار بالضرورة القصوى لتلك الاعانة، ولكن الأوضاع الراهنة تثير الكثير من الهواجس وخاصة ذلك الانقسام الطارئ الذي تشهده القوى الراعية للعملية السياسية وما يمكن ان يترتب عليه من انفضاض يد المتابعة للأوضاع الداخلية الخطيرة في اليمن، ومن انصراف لهؤلاء الرعاة نحو الاهتمام الحصري بتأمين الممرات الآمنة لانسياب نفط السعودية والخليج.
ان تداعيات الانقسام الخليجي، وكذلك تداعيات اندلاع الأزمة بين الغرب وروسيا سوف تزيد الأوضاع السيئة في اليمن سوءا ومن الوارد ان تغذي القوى المتصارعة في الداخل والانقسامات وان تشعل حطب البطالة والمشكلات الحدودية والبينية مع الجيران، وان تنشط قوى التهريب والإرهاب العابر للحدود وتنعش وتجدد طاقة كافة القوى التي ليست لها مصلحة في بناء دولة في اليمن والتي كانت قبلت على مضض باستحقاق “الحوار الوطني الشامل” وتحينت فرصة الانقضاض عليه في أول منعرج.
صحيح ان ما يحدث في اليمن هو حصيلة عقود من الفشل وانعدام التنمية والتعليم والفساد المتجذر والممنهج وخراب المرافق والمؤسسات العامة وتفشي المليشيات والمافيات، والصحيح أيضا ان كل ذلك لم يكن بمعزل عن الغطاء والمدد الإقليمي والدولي ما يعني ان على الرعاة ان يتنادوا، إن أمكن، الى تدارس كارثة ولوغ اليمن في الصوملة إلى غير رجعة والكلفة التي يمكن أن تترتب على ذلك.
صنعاء