اعتذرت عن المشاركة في كل المؤتمرات التي نظمها أقباط المهجر في السابق، بما في ذلك مؤتمر شيكاغو الأخير، لاعتبارات لا مجال الآن للخوض فيها. ولكن ما يلفت، وربما يدعو إلى الآسي، هو تحول هذه المؤتمرات إلى موسم للهجوم علي أقباط المهجر. يتكرر السيناريو كل مرة بنفس الشخوص، والمونولوج، والجمهور. يضر هذا المسلك بمصر أكثر ما يضر بأقباط المهجر، لأنه لا توجد حكومة حصيفة تظهر بمظهر من تستعدي أبناء لها، وتصر على تحويلهم إلى أشباح تطاردهم، بدلا من أن يكونوا عمقا استراتيجيا لها في عواصم العالم المتقدم، التي نلجأ إليها بحثا عن دعم استراتيجي، ومساعدات اقتصادية، ودور إقليمي. الارتباك في التعامل مع أقباط المهجر، يقوي موقفهم، ويضعف من شوكة الحكومة، لأنه ببساطة يكشف قوة الطرف الأول، وضعف الطرف الثاني. الأول يتحرك، والثاني أسير سياسة رد الفعل. ونتيجة التخبط في التعامل الرسمي مع هذا الملف تلجأ الحكومة إلى الاحتفاء ببعض نشطاء المهجر على حساب الآخرين، ربما لتحييدهم أو لإيجاد حوار معهم دون الآخرين، ولكن النتيجة الختامية تكون- عادة- في غير صف الحكومة، التي تظهر في موقف “أضعف”. القضية ليس فيها منتصر ومهزوم، لأن الخاسر- في كل الحالات- هي المصالح الإستراتيجية العليا للدولة المصرية. ولا يجب إدارة الموقف عن طريق “التكتيكات”، ولكن من خلال “استراتيجيات” مدروسة. ولكن قبل ذلك ينبغي التوقف أمام ملامح إدارة المشهد الحالي لنرى إلى حد أن المشكلة باتت معقدة من جراء تراكم سياسة الفعل ورد الفعل على مدار سنوات طويلة.
1. هناك هاجس يحرك الإعلاميين الذين يتصدون لمثل هذه القضايا، مفاده أن هناك مؤامرة يجب التصدي لها. يبحثون عمن يطلق الخطابات النارية، أكثر ما يدعو إلى التفكير المتعقل، والحوار الهادئ. ومن خلال ما ينشر، وما يبث علي الفضائيات، تجد حالة مركبة تجمع بين الجهل الشديد بالحقائق الأساسية للوجود القبطي في المهجر من ناحية، وبين السعي المندفع إلى الإدانة الجاهزة للنشطاء الأقباط الذين يقفون خلف هذه الفعاليات المهجرية، والذين يشاركون فيها بالطبع. الكل- في نظرهم- شطر مستطير، كتلة واحدة تتحرك في عالم مسكون بالأشباح. التصنيف غير وارد. الكل سواء، لا فرق بين هذا وذاك طالما أن الكل من أهل المهجر. هذه الحالة تعقد من المسألة، وتجعل الصوت المعتدل يميل إلى الراديكالية، والصوت الراديكالي يكسب أرضية، طالما أن الكل في عداء البلد سواء.
2. عوامل الانفعال لا يوجد ما يبررها. كل ما يفعله النشطاء الأقباط في المهجر مجرد مؤتمر. يُعقد مثله المئات كل يوم. يحضره مشاركون أقباط ومسلمون، وتلاحقه الصحف من خلال مندوبيها في قاعات الاجتماعات. عوامل المؤامرة غير قائمة إذن. فلا يوجد شيء يخطط في ظلام، ولا يوجد حوار غير معلن. فهل أصبح المجتمع- على هذه الدرجة من الهشاشة- حتى يضطرب لمجرد انعقاد مؤتمر؟ وهل تحولنا من مجتمع يتحرك بوحي من أفكاره إلي تجمع بشري يضطرب لحدث يعقد على بعد آلاف الأميال منه؟. يبدو أن السبب الحقيقي لهذا الاضطراب أن مثل هذه المؤتمرات تعقد على مقربة من الإعلام الغربي، مما يضاعف تأثيرها، رغم أن ما يطرح بها، يقال أكثر منه في المنابر الإعلامية المصرية، وبخاصة الصحافة، التي باتت تتمتع بهامش واسع من الحرية، تطول به أحيانا رأس الدولة، في مشهد لم تعرفه مصر على هذا النحو من قبل.
3. الغريب في الأمر أن قيادات كنسية تُستدعي في كل مناسبة لانتقاد أقباط المهجر. هنا يحدث التناقض الذي ندفع جميعا ثمنه، بين ممارسة فعلية تكون فيها الكنيسة مؤسسة شاملة صاحبة ولاية على الأقباط، وبين خطاب هجائي يرفض تمثيل الكنيسة للأقباط سياسيا. وبينما نقول في كل مرة أن الكنيسة لا تمثل الأقباط سياسيا، نسعى- في كل مرة أيضا- لنحصل منها على إدانة- صريحة أو مستترة- لما يقوم به نشطاء مدنيون في المهجر، وشركاء لهم في داخل مصر، وكأن الكنيسة صاحبة ولاية على هؤلاء جميعا. فهل نطلب من الكنيسة ولاية على أقباط في الخارج ولا نطلب منها ولاية على الأقباط في الداخل؟ وهل نطلب من الكنيسة أن تدين مسلكا مهجريا في التعامل مع الشأن القبطي، وفي الوقت نفسه لا نسمح لها بأن تضع هي أسس إدارة الشأن القبطي داخليا؟
4. مما يعقد المسألة، وينبغي الاعتراف بذلك، أن هناك حالة التباس في الخطاب المهجري ذاته. فإذا استبعدنا بعض العناصر المضطربة في توجهاتها، والمسكونة بالهواجس والمؤامرات مثل رفيق اسكندر وغيره، نجد أن هناك خطابات متداخلة تصدر عن المهجر. البعض يسعي لوضع تصورات لعلاج المشكلات القبطية، والبعض الآخر يود المشاركة في جهود بناء مجتمع ديمقراطي ملتمسا النزعة المصرية الخالصة في موقف رافض لكل من العروبة والمد الإسلامي، وفريق ثالث يبدو أن لديه موقفا ذاتيا “متصادما” و”عدائيا” من النظام القائم، يعبر عنه كلما أتيحت له الفرصة، وفريق رابع يعتقد أن المشكلة برمتها دينية مع الخطابات الإسلامية. هذه الخطابات المتداخلة يمكن تبينها بوضوح من خلال جولة سريعة في المنابر الإعلامية للمجموعات المختلفة لأقباط المهجر، وما يكتبه رموزهم في الصحف ومواقع الانترنت. ولكن بقليل من التأمل نستطيع أن نرى أن هذه الخطابات الأربعة، هي صدي لخطابات مماثلة في المجتمع المصري. وهكذا فإن غياب الاتفاق على أجندة وطنية داخلية للتغيير والإصلاح، يعبر عن تشوش في الخطابات داخليا، وينعكس صداه خارجيا.
المدخل الحقيقي لتجاوز هذا الموقف المتلبس هو الحوار الجاد، ليس بين الحكومة ونشطاء المهجر، ولكن بين شخصيات وطنية عامة من الجانبين تخرج من ذهنية التفاوض السياسي العقيم، تتواصل عبر تبنيها خطابات نهضوية عامة، تسعي من خلالها إلى بلورة رؤى وأوراق عمل واستراتيجيات مستقبلية للتعامل مع أزمات التكامل الوطني في المجتمع المصري. وما دور الحكومة سوى المراقب، والمساعد على تكثيف التواصل الإنساني والثقافي والسياسي بين الجانبين. وهناك شخصيات وطنية عامة يمكن أن تقوم بهذا الدور سواء في داخل المجلس القومي لحقوق الإنسان، أو في الحزب الوطني، أو في صفوف أحزاب المعارضة، تمتلك الرؤية الشاملة للتعامل مع الشأن الديني في المجتمع المصري. إذا تحقق ذلك فإنه سوف يسهم- تدريجيا- في بلورة الرؤى، وترشيد الخطابات، وتخليصها من عوامل الغضب والانفعال، وإدماج نشطاء المهجر في النسيج الثقافي والسياسي المصري، و الأهم تحويل أقباط المهجر إلى أحد عناصر القوة الناعمة للدولة المصرية، أكثر منهم عاملا متحفزا في مواجهتها.
* كاتب مصري