لعبت اليابان دورا لا يمكن إنكاره في تنمية دول جنوب شرق آسيا وتعزيز اقتصادياتها منذ خمسينات وستينات القرن الماضي، ثم لعبت في العقدين الماضيين دورا مماثلا تجاه الصين من خلال ضخ الاستثمارات وتقديم القروض والمساعدات ورفع حجم الواردات بدليل أن التبادل التجاري بين البلدين سجل في العام الماضي رقما زاد على 207 بليون دولار فيما وصل حجم الاستثمارات اليابانية إلى نحو 57 بليون دولار.
غير أن طوكيو بدأت في السنوات الأخيرة تدير وجهها نحو جنوب آسيا، وتحديدا نحو الهند حيث الاستقرار السياسي والعمالة الرخيصة المدربة والفرص الاستثمارية الكبيرة ذات العوائد المجزية، ناهيك عن عامل مهم آخر هو عدم وجود ملفات شائكة بين البلدين أو رواسب تاريخية مرة في علاقاتهما البينية، أي على العكس مما هو قائم بين الصين واليابان أو بين الأخيرة وبعض دول جنوب شرق آسيا من رواسب من زمن النزعة التوسعية اليابانية قبل الحرب الكونية الثانية. وإذا كان هذا يفسر بعض أسباب هذا المنحى فان ما يفسر البعض الآخر هو أن الهند اليوم ليست ساحة نفوذ تاريخية للاعبين دوليين كبار كما هو الحال في الشرق الأوسط، بحيث يعجز لاعب جديد عن إيجاد موطيء قدم تنافسي فيه. إلى ذلك فان ما يجمع اليابان بالهند كثير ومنها أنهما اكبر ديمقراطيتين خارج المنظومة الغربية، ومتناغمتان في سياساتهما الخارجية، ومتوجستان من الصعود العسكري للصين وتمددها في المحيطين الهندي والهادي، ومحتاجتان إلى التعاون المشترك من اجل توفير الطاقة واستقرار أسواقها وتأمين خطوط إمداداتها انطلاقا من حقيقة أن اليابان والهند هما ثالث وسادس اكبر الأقطار المستهلكة للطاقة في العالم على التوالي.
يعود تاريخ التواصل ما بين اليابانيين والهنود إلى بدايات القرن السادس الميلادي حينما وصلت البوذية إلى اليابان عبر جنوب شرق آسيا. وفي العصر الحديث كانت الهند إحدى أوائل الدول التي وقعت معها اليابان معاهدة سلام وذلك في أعقاب تأسيس العلاقات الدبلوماسية الكاملة في عام 1952 ، كما أن الهند ساهمت في الأربعينات والخمسينات في عملية إعادة تعمير ما دمرته الحرب في اليابان من خلال تزويد الأخيرة بحاجتها من خام الحديد. غير أن العلاقات شابها بعض الفتور أثناء سنوات الحرب الباردة بسبب دخول البلدين في تحالفات مضادة وتبنيهما لسياسات خارجية واقتصادية معاكسة، وهو ما اثر سلبا على وتيرة وحجم المساعدات اليابانية للهند في تلك الحقبة والتي لم تتجاوز مائتي مليون دولار، رغم أن الهند كانت من أوائل الدول التي استفادت من برنامج المساعدات اليابانية الخارجية وذلك بعيد زيارة رئيس الحكومة الأسبق “نوبوسوكي كيشي” لنيودلهي في عام 1957 .
وهكذا فان النقلة الكبرى في علاقاتهما الثنائية بدأت مع المتغيرات التي شهدها العالم في التسعينات، والتي دفعت الهند إلى تغيير تحالفاتها الاستراتيجية وتحرير اقتصادها، فيما منحت اليابان فرصة لعب دور اكبر استقلالية على الساحة الدولية. فبعد هذه المتغيرات ونجاح الهند السريع في البروز كقوة اقتصادية ومنطقة جذب استثمارية، شهدت العلاقات نموا متسارعا، وارتفعت وتيرة الاتصالات على أعلى المستويات، وازداد اهتمام القطاع الخاص الياباني بالاستثمار في الهند، ليتوج كل هذا بالإعلان الياباني – الهندي الذي صدر في أعقاب زيارة رئيس الحكومة الهندية السابق “أتال بيهاري فاجبايي” لطوكيو في عام 2001، وتضمن اتفاق القطرين الآسيويين على الدخول في شراكة استراتيجية شاملة. هذه الشراكة التي جدد البلدان التزامهما بها أثناء زيارة رئيس الوزراء الياباني السابق “جونيتشيرو كويزومي” لنيودلهي في عام 2005 وزيارة نظيره الهندي “مانموهان سينغ” إلى طوكيو العام الماضي، بل وسعا أطرها لتشمل عقد قمم سنوية، وتبادل الطلبة والأساتذة والباحثين، والتعاون في الحقول العلمية والتكنولوجية، وتنسيق المواقف في المنظمات الدولية والإقليمية، والقيام بجهود مشتركة في مجال تأمين الطاقة والحد من الانتشار النووي ومحاربة الإرهاب والقرصنة البحرية، ناهيك عن تعزيز التعاون في حقول التجارة والصناعة والسياحة والاتصالات الفضائية والاستثمار.
وكان من نتائج هذه التطورات أن ارتفع حجم الاستثمارات اليابانية المباشرة في الهند من نحو بليون دولار في عام 2001 إلى بليوني دولار في عام 2005 ، وزادت واردات اليابان من الهند من 1.5 بليون دولار إلى 2.5 بليون دولار في الفترة ذاتها مقابل ارتفاع واردات الهند من اليابان من 2.2 بليون دولار إلى نحو 4 بلايين دولار. أما على صعيد المساعدات والقروض اليابانية، فقد وصلت في عام 2005 إلى 1.2 بليون دولار. وتوجد اليوم في الهند فروع لأكثر من 350 شركة يابانية تمارس أنشطة استثمارية مختلفة، من ضمنها شركتا هوندا وسوزوكي اللتين تصنعان المركبات والدراجات النارية الهندية.
وكدليل على أن الشراكة الاستراتيجية المبرمة بين البلدين ليست مجرد حبر على ورق، وإنما ترفدها أعمال والتزامات حقيقية، وقعت الهند مع اليابان في الشهر الماضي على صفقة بقيمة 50 بليون دولار لإقامة حزام صناعي يربط ما بين عاصمة الهند السياسية (نيودلهي) وعاصمتها الاقتصادية (مومباي) بطول 1500 كيلومتر، وذلك على غرار الحزام الصناعي الرابط ما بين طوكيو واوساكا والذي يعمل منذ انتهاء العمل فيه في الستينات بنجاح ويساهم بأكثر من ثلث الناتج المحلي الكلي لليابان.
وهذا المشروع الضخم المنعوت بصفقة العصر و الذي سيخترق ست ولايات هندية مكتظة بالسكان ( دلهي واوتار براديش وهاريانا وراجستان وغوجرات ومهاراشترا) ويغطي منطقة يسكنها أكثر من 180 مليون نسمة، ويمر بموازاة الطرق البرية السريعة، يشتمل على إقامة ثلاثة موانيء وستة مطارات وخطوط حديثة للسكك الحديدية ومحطة للطاقة بقوة 4000 ميغاوات ومناطق اقتصادية متخصصة ومرافق تخدم الصناعات الهندسية والالكترونية والبتروكيماوية، الأمر الذي يتوقع معه حين الانتهاء من المشروع في عام 2012 أن تزيد الفرص الوظيفية بنسبة 15 بالمئة والناتج المحلي الكلي بنسبة 28 بالمئة وحجم الصادرات بنسبة 38 بالمئة.
وبعبارة أخرى فان هذا المشروع سيساهم في حل جزء معتبر من معضلة لطالما اشتكت منها الهند في السنوات الأخيرة، وقيدت نسبيا تنافسها على جذب الاستثمارات الاجنبية، وتسببت في إعاقة صادراتها إلى الخارج، ونعني بها ترهل بنيتها التحتية من مطارات وموانيء وطرق ومحطات الطاقة أو نقصها. وطبقا للدراسات والأبحاث المنشورة، تحتاج الهند إلى إنفاق أكثر من 300 بليون دولار خلال السنوات العشر القادمة لتحديث وتطوير قطاعات البنية التحتية فيها لكي تصل إلى مستوى الصين مثلا، وهو ما دعا رموز سياسية واقتصادية محلية إلى مطالبة الحكومة مؤخرا بالسحب من الاحتياطي النقدي البالغ حاليا نحو 200 بليون دولار للإنفاق على عملية تحديث البنى التحتية والإضافة إليها، ولا سيما في قطاع الموانيء. والمعلوم أن احد مشاكل الهند كانت ولا تزال بعد موانيء التصدير والنقل عن الكثير من مراكز الإنتاج والتجمعات السكانية، بدليل أن 38 في المئة من سكانها فقط يعيشون ضمن دوائر تبعد 100 كيلومتر عن اقرب ميناء، مقارنة بنحو 50 بالمئة في الصين و90 في المئة في اليابان ودول الاتحاد الأوروبي.
elmadani@batelco.com.bh
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية