في العقود الأخيرة، وفي سياق الصراع الإسرائيلي- العربي، كثيراً ما يُشار إلى كتابات من يُطلق عليهم مصطلح «المؤرّخين الجدد» الإسرائيليين الذين ينقبون في الأرشيفات ويعيدون كتابة تاريخ الصراع، كاشفين أموراً اختفت من الروايات الرسمية. لكنْ لزام علينا، أن نتساءل نحن أصحاب قضايانا، أين هم «المؤرخون الجدد» من أبناء جلدتنا العرب، والفلسطينيين منهم خصوصاً؟
ليس مصادفة اختفاء المؤرخين، ليس الجدد فحسب بل القدامى أيضاً، عربياً. إذ إنّ النّظر في حيثيات ماضينا البعيد والقريب، يستلزم أوّلاً وجود أرشيفات مفتوحة ووضع اليد على الوثائق الأصلية للمسألة المبحوثة. ثم إنّ النظر في القضايا بجدية يستوجب وجود حرية مطلقة في التفكير ومساءلة الوثائق والأسماء، بعيداً عن الرواية الرسمية.
وبمناسبة وذكرى استقلال اسرائيل ونكبة فلسطين، حريّ بنا العودة إلى تلك الأيام الأولى للتنقيب وإضاءة بعض الزوايا المعتمة التي غابت أو غُيّبت عن رواية ما يسمّى اليسار الفلسطيني. فبخلاف الشعارات المنتشرة هذه الأيام، ناضل اليسار العربي حينذاك من أجل استقلال إسرائيل، كما لم ير أيّ حرج في استخدام مصطلح «دولة يهودية». والتقارير التي نشرتها الصحف يومها تكشف لنا صورة لافتة.
ففي آب (أغسطس) 1948، وقبل توحيد الشيوعيين العرب واليهود في حزب واحد، نظّم الشيوعيون العرب مهرجاناً في حيفا خطب فيه إميل حبيبي، العضو في عصبة التحرُّر الوطني آنذاك، والنائب لاحقاً في الكنيست الإسرائيلي. وها هي صحيفة «كول هعام»، لسان حال الحزب الشيوعي الإسرائيلي بالعبرية، تقتبس من خطابه: «ستناضل العصبة لأجل أن تتحول جماهير الشعب العربي عاملاً ديموقراطيّاً، وبالتعاون مع القوى الديموقراطية اليهودية ستناضل من أجل تحقيق كامل لقرار الأمم المتحدة. فالسلام والاستقلال للدولة اليهودية منوط بالتفاهم اليهودي- العربي».
أمّا مؤتمر توحيد الشيوعيين فنظم في تشرين الأول (أكتوبر) 1948 في قاعة سينما «ماي» بحيفا. صحيفة «دافار» العبرية تنقل كلام حبيبي الذي دعا في ذلك المؤتمر إلى: «إخراج جيش الاحتلال العراقي من أرض إسرائيل»، وصرّح بأنّ الحزب سيناضل لإقامة الدولة العربية، وذلك «لأجل الحفاظ على استقلال دولة إسرائيل».
حينذاك، كان الاستقلال الإسرائيلي على رأس سلم اهتمامات اليسار بشقيه العربي واليهودي. فمئير فلنر، أحد القادة الشيوعيين وأحد الموقعين على وثيقة الاستقلال الإسرائيلي، يقول في كلمته أمام المؤتمرين: «غالبية رفاقنا تحارب في صفوف جيش الدفاع الإسرائيلي، وكثيرون من خيرة رفاقنا قُتِلوا أو جرحوا في المعارك بإعطائهم نموذجاً للشجاعة والصدق بوصفهم محاربين من أجل الحرية». كما شدّد على دور الحزب الشيوعي في تجنيد الدعم الدولي لـ «حرب استقلال إسرائيل». ولم ينس أنه «مثلما أنّ كثيرين من الجماهير العربية معنيّون بانتصار دولة إسرائيل على الغزاة، فالجماهير اليهودية معنية بأن تفشل المؤامرة الإمبريالية لضم الجزء العربي من أرض إسرائيل إلى شرق الأردن».
أمّا في شأن مساهمة الرفاق العرب في حرب الاستقلال الإسرائيلي تلك، فيمكننا أن نسمع أصداءها في خطاب ألقاه فلنر ذاته في مدينة رعنانا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1948. صحيفة «كول هعام» الشيوعية تقتبس من أقواله إنه «أشاد بالقوى الديموقراطية العربية التي تحارب ضد الإمبريالية، وتضحي من أجل استقلالنا- اسـتقلالهم». كشف فلنر بعض خيوط هذه المساهمة ضمن كلمة وجهها في الكنــيست إلى دافيد بن غوريون، رئيس الحكومة وزير الدفاع حينذاك، بعد استصدار أوامر إبعاد لبعض الرفاق في الحزب الشيوعي، بينـــهم الرفــيق رمزي خوري سكرتير الحزب في الجليل الغربي، والرفيق نديم موسى. قدّم فلنر استــجواباً برلمانياً، كما تذكر صحيفة «عل همشمار» العبرية، مشيراً إلى أنّ هذين الرفيقين «كانا على رأس الحركة السرية في الجليل الغربي التي حاربت ضدّ عصابات القاوقجي».
أمّا في كانون الثاني (يناير) 1950، وفي سياق النقاش حول قانون الأمن، فبرز بين المتكلمين النائب توفيق طوبي، كما تشير صحيفة «معاريف» العبرية: «تميّز هذه المرة توفيق طوبي بلغته الشديدة اللهجة». والذي أثار حنق طوبي السماح لنمر الهواري، الذي رأس مجموعة كانت تقاتل ضدّ إسرائيل، بالعودة إلى البلاد. أشار طوبي أمام أعضاء الكنيست إلى الكلمة التي ألقاها الهواري في غزة، حيث قال: «تحت رايتك أيها المفتي، سندخل إلى تل أبيب ونلقي اليهود في البحر». طالب طوبي بمحاكمة نمر الهواري بوصفه «مجرم حرب».
بعد مرور نصف عام، أي في حزيران (يونيو) 1950، وجد توفيق طوبي نفسه عرضة لاعتداء في منطقة المثلث. أفاد مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي بأن الحاكم العسكري كان منح تصريحاً للنائب طوبي بزيارة قرية الطيرة في المثلث. وبينما كان يجول في شوارع القرية «انقضّت عليه مجموعة من سكان القرية، وألقت عليه البندورة وسكبت عليه الحبر. حصلت مشاجرة بين مؤيديه ومعارضيه، واستخدمت في الشجار السكاكين والعصي». ويواصل مكتب الصحافة الحكومي: «لجأ السيد طوبي إلى مقر الحاكم العسكري الذي زوّده بحرس مكوّن من 5 شرطيين رافقوه في طريق خروجه من القرية».
هذا غيض من فيض أخبار ذلك الزمان. ولا شكّ في أنّ الذي ينبش في الصحافة العبرية لتلك الأيام، سيجد الكثير الكثير الذي يخفيه الجانب العربي من صفحات تاريخه. نشير إلى هذه الحقائق، ليس بهدف التشهير، بل لحض النخب العربية عامة، والفلسطينية خصوصاً، على إضاءة الماضي على كلّ خباياه بعيداً عن الشعارات البلاغية. هذه هي الطريق التي تفضي إلى سواء السبيل.
“نشير إلى هذه الحقائق، ليس بهدف التشهير، بل لحض النخب العربية عامة، والفلسطينية خصوصاً، على إضاءة الماضي على كلّ خباياه بعيداً عن الشعارات البلاغية.” كلام حكيم لكاتب حكيم. لم اتوقع ان اليسار العربي يفعل ذلك.. إلتقيت بأميل حبيبي في معرض الكتاب العربي في اوسلو عام 1993. ظننته غير ذلك. (مهما كان اسم الوردة فلا يغير من عطرها. إسرائيل او فلسطين) هذا ما قاله. ظننته واقعي لا يتوقف في التفاصيل الصغيرة التي تهم العرب عموما. ولكن هل ان هذا الموقف كان اكثر حكمة ممن اختار القتال والتحرير؟ فتح والشعبية والديمقراطية؟ هل كان ذلك تكتيك مرحلي من قبلهم ام كانوا يقتنعون بموقفهم… قراءة المزيد ..