حاربت الحكومة التركية حزب الاتحاد الديمقراطي “ب ي د” الموالي لحزب العمال الكردستاني والناشط في سوريا منذ تأسيسه في 2003 من خلال اتفاقاتها الأمنية مع نظام بشار الأسد. ولم يحدث تغير في الموقف التركي تجاه الحزب مع انطلاق الثورة السورية واختيار الحكومة التركية الاصطفاف مع الثورة ضد نظام بشار الأسد (الشقيق). إذ كان حزب الاتحاد الديمقراطي على قائمة الممنوعين من المشاركة في أي نشاط معارض يجري تنظيمه على الأرض التركية. وفي تموز 2012 رفض وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو قبول صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي في عداد الوفد الكردي الذي التقى به في هولير عاصمة إقليم كردستان العراق. وأيضاً شهد شهر يوليو / تموز 2012 جملة من التصريحات النارية التركية ضد حزب الاتحاد الديمقراطي بنتيجة مغادرة الأجهزة الأمنية السورية لبعض المدن الكردية السورية والتي أطلق عليها الحزب مسمى “تحرير المناطق الكردية”. وقد وصلت هذه التصريحات حدَّ التهديد التركي بالتدخل العسكري في المناطق الكردية السورية المحاذية للحدود مع تركيا, إلا أن تطمينات صدرت حينها من رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني (أثناء زيارة داوود أوغلو إلى هولير) وبعض قيادات المجلس الوطني الكردي السوري هدأت من المخاوف التركية والتصعيد التركي, لتكتفي تركيا بمراقبة الوقائع اليومية على حدودها الجنوبية, رغم رفرفة أعلام الحزب وذراعه العسكرية (وحدات حماية الشعب) على مرأى حرس الحدود التركي في أكثر من مدينة أو منطقة كردية سورية على الحدود مع تركيا.
بالمقابل, فإن حزب الاتحاد الديمقراطي “ب ي د” كان ينظر إلى المجلس الوطني السوري ومن ثم الائتلاف الوطني السوري على أنهما ألعوبة في يد تركيا وعملاء لها, وأن اللاءات التركية حيال الحزب هي التي تمنع انضمامهم إلى المعارضة السورية ممثلة بالمجلس أو الائتلاف, إلى جانب تخوين الحزب وأنصاره كل حزب سياسي كردي سوري وكل ناشط كردي سوري يتوجه إلى تركيا في زيارة عمل أو سياحة أو لحضور ورشات تدريبية. وكان اصطلاح “أردوغاني” الذي يطلق على هؤلاء كفيلاً بإظهارهم على أنهم “عملاء” و”مرتزقة” و”بائعي القضية الكردية”. وقد وصل الأمر بالحزب وأنصاره إلى تصنيف المشافي التركية والأطباء الأتراك في عداد المجرمين والقتلة, وأنهم يقتلون الكرد أثناء معالجتهم. وقد بدأت حرب الاتحاد الديمقراطي الإعلامية ضد أي نشاط سوري معارض في تركيا منذ مؤتمر أنطاليا في يونيو / حزيران 2011 واشتدت مع المعارك التي شهدتها مدينة سري كانيه (رأس العين) ثلاث مرات بين وحدات الحزب العسكرية “ي ب ك “ومجموعات منضوية في عداد الجيش السوري الحر إلى جانب جبهة النصرة ودولة العراق والشام الإسلامية.
متغيرات عديدة في المنطقة الكردية السورية التي يديرها حزب الاتحاد الديمقراطي منذ 19 يوليو / تموز 2012 أسهمت في خروج تركيا من وضعها المراقب, ومحاولة إعادة النظر في سياستها الكردية السورية, وتحديداً إجراء نوع من المراجعة لمواقفها من الاتحاد الديمقراطي. وفي طليعة تلكم المتغيرات استيلاء وحدات حماية الشعب “ي ب ك”، الذراع العسكرية للحزب، على مدينة “سري كانيه” (رأس العين) يوم 16 يوليو / تموز الجاري وطرده مقاتلي جبهة النصرة ودولة العراق والشام الإسلامية مع الكتائب الأخرى منها، ونصب الوحدات علمها الأصفر الذي تتوسطه نجمة حمراء على الطرف السوري من المعبر الحدودي مع تركيا. المتغير الثاني يكمن في تصريحات قادة حزب الاتحاد الديمقراطي حول قرب تأسيسهم لإدارة ذاتية في المناطق الكردية السورية التي يديرونها منذ سنة, وطرحهم لمسودة دستور باسم ” العقد الاجتماعي في غربي كردستان “, وأقاويل عن قرب تأسيس حكومة لإدارة تلكم المناطق. والمتغير الأخير هو توجه مقاتلي الحزب باتجاه منطقة “تل أبيض”, ومحاولتهم إخراج مقاتلي جبهة النصرة ودولة العراق والشام الإسلامية في سيناريو مشابه لما جرى في سري كانيه (رأس العين) قبلها, الأمر الذي أدى إلى اندلاع مواجهات ساخنة في ريف تل أبيض الغربي منذ يوم السبت 20 يوليو / تموز وإلى تاريخه.
يمكن القول أن تركيا غادرت الفوبيا الكردية التي كانت تحكم سياستها الكردية (لاحظنا ذلك في مواقفها من كرد العراق سابقاً, وموقفها من كرد سوريا من خلال تنسيقها الأمني مع نظام الأسد الأب والإبن 1998 – 2013) مع توجيه وزير خارجيتها داوود أوغلو دعوة لصالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي أجرى خلال يومين سلسلة لقاءات مع مسؤولين في الخارجية التركية, وكذلك مع خاقان فيدان رئيس الاستخبارات التركية MIT في محاولة لتبديد المخاوف التركية من التطورات الأخيرة في المناطق الشمالية السورية, والتي يطلق عليها الكرد في أدبياتهم تسمية كردستان الغربية.
اللقاء بين صالح مسلم والقيادات التركية لم يك الأول من نوعه. فبحسب وير الخارجية التركي داوود أوغلو سبق وأن اجتمع مسؤولون أتراك في الخارجية والاستخبارات بصالح مسلم وقيادات حزب “ب ي د” لمرتين خلال الشهرين الأخيرين في العاصمة المصرية القاهرة, واللقاء الأخير الذي رتب له في تركيا يعد استكمالاً لما بدأه الطرفان سابقاً.
حتى اللقاء الأخير كانت هنالك انتظارات وخطوط حمر تركية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي خاصة وكرد سوريا عامة, ويمكن اختصارها في نقاط ثلاث, هي: عدم فرض الحزب لأي أمر واقع في سوريا خلال المرحلة الراهنة, وعدم تهديد أمن تركيا, وعدم التعاون مع نظام بشار الأسد, ولا يُعلم على وجه اليقين ما سيحدث بعد اللقاءات الأخيرة لرئيس حزب ب ي د في تركيا, وهل ستبقى تركيا محافظة على نقاطها الحمر وانتظاراتها, أم أنها ستُخضعها لتحولٍ ما.
يرى الكاتب التركي البارز جنكيز تشاندار بأن دعوة الخارجية التركية لرئيس حزب الاتحاد الديمقراطي “خطوة صائبة, وإيجابية, ومفرحة , مذّكراً بامتناع داوود أوغلو في السابق عن إجراء أي لقاء مع صالح مسلم وقيادات حزب ب ي د, وأنه كان من أنصار إجراء هكذا لقاء من خلال كتاباته التي ينشرها في صحيفة “راديكال” التركية واسعة الانتشار. ويميل تشاندار إلى الاعتقاد بأن “الثورة السورية, تمر من خلال ثورة روجآفا (كردستان سوريا)”, وأن على الحكومة التركية “وضع العراقيل أمام الجهات التي تهاجم كرد سوريا انطلاقاً من الأراضي التركية” في إشارة إلى دخول مقاتلين لجبهة النصرة والجيش الحر إلى منطقتي تل أبيض وسري كانيه قادمين من تركيا. كما ويدعو إلى عدم خسارة الامتيازات في سوريا الغد كما خسرتها الحكومة التركية في العراق من خلال موقفها أثناء اجتياح الولايات المتحدة والتحالف الدولي للعراق في 2003.
أما صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي ومن خلال لقاء مع وكالة أنباء دجلة الكردية في تركيا فقد أعرب عن حدوث تغير في الموقف التركي الرسمي من حزبه, وقال مسلم أن “مجرد وجوده في تركيا يعد بحد ذاته تغييراً في الموقف التركي”, وأن هنالك “المزيد من التعاون في القادم من الأيام,” وأن تركيا “ستفتح البوابات الحدودية مع المناطق الكردية السورية”, وأنها “ستقدم مساعدات لكرد سوريا”.
فيما تقول الكاتبة في صحيفة ملييت التركية آصلي آيدنتاش باش “إن مجرد أن توجُه أنقرة دعوة لصالح مسلم لزيارتها يعني أن لا فوبيا كردية سورية لدى أنقرة”, و أن “دعوة رئيس حزب ب ي د إلى اسطنبول إشارة إلى فتح صفحة جديدة أمنية ودبلوماسية مع الحزب”.
اعتبارات عديدة تقف خلف قرار الانفتاح التركي على حزب الاتحاد الديمقراطي “ب ي د”. فالحكومة التركية تعلم أن الحزب هو الأكبر جماهيرية بين كرد سوريا قياساً للأحزاب الأخرى, ولديه جناح عسكري مؤلف من آلاف المقاتلين المنظمين. كما أن الحكومة التركية تعلم أن الحزب ليس مستقلاً بل هو امتداد سياسي لحزب العمال الكردستاني, وأن أي خطوة يخطوها الحزب في سوريا لن تكون خارج رأي جبل قنديل في إقليم كردستان العراق (مركز قرار حزب العمال الكردستاني والمنظمات التابعة والرديفة للحزب). وكذلك تعلم تركيا أن حزب العمال الكردستاني زجَّ في سوريا بكل إمكاناته العسكرية. ولأن هنالك عملية حل سياسي بين العمال الكردستاني وتركيا منذ أشهر, يمكنها احتواء حزب الاتحاد الديمقراطي بدلاً من استعدائه. كما أن تأمين الحدود السياسية التركية في وجه الأخطار القادمة من سوريا يمثل أولوية قصوى للحكومة التركية. وفي هذا السياق تعلم حكومة أردوغان أن الحزب بإمكانه تأمين هذه الحدود (درع حدودي) ويمكن أن يكون بديلاً مقبولاً للنظام السوري في هذا الصدد. كما أن تعزيز الموقف التركي إزاء نظام بشار الأسد يحتاج إلى كسبِ أكبر قدر ممكن من التيارات السورية السياسية والعسكرية في الصف التركي, وبعض التسريبات الصحفية التركية التي علقت على لقاء صالح مسلم بالقيادات الأمنية والسياسية التركية تشير إلى طمأنته لهم بأنهم كحزب “ب ي د” أقرب إلى تركيا من نظام بشار الأسد. إذ لطالما كان هاجس الحكومة التركية هو ابتعاد حزب الاتحاد الديمقراطي عن نظام دمشق, وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو قبل أيام في تصريحه لصحيفة راديكال التركية.
لا يمكن التكهن ومعرفة ما جرى خلال لقاءات صالح مسلم والمسؤولين الأتراك على وجه الدقة, لغلبة الطابع الأمني على اللقاءات. لكن الأيام القادمة كفيلة بترجمة عملية لمضامين اللقاءات على الأرض, وسيكون فتح المعابر الحدودية التركية مع المدن الكردية السورية إشارة البدء المحتملة في هذا السياق. ويتوقع أيضاً أن تدفع تركيا بالحزب إلى صفوف المعارضة السورية ممثلة بالائتلاف الوطني السوري الذي تتحكم تركيا به من خلال جماعة الإخوان المسلمين السورية, وهذه إحدى رغبات وزير الخارجية التركي داوود أوغلو في تصريحاته الصحفية الأخيرة.