حان الوقت كي أقول لعبد الرحمن الراشد شكراً، بعد أن أحلّتني استقالته التي قدّمها لقناة العربية مؤخراً من عبء التفسيرات المغلوطة التي تبدأ بالمجاملّة السمجة ولا تنتهي بالنفاق الكاريكاتوري، فيما لو كتبت قبل الآن كلمتين ودودتين بحق الرجل الذي عملت في ظل إدارته للقناة لأكثر من ثلاث سنوات، لا أتذكر منها إلاّ أمرين: الأول مرتب لا بأس به كان يدخل حسابي البنكي آخر كل شهر، والثاني مجموعة من الحوارات الراقية في المهنة الصحفية وعلم الإدارة والنقاش الديمقراطي والأفكار المتنورة وفن التهذيب والكياسة الشخصية، كنت أستمتع بها كلما سمح وقت الرجل بذلك، وبينما كان المرتب يتضاءل ويذوي مع مرور أيام الشهر، كانت الحوارات مع الراشد بالإضافة إلى عموده شبه اليومي في جريدة “الشرق الأوسط” الذي غاب قبل استقاله بأيام إيذاناً بها، تكبّر الرجل وتخلق منه علامة فارقة بين أساتذة المهنة والشخصيات الاستثنائية الذين تعرفت عليهم في حياتي.
في هذه اللحظة أسمع صراخاً اعتباطياً يعترض شامتاً بالرجل، مشككاً بوطنيته، يتهمه مرّةً بالأمركة وأخرى بالسعودة، وربما يحمّله مأساة العرب والإسلام منذ إخفاق عبد الرحمن الغافقي في معركة بواتيية وحتى اليوم، ويشيطنه لدرجة تحويله إلى إبليس صغير يمشي على قدمين، مدفوعاً بخصومة سياسية، أو عداء مهني، أو ولاء يقدمه موظف للخلف عبر نهش جثة السلف، ولكن عبد الرحمن الراشد كما عرفته هو شخصية معاكسة تماماً لكل ما يمكن أن يقال أو يشاع عنه من الكلام الذي بدأ يتردد في أكثر من موقع ومنتدى الكتروني، اللهم إلاّ إذا كان الرجل يكتب مقالات سرية قرأها أصحاب هذه الآراء وحدهم دون سواهم، وبنوا حكمهم على الرجل من خلالها، أو ممثلاً على درجة كبيرة من الحرفية في الأداء بحيث أني شاهدت دوراً قدمه لي وحدي، وتمكّن من خداعي عبره.
تعرفت إلى عبد الرحمن الراشد منذ أربعة أعوام، عبر لقاء ساهم في ترتيبه صحفيين صديقين، أحدهما كان يعمل تحت إدارته، وبحكم علاقتي الماضية بمسؤولي الإعلام اللذين كانوا لا يمدون يد مساعدة لأحد، مالم تمتد يد غليظة إلى الجزء الخلفي من رقابهم، أو يسمعون صوتاً أجش ينهرهم على الجانب الآخر لسماعة الهاتف، توقعت أن يطردني شر طردة، خاصة بعد أن أخبرته أنني كتبت مقالات عديدة تنتقد الدولة التي يحمل جنسيتها وتموّل القناة التي يديرها، إلى الدرجة التي فكرت فيها بوضع يدي أمام وجهي لحمايته من ضربة طائشة، ولكني فوجئت بوجه باسم، لم تغب عنه الابتسامة طوال ثلاث سنوات ونصف، يقول لي لهذا السبب بالذات نريدك أن تعمل لدينا، وهذا التعامل السمح والبعيد عن التشنج تكرر في أكثر من مناسبة مشابهة، بداية من تناولي مرات عديدة لبرامج القناة التي أصبحت موظفاً فيها بالنقد، وانتهاءً بملاحظته التي كتبها على ورقة العمل التي قدمتها باسم القناة، في ندوة نظمتها العربية عن الإعلام بمنتدى أصيلة في المغرب صيف عام 2008، وتعرضت فيها لتوجه القناة وأسلوبها في خدمة مموليها، وهي ملاحظة لا تزيد عن وصفه لورقتي بالشريرة مع ابتسامة كبيرة على وجهه، مع أنه كان بإمكانه منعي من قراءة محتوى الورقة، أو إلغاء مشاركتي نهائياً، خاصةً وأنني كنت لا أزال في دبي ولم أسافر بعد إلى المغرب.
واستطاع عبد الرحمن الراشد خلال الفترة التي قضيتها معه في العربية، أن يغيّر كثيراً في قناعاتي الغبية والاستعلائية السابقة التي حملتها إلى أن تعرفت عليه، فأصبحت أرى أن مواطن دولته مثله مثل السوري والفلسطيني والمصري، يناقش ويجادل ويهتم ويقرأ، وليس مجرد حساب مصرفي، أو مالك محطة بنزين، أو كازانوفا بحطة وعقال، بعد أن نبهني إلى أن مواطنه يولد ويراهق ويشب من دون أن يشاهد امرأة حتى لو كانت بنت خالته أو ابنة عمته، في حين أننا في بلادنا نعيش أجواء منفتحة، ومنذ اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الحياة إلى اللحظة التي نغلقها فيها على أبواب الموت، نجد أنفسنا محاطين بالنساء من مختلف الأنواع والأشكال، ولذلك فعقدنا تجاه النساء أقل، وبمثل هذا الأسلوب كان يدير النقاشات في المهنة والسياسة، ويعيد ترتيب المفاهيم بمهارة ساحر وأصابع حاوي ودقة صائغ ولسان وزير خارجية.
قد أختلف كثيراً مع أفكار الرجل في عموده شبه اليومي، وقد أرفض بعضها وأحب بعضها، وأغيّر موقفي بسبب بعضها، وقد حدث ذلك فعلاً، ولكني لا أختلف أبداً في أنه أحد أكثر الأعمدة الصحفية العربية قراءة وإمتاعاً ومتابعةً وطزاجةً، وهو إلى ذلك حر لا يمثل دائماً سياسة الصحيفة التي يكتب بها، أو الدولة التي تمولها، ولدي شواهد كثيرة، آخرها وأوضحها غياب عموده شبه اليومي مؤخراً، وأيضاً مختلف حتى عن باقي جيرانه من كتّاب الأعمدة في الصحيفة، فرغم أن أكثرهم لا يحملون جسنيته إلاّ أنهم يتبارون في سباق الولاء لسياسات هذه الجنسية، ويسبقونه بمراحل، وإذا كان التشابه بين أي كاتب ومادته ميّزة، فإن عبد الرحمن الراشد الصحافي استطاع أن يحوّل مقاله إلى لوح من البلور الشفاف، يظهر فيه بلحمه ودمه، رغم صعوبة ذلك في مقال الرأي السياسي الذي يناقش قضية عامة.
ومع كل هذه الميزات المهنية والشخصية للراشد، التي أشاعت جواً ديمقراطياً في قناة العربية، بحيث يمكنك أن تشاهد موظفاً يثبت صورة قناة المنار في تلفزيونه الشخصي على مكتبه ليلاً نهاراً، رغم اختلاف السياسات وتنافر التوجهات، بدون أن يوجه له أحد ملاحظة أو يرمي به إلى خارج مبنى القناة في ظل قوانين قنانة لا تسمح بذلك فقط، بل وتشرعنه أيضاً، كما كان سيحدث فيما لو تم مثل هذا الحدث بشكل معكوس في الجهة الأخرى، إلاّ أن الكادر المتواضع الثقافة والاهتمامات، والذي لا يعرف عن مهمة الصحف أكثر من كونها وسيلة للبحث عن بيت للأجرة أو سيارة للشراء، منع الراشد من تطوير محتوى القناة، فاقتصر التطوير على الشكل، باستثناءات قليلة وبجهد شخصي من مراسلي القناة، الذي يختلفون تماماً عن محرريها اهتماماً ومعرفةً والتصاقاً بالمواضيع التي يعالجونها.
في هذه اللحظة التي أسمع فيها صوت المعترضين على عبد الرحمن الراشد، وعلى ما ذكرته عنه يتحوّل إلى تظاهرة، وهو أمر أصبح من قيم وشيم الحياة السياسية والفكرية والصحفية العربية، التي ترى الكرسي أهم من الرجل، وتفضل النشيد الحماسي على النقاش الفكري، وتعتبر تقبيل اليد وانحناءة الظهر من أصول اللياقة والاحترام، ليس لدي ما أقوله سوى شكراً عبد الرحمن الراشد.
hakambaba@hotmail.com
شكراً عبد الرحمن الراشد رشيد راشدي — rachidrachdi@yahoo.fr مقال كله مدح وإطراء في حق عبدالرحمان الراشد. أظن أن مثل هذا الكلام لا يجب أن ينشر في جريدة إلكترونية حداثية تروم الدفاع عن القيم الديمقراطية وتكرم الفرد وتعلي من شأنه، يمكن للمقال أن يكون رسالة شخصية تضامنية يبعث بها حكم البابا إلى عبدالرحمان الراشد، وينتهي الأمر عند هذا الحد. أما أن يتم إغراق مدير العربية في هذا الكم الهائل من عبارات التمجيد بشكل علني، فما أظن أن الرجل من موقع حالته السوية سيقبل بهذا الأمر. حكامنا الأشاوس هم الذين يقبلون بأن تنهال عليه في شاشات التلفزيون قصائد من نوع : يا… قراءة المزيد ..
شكراً عبد الرحمن الراشد
صحفي سوري مقموع
ذكرتني يا استاذ حكم بالطريقة “الديمقراطية !!” التي كان كوادر نظام البعث السوري يستخدمونها ضد الصحفيين السوريين قبل ان يحكم عليهم بالاعدام الى الابد ! شكرا حكم البابا
شكراً عبد الرحمن الراشد
سالم باعشن
عبد الرحمن الراشد مهندس المقال الصحفي العربي الحديث قد يتفق أو يختلف معه القارئ. ومع ذلك يبق للمقال رونقه ومتعته، تتابع حروفه وكلماته في سهولة ويسر وتشعر به ويمرر أفكاره بمرونة دون فضاضة أو عنت. يحاور قرائه ولا يفرض عليه فكره. كثيرا ما أحسست انه لا يتملق ومنه ادركت ان للحقيقة عدة وجوه خاصة في عالمنا العربي. الراشد أن يترك العربية والشرق خسارة كبيرةلهما أما الراشد فسميتع قرائه أينما حط رحاله
شكراً عبد الرحمن الراشد
د. نبال موسى — nibalmoussa@hotmail.com
ما أجمل الوفاء واندره، وما ألذ قول الحقيقة. شكراً حكم البابا.
الدكتور نبال موسى ـ صحافي في باريس