لم يسبق لبني البشر أن تمكنوا من الحصول على هذا القدر من المعلومات، كما يحدث الآن. فلا يحتاج الأمر إلى أكثر من الوصول إلى شبكة الإنترنت، أو مشاهدة ما لا يحصى من القنوات الفضائية. هذا جديد، تماماً، ومن شأنه تغيير الحياة، والثقافة، والسياسة، والسلوك الفردي والجمعي.
ولم يسبق، لهم، أيضاً، أن تعرّضوا لهذا القدر من فوضى المعرفة، والتحليل، والتضليل، وغسيل الدماغ والضمائر. ثمة سهولة في الحصول على المعلومات، وصعوبة في معرفة الحقيقة، في ظل فوضى تدفق أنهار من الكلمات، والصور، والمشاهد. هذا لا يحدث يومياً، مثلاً، بل على مدار الساعة.
بيد أن هذه الفوضى ليست عفوية تماماً. فمن يتحكم بما ينبغي، وما لا ينبغي، أن يصبح خبراً رئيساً على الإنترنت، أو شاشة التلفزيون، وصفحات الجرائد، هو الذي يملك مالاً، وخبرات ومهارات تقنية، ودعائية، أكثر من الآخرين. وهو، بالتالي، الأكثر تأثيراً على عقول بني البشر. وهذا، أيضاً، لا يعني أن الأكثر مالاً، وخبرة، وتقنية، وتأثيراً، هو الأكثر صدقاً واحتراماً للحقيقة والواقع.
ثمة مصالح متضاربة، ورهانات تجارية، وسياسية، ومغامرات ومجازفات. وهذه الأشياء، كلها، عناصر أساسية في الاقتصاد السياسي للمعرفة، في القرن الحادي والعشرين، والألفية الثالثة. ورغم أن هذه الأشياء خارج الموضوع، إلا أن الكلام عنها ضروري لتفسير فوضى التحليل، والتأويل، وطريقة الهيمنة على عقول بني البشر. وهذا يحدث، أيضاً، على مدار الساعة.
لم تكن أشرطة بن لادن المسجلة بعد فراره إلى باكستان حدثاً كبيراً، بالمعنى السياسي والإعلامي، لكن “الجزيرة” القطرية كانت تجتهد في تحويلها إلى خبر رئيس، وإلى موضوع للتحليل، والتأويل، فتستدعي معلقين و”مفكرين”، يعرفون مسبقاً، ما الذي يجب أن يقولونه، لإرضاء أصحاب القناة.
وبالقدر نفسه، لم يكن بث الوصايا المصوّرة للإرهابيين، الذين فجروا طائرات مدنية بركابها في نيويورك وواشنطن، فعلاً مقبولاً بالمعنى الأخلاقي، والسياسي، والمهني. لكن “الجزيرة” القطرية بثت الوصايا المصوّرة كاملة، وعلى مدار أيام.
ثمة ما لا يحصى من الأمثلة، ومن بينها مشهد لجريح يحتضر، بعد غارة جوية إسرائيلية على غزة، وبدلاً من إسعافه، يطلب منه مراسل القناة نفسها أن ينطق بالشهادة، بينما عدسة الكاميرا مصوّبة على شفتيه. فالمراسل يعرف، بالضبط، المشاهد التي يحتاجها أصحابها المحطة أكثر من غيرها.
كان المهم في نظر هؤلاء تسويق الإسلام السياسي، وتحويله، وتحويل ممثليه من جماعات هامشية إلى ظاهرة عامة، ولم يكونوا بعيدين عن اتجاه الريح الأميركية في الشرق الأوسط. وهناك الكثير مثلهم في أربعة أركان الأرض.
ولكن لماذا هذه الأمثلة؟
لأنها وسيلة إيضاح لمعنى العلاقة بين المال، والتقنية، والمصالح، والرهانات السياسية، وضياع الحقيقة، في ظل وفرة للمعلومات، وتعددية للمصادر، توحي للوهلة الأولى بقدرة الأفراد على المعرفة والتمييز. وهذا، للأسف، وهم كبير.
فما ينبغي، بمنطق الاقتصاد السياسي للإعلام، أن يكون خبراً، أو مشهداً رئيساً، سرعان ما يُعاد إنتاجه في ما لا يحصى من المقالات، والتحليلات، على صفحات الجرائد، والإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني، وطبعاً في المقاهي، والبيوت، وكل أماكن الاحتكاك بين بني الشر في الفضاء الاجتماعي العام.
والمهم، أن ما لا ينبغي، بالمنطق نفسه، أن يكون خبراً، أو مشهداً رئيساً، يخرج من التداول، على الرغم من وجوده في الواقع. وبهذا المعنى تتحقق المعرفة في الواقع الافتراضي، وعن طريقه، أكثر من تحققها في الواقع الفعلي، الحي، والمُعاش. وغالباً ما يصنع الواقع الافتراضي أشخاص على قدر متواضع من المعرفة، وعلى قدر كبير من الشطارة في فنون التسويق.
آخر الأمثلة: في العالم العربي سجال طويل وعريض حول معنى ثورات الربيع العربي، وحول حقيقة ما جري في مصر، والإطاحة بحكم الإخوان في ثورة شعبية نالت تأييد وحماية الجيش. وهنا، أيضاً، يتجلى الواقع الافتراضي، في ظل فوضى عارمة. فهناك من يتكلّم عمّا حدث باعتباره انقلاباً عسكرياً.
ولكن ماذا لو عرفنا، مثلاً، أن الجيش لم يكن يحكم مصر في عهد مبارك. هذه هي فرضية حازم قنديل، المحاضر في علم الاجتماع في جامعة كامبردج، وقد صاغها في صورة تحليل عميق لعلاقة الجيش بالسلطة السياسية في مصر، منذ عهد عبد الناصر، وحتى عهد مبارك.
ومن المؤسف أن كتاب قنديل الصادر بالإنكليزية، قبل أشهر قليلة، والذي نال تقدير مايكل مان، أحد أهم علماء الاجتماع في أيامنا، لن يتوفر للقارئ العربي، ولن تجتهد أجهزة الإعلام في تحويله إلى موضوع للنقاش.
وبهذا المعنى يدخل الكتاب، وتدخل فرضيته الرئيسة، في باب ما لا ينبغي أن يكون، لأن كبار الحيتان في الاقتصاد السياسي للإعلام، في الشرق والغرب على حد سواء، لا يحبون تصديع الرؤوس بالأفكار النظرية، والتحليلات العميقة، تكفيهم رؤوس أقلام، ومداخلات “مفكرين” على مقياس هذه الفضائية أو تلك.
لذا، يظل السجال في الشأن العام فقيراً، على الرغم من وفرة وتعددية المصادر، ووهم الحرية الفردية في الوصول إلى الحقيقة. وبهذا المعنى، أيضاً، تتجلى ضرورة العودة إلى تحذير بيير بورديو من خطر التلفزيون على المعرفة الموضوعية. لم تكن الفضائيات، ولا الإنترنت، والهواتف الذكية، وشبكات التواصل الاجتماعي، شائعة عندما أطلق بورديو تحذيره. ويمكن دون مجازفة، إضافتها إلى القائمة في زمن الواقع الافتراضي، وشطارة السوق والتسويق.
khaderhas1@hotmail.com