تحولت سورية إلى مركز استقطاب للصراعات الدولية وحروبها بالوكالة.
الملفت أن روسيا وإيران تعدان تدخل القوى المناهضة لهما “احتلالا”، بينما وجودهما شرعي ومطلوب. أما من أين تكتسبان مثل هذه الشرعية المفترضة؟ فمن بشار الأسد، “الرئيس المنتخب!”.
ثمة مفهوم بدائي وخبيث للديمقراطية يروجه الاستبداد، ومفاده أن الانتخابات وحدها، وفي أي ظروف تمت فيها، تضفي شرعية على السياسي المنتخب، وأن هذا هو مؤشر وجود الديمقراطية الشرعية حتى ولو أبقت على رئيس انتفضت بوجهه ثورة عارمة وانتخاباته أثارت سخرية العالم أجمع نظرا لظروف البلاد التي دمر معظم بناها التحتية، وتعطل بذلك معظم مؤسسات الدولة، وتم تشريد أكثر من نصف السكان وقتل أكثر من نصف مليون سوري بعد أن أوقف العد.
تظهر التجربة أنه لا توجد هيمنة يقتصر بناء استمراريتها وبقائها على مجرد دوافع مادية أو عاطفية أو عقلانية ناهيك عن القوة والعنف
لكن كما يعلم الجميع ليست الانتخابات مرادفا للديمقراطية، إنها جزء من النظام الديمقراطي المبني على فصل السلطتين التنفيذية والتشريعية، ودستور يكفل حرية الضمير وحقوق الإنسان والحريات الأساسية من سياسية ومدنية، ونظام قضائي مستقل.
لكن أنظمة الاستبداد في العالم العربي تجدد هيمنتها المتسلطة أو تلبسها الشرعية من خلال الانتخابات ـ المهزلة، التي تحسم قبل عملية الاقتراع. كما أن العادة درجت، في بعض أوساط العلوم السياسية، على الحديث عن شرعية نظام سياسي ما كأنها خاصية ملتصقة به حصرا تفضي أي شبهة تغيير في النظام إلى أزمة “الشرعية” أو إلى اللاشرعية بالضرورة.
اقرأ للكاتبة أيضا: البروباغندا خدمت إيران على المدى القصير لكنها تنقلب عليها الآن
مثلا اعتاد الجزائريون اعتبار شخص بوتفليقة (الذي لم يواجه شعبه بحرب إبادة على الأقل!) رئيسهم وحامي نظامهم إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا؛ فصار وجوده مثل تعويذة تحفظ نظامهم وديمقراطيتهم ومن هنا إعادة انتخابه، مع عجزه الصحي، مرارا وتكرارا.
لكن اعتبار الأسد رئيسا شرعيا ومنتخبا مسألة تمس بالقيم الأساسية للوجود الإنساني نفسه، وبأبسط حقوق الشعب السوري وتجعلنا نسأل: كيف وما الذي يشرعن سلطة معينة؟ وهل اعتماد العنف العاري ومهاجمة شعبه كقوة غازية وسيلة مقبولة؟ ناهيك عن اعتبار نتائجها شرعية ومقبولة وديمقراطية؟
شكل الترويج لمقولة أنها مجرد حرب أهلية، الغطاء اللازم لحرب الأسد على شعبه ولاستعانته بقوى أجنبية لحمايته ونظامه بجعله الثورة السلمية وقمعها الوحشي حربا أهلية! وصار يشار إليها من قبل الامم المتحدة والحكومات الغربية ووسائل الإعلام أنها كذلك.
استدعى الأسد الجيوش والمرتزقة الأجانب تمثل جميع القوى الإقليمية والدولية فتحولت حرب الأسد إلى كابوس وملاذ للإرهابيين ومصدر لأزمة لاجئين غير مسبوقة في التاريخ؛ ومع كل ذلك جاءت “كليشيه” مصطلح الحرب الأهلية للتخفيف من وطأتها.
اعتبرت هذه التسمية، ذريعة تعفي من محاسبة الأسد كمجرم حرب وبالتالي خفت صوت المساءلة الدولية وأصبح بإمكان روسيا وإيران التدخل “الشرعي” بذرائع مختلفة.
تبذل إيران جهودا متواصلة لاعتبار الأسد رئيسا شرعيا، ومنذ أول انتخابات بعد الثورة السورية في العام 2014 قامت بالترويج لها على لسان علي أكبر ولايتي وخامنئي نفسه، من أنها ستعزز “شرعية الأسد، لأن شعبه أدرك أن الأسد حال دون تفكك سورية وتعرضها للاحتلال”! هذا مع العلم أن إيران كانت تنفي بشدة أنها ترسل قوات قتالية إليها.
علينا إذن أن نصدق، حتى الآن بالنسبة للبعض، أن هذه الحرب التي تشارك فيها الدول العظمى والقوى الإقليمية على أنواعها، حرب أهلية. وعلينا أن نقبل أن وجود روسيا وإيران شرعي وبطلب من “الرئيس المنتخب”، وليس احتلالا، بينما أي تدخل آخر هو احتلال وغير شرعي، وخصوصا الأميركي والفرنسي.
فروسيا كإيران لم تكف، مرارا وتكرارا، عن اعتبار أن الرئيس السوري، كان ولا يزال، الرئيس الشرعي لسورية. هذا في الوقت الذي استخدمت فيه الفيتو في كل مرة حاول فيها مجلس الأمن إصدار قرار لمحاسبته على استخدامه الحرب ضد شعبه نفسه وليس ضد عدو خارجي.
ففي العرف الروسي “تجاوزت الأمم المتحدة حدودها”! إذ سبق للرئيس بوتين أن استخدم العنف ضد شعبه لكن بطريقة مخففة ومتوارية ولم تصل إلى حرب إبادة مفتوحة كما هي الحال مع بشار الأسد الذي دشن ضد شعبه استخدام أسلحة دمار شامل. لذا يسهل على الرئيس الروسي اعتبارها مجرد حرب أهلية و”شأن داخلي” في إقليم يقع ضمن حدود إيران وتركيا وروسيا الداخلية، عليهم بذل الجهود المتضافرة لإخمادها! فحدود روسيا توسعت ووصلت إلى قاعدة حميميم على البحر المتوسط وما يحصل في سورية يصبح “شأنا داخليا!”.
حتى الجزائر رفضت القرارات لأنها “تمس بسيادة الدول”. هذه السيادة التي استفاق عليها فجأة ممانعو إيران وروسيا العروبيين عندما قصفت أميركا موقعين للنظام منذ وصول الرئيس ترامب إلى السلطة؛ لكنهم عادوا وغضوا الطرف عنها عندما كثفت إسرائيل ضرباتها لمراكز تواجد القوات الإيرانية. إذ لا قوات أو مراكز عسكرية لإيران في سورية على ما يبدو!
تغلب هذا المنطق مؤخرا وتنافست الدول الغربية للتأكيد على أن الضربات الجوية في سورية لا تهدف إلى المس بالنظام بل فقط إلى منعه من استخدام الأسلحة الكيميائية. ما يعني منح المجتمع الدولي الأسد شرعية واقعية، بغض النظر عن كونها شرعية دستورية/قانونية أم لا. ما سمح له بنزع الجنسية عن نصف شعبه ومصادرة أملاكه كما جاء في القانون رقم 10 الأخير تحت أنظار العالم.
السيادة في سورية تتخذ معان مختلفة وكأنها سلعة معروضة للبيع لمن يدفع للأسد السعر الذي يناسبه مقابل مكاسب تتأمن للمشتري طالما أبقى عليه وعلى نظامه مهيمنين “شرعيا”.
يحتل مفهوم الهيمنة الشرعية مكانة مركزية لدى ماكس فيبر، فلقد قام بربط الشرعية بالهيمنة. لكن الأنماط التي عددها للهيمنة لا يمكن أن تؤسس شرعيتها على دعائم خارجية ومادية فقط، بل لا بد لها من “اعتقاد” الخاضعين لها في شرعيتها. وهنا يعني الشعب السوري نفسه.
شكل الترويج لمقولة أنها مجرد حرب أهلية، الغطاء اللازم لحرب الأسد على شعبه ولاستعانته بقوى أجنبية لحمايته ونظامه
تظهر التجربة أنه لا توجد هيمنة يقتصر بناء استمراريتها وبقائها على مجرد دوافع مادية أو عاطفية أو عقلانية ناهيك عن القوة والعنف. خلافا لذلك كل أنماط الهيمنة تبحث عن بث الاعتقاد بها عند الخاضعين لها وقبولها. إذن اعتقاد المهَيْمَن عليهم وقبولهم للهيمنة هو مصدر الشرعية الأول.
ألم يظهر الشعب السوري، بما فيه الكفاية بعد، أنه يرفض هذه الهيمنة وأنه نزع الشرعية عن هذا النظام وممثله؟ ألا يؤكد يوميا على عدم إيمانه بشرعية سلطة الأسد؟ ألا يكفي الدمار والموت والتهجير لمئات الآلاف وللملايين كي تفقد “الحكومة الشرعية” شرعيتها!؟
اقرأ للكاتبة أيضا: آليتا التحكم بالانتخابات اللبنانية
في ندوة جرت مؤخرا في بيت المستقبل (مركز دراسات في بيروت) حول الأمن وسط الانحلال في المنطقة حاولت السيدة الجميلة المتخصصة بالشؤون الروسية مزاولة سحرها علينا وأخبرتنا أن الدب الروسي البني، شعار روسيا، الموجود في قاعدة حميميم يستقبل الزائر وهو يقف وديعا ومبتسما ويطيّر حمائم في الفضاء. وعندما اقتربت منه وجدت أنها دروع حماية ألبست للحمائم؛ ولبست هي ابتسامتها الساحرة قائلة: إن الدب الروسي في مخيلتهم كأطفال هو حبوب ولطيف ومسالم! إنه موزع هدايا كبابا نويل!
هكذا تروج روسيا ـ كما كان الاتحاد السوفياتي من قبل ـ أنها داعية سلام وحافظة للأمن في سورية فصواريخها حمائم، لكنها حمائم تلبس الدروع لتزرع الموت والدمار لحماية النظام الذي شرعن وجودها فتعمل على شرعنته بالمقابل.
الأسلوب الروسي يغطي صواريخه بطبقة من العسل، بينما الأسد الإيراني (وهو أشوري بالأصل) يزمجر ليحمي الجالس على عرش الطاووس بينما الأرض تهتز تحت أقدامه وسيحتاج قريبا إلى الحفاظ على شرعيته في بلاده نفسها.