لا نقصد بشجاعة الأتراك هنا موقفهم المبدئي من ثورة الشعب السوري، ولا إحتضانهم لمئات الآلاف من السوريين الهاربين من قمع النظام الأسدي في دمشق في الوقت التي سدت فيه بعض الانظمة العربية حدودها امام هؤلاء، ولا تنسيقهم المستمر مع القوى الغربية للتمهيد لمرحلة ما بعد سقوط بشار الاسد وزمرته، ولا مطالبتهم المستمرة بفرض منطقة حظر جوي، ولاتماهيهم مع المعارضة السورية حيال مبدأ أن تغيير النظام في دمشق أولا هو شرط رئيسي لإنهاء النزاع.
لكننا نعني الموقف الشجاع الذي إتخذه الرئيس عبدالله غول حيال الدعوة التي وصلته من نظيره الايراني محمود احمدي نجاد لحضور قمة عدم الانحياز السادسة عشرة في طهران. فبينما سارعت دول عربية عديدة، بما فيها تلك التي تسود علاقاتها مع النظام الايراني غيوم سوداء قديمة وحديثة جراء تحريض الاخير عليها او التدخل في شئونها الداخلية او الادعاء بالسيادة على كل او بعض ترابها الوطني، للمشاركة في القمة المذكورة – بمستويات مختلفة – وتجاهل دعوات نخبها الفكرية بضرورة المقاطعة من باب الاحتجاج على سياسات طهران العربية، ولا سيما سياساتها تجاه سوريا المنكوبة بالدماء والاشلاء والخراب، تجاهلت أنقرة الدعوة الإيرانية وقررت عدم المشاركة متذرعة بمرض رئيسها وتعارض مواعيده مع موعد عقد القمة، بل وأضافت أن وزير خارجيتها لن يشارك أيضا، علما بأن تركيا ليست عضوا في الحركة، وبالتالي فإن القصد من وراء الدعوة الإيرانية المذكورة هو الظهور بمظهر الدولة التي يلتف حولها اكبر عدد من القادة.
وسواء أكان بواعث القرار التركي هي تسجيل موقف مستقل، أو النأي بالنفس عن قرارات قد تصدر عن القمة لصالح النظام السوري وداعميه الاقليميين والدوليين، ، أو كانت بفعل ضغوط من الولايات المتحدة الإمريكية والدول الغربية التي حثت حلفائها بعدم المشاركة في قمة طهران كي تقطع الطريق على الاخيرة للخروج من عزلتها المريرة والادعاء بإنفتاح مائة وعشرين دولة من دول العالمين الاسلامي والثالث عليها رغم أنف “قوى الإستكبار”، أو كانت من باب المناكفة والصراع على قيادة العالم الإسلامي في زمن تراجع فيه نفوذ العرب لجهة التأثير في القضايا الإقليمية، فإن أنقرة كانت شجاعة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، خصوصا وأنها تعتمد في جزء معتبر من وارداتها النفطية على إيران (70 بالمئة من إحتياجياتها النفطية تأتي من إيران وروسيا)، دعك من مسألة أخرى هي قضية أكراد تركيا التي يمكن لطهران أن تحركها وتلعب بها كورقة للإضرار بأمن وإستقرار تركيا مثلما فعل ويفعل النظام الأسدي.
البعض فسر القرار التركي على أنه تهرب من إحتمالات إلتقاء عبدالله غول مع نظيره الرئيس السوري بشار الأسد (في ما لو قرر الأخير المشاركة شخصيا في القمة)، قائلا أن الإتهامات التي كالها الأخير ووزرائه وإعلامه للرئيس التركي ورئيس حكومته رجب طيب أردوغان، والمفردات النابية التي قيلت في حقهما أوجدت حالة من العداء والشكوك والمرارة التي لا يمكن تبديدها أو محوها بسهولة.
لكن البعض الآخر أضاف أيضا مسألة أخرى هي إحتمال أن يكون للقرار التركي صلة برغبة الرئيس التركي في تجنب الالتقاء بالرئيس المصري محمد مرسي، الذي يتخذ موقفا مغايرا لموقف الاتراك لجهة مشاركة دول حلف الأطلسي في إنهاء الأزمة السورية، بدليل إصراره على حل الأزمة من خلال الحوار بين المعارضة السورية والنظام الأسدي عبر الأمم المتحدة. وما دعوته أثناء قمة منظمة التعاون الإسلامي الأخيرة في مكة المكرمة في شهر رمضان المبارك لتشكيل لجنة من كل من إيران والمملكة العربية السعودية ومصر وتركيا لإيجاد حل للمعضلة السورية إلا تجسيد لهذا الإصرار. هذه الدعوة التي تجاهلتها أنقرة تماما ولم تتحمس لها أو تعلق عليها، الأمر الذي يثير فرضية ان يكون للغياب التركي صلة ايضا برغبة أنقرة في النأي بنفسها عن لجنة مرسي المقترحة.
السؤال المطروح الآن هو عن تداعيات هذا الموقف التركي على علاقات وروابط طهران بأنقرة المتذبذبة أصلا. فعلى الرغم من الزيارات المتبادلة بين مسئولي البلدين، والإتفاقيات التي تربطهما، وتصريحات مهندس السياسة الخارجية التركية “أحمد داوود أوغلو” من أنه متفائل بمستقبل العلاقات الإيرانية – التركية، ناهيك عن محاولات أنقرة في العام الماضي إيجاد مخرج لإيران من ورطتها النووية مع وكالة الطاقة الذرية عبر الحوار، وتجاوز تجارة البلدين الجارين مبلغ 10 بلايين دولار في عام 2010 ، فإن الواقع يقول ان هذه العلاقات يظللها تنافس حاد ليس على الأصعدة السياسية والإقتصادية والعسكرية فقط وإنما على الصعيد الإيديولوجي المغلف بثارات العصور الماضية أيضا. وليس خافيا على أحد أن صراع الدولتين إيديولوجيا أطل برأسه مؤخرا بصورة واضحة بسبب ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من تخندقات وإحتقانات طائفية ومذهبية بغيضة، وهي ما وضعت تركيا في موضع المدافع عن أتباع الإسلام السني مقابل دفاع إيران عن أتباع الاسلام الشيعي كما هو معروف.
وبطبيعة الحال نظر الكثيرون إلى مواقف أنقرة هذه، وتحركات قادتها ومسئوليها على الساحة العربية مؤشرا على رغبتها في إستعادة دورها التاريخي في المنطقة وأمجادها زمن الدولة العثمانية، بعدما فشلت كل محاولاتها طيلة العقود الماضية لإيجاد موطيء قدم لها ضمن إلإتحاد الأوروبي. غير أن هذه الرؤية لئن كان فيها بعض الصحة، فإنها ليست صحيحة بالكامل. فالسياسة الخارجية التركية، وفق ما رسمه أوغلو، تقوم على توطيد أقدامها في العالمين العربي والاسلامي وتعزيز روابطها بهما، والتكامل معهما، مع عدم إغفال روابطها الإستراتيجية القديمة مع أوروبا والغرب عموما. وما حرصها على البقاء ضمن منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتماهي مع الخطط العسكرية للأخيرة مثل مشروع إقامة درع مضاد للصواريخ فوق الأراضي التركية، الذي أغضب الإيرانيين وتم نعته بالمؤامرة التركية الغربية الصهيونية للنيل من قوى المقاومة، إلا دليل على صحة مانقول.
وجملة القول ان تفاؤل أوغلو حول علاقات بلاده بإيران ليس في محله، تماما مثلما لم يكن تفاؤله بتحول بلاده من الإقتصاد السابع عشر إلى الإقتصاد العاشر في العالم في غضون سنوات قليلة في محله. فالرجل الذي يقود الدبلوماسية التركية بديناميكية مدهشة منذ عام 2009 ، ويثير الجدل منذ إطلاق كتابه المعنون بـ “العمق الإستراتيجي”، راهن كثيرا في رؤيته تلك على التكامل الاقتصادي الإقليمي ضمن “منظمة التعاون الإقتصادي” المكونة من أفغانستان وباكستان وإيران وأذربيجان وتركمانستان وتاجيكستان وأوزبكستان وقرقيزستان وكازاخستان. وكل هذه الدول لا تشكل رقما مهما في الاقتصاد العالمي، ربما بإستثناء الأخيرة التي ورثت من الإتحاد السوفيتي السابق بعض ملامح التقدم الصناعي والتكنولوجي، وتملك ثروات اولية هائلة.
وهكذا يمكن القول ان علاقات البلدين التي ترجع الى عام 1926، حينما وقعا في طهران على معاهدة صداقة وأمن وسلام وحياد وعدم إعتداء لمحاربة الخارجين على القانون والأقليات المناوئة للحكومتين المركزيتين في طهران وأنقرة، ثم أتبعاها بمعاهدة أخرى في عام 1932 لتثبيت الأمر الواقع على حدودهما المشتركة، وهي المعاهدة التي سمحت بتبادل الزيارات ما بين رضا شاه الكبير والزعيم مصطفى كمال أتاتورك وإستفادة الأول من رؤى وإصلاحات الثاني التنويرية، تمر في مخاض عسير خصوصا في ظل ما تموج به المنطقة من صراعات وإستقطابات.
*كاتب وباحث أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh