للمرة الثالثة يعيد جمهور 14 آذار 2005، سيرة تجمعه العريض في ساحة الشهداء – الحرية، مؤكداً انه جمهور لبنان المتنوع الذي لا يذوب مرصوصاً لينصب عليه سلطان الواحد الأحد والموحد.
في العاشرة صباح الخميس في 14 شباط، تركت بيتي ومشيت الطريق المفضية الى زقاق البلاط، على ان أجتازه الى الرصيف المحاذي طريق ساحة رياض الصلح جنوباً، وأنزل من بوابة الساحة “الأمنية” الشارع الذي يقوم على جهته الشرقية مبنيا المركزية واللعازارية، ويسلم الماشي الى “التياترو الكبير” والمعرض، حيث كان علي ان أعرّج في طريقي الى ساحة الشهداء – الحرية، فأبلغها في العاشرة والنصف. واستبقت تركي البيت بالنظر الى الشارع القائم خلف مدرسة الحريري الثانية. فلم أرَ على الطريق المغسولة بالمطر، طوال الساعة التي ترددت في أثنائها الى النافذة، ونظرت الى الاسفلت، ماشياً أو عابراً واحداً، ولا سيارة. ولم أسمع أصواتاً تنبئ بتحفز أو بحياة عادية. وكانت هذه حال الحي، أي المبنى الذي أقيم به وجواره القريب والمرئي، منذ السابعة أو الثامنة صباحاً. فخشيت أن نكون، نحن المتظاهرين في اليوم العتيد، قلة. وقارنت بين الخلاء والفراغ اللذين يخيمان على الطرق والأرصفة والمباني، هما والطقس الماطر والسماء الرمادية، وبين ظهر الأربعاء في 16 شباط قبل ثلاثة أعوام، وغداة يومين على قتل رفيق الحريري و”أصحابه”. فيومها كان الذاهبون الى تظاهرة التشييع، جماعات صغيرة، يتوسطون الشارع الخالي، ويتوجهون الى ساحة رياض الصلح من طريق مسجد زقاق البلاط ونزلة السراي الكبير.
أرض غريبة
ومشيت الطريق التي كنت لتوي أفحصها من نافذة البيت، وهي أشد خلاء من مشهدها قبل لحظات. وانعطفت يميناً الى زقاق البلاط وحسينيته، فبدا الشارع قريباً من حاله في الأيام العادية، على رغم قلة ناسه وسياراته قياساً على الأيام تلك. فلما بلغت الموضع الذي يسميه السواقون، ونحن معهم، “تحت الجسر”، على مشارف ساحة رياض الصلح ومخيمها المشهور والذائع الصيت، رأيت جماعات من الشبان المتحلقين حلقات، أربعاً أو خمساً، بلباس أسود هو زيهم المهني والوظيفي. وكانت الحلقة منهم، وتعد سبعة شبان أو ثمانية، على بعض الحِدَة، يكلم أفرادها بعضهم بعضاً، ومعظمهم يستمع الى واحد منهم. وبينما أنا أعبر الموضع، لم أر واحداً ينظر حوله، أو خارج حلقته. ومن يتردد منهم على تخوم حلقته، ويولي جزءاً منه خارجها ولا يزال ينظر الى أصحابه ويسمعهم، يبدو مشدوداً الى جماعته وأصحابه، أو الى عمل توكله جماعته به وتندبه إليه. فيشعر العابر، مثلي، أنه بأرض غريبة، وأنه متطفل على قوم وحي ما كان عليه ان يمر بهما. وفي الأثناء، كان بعض أهل الخيم القلائل قبالتي، وأنا على الرصيف، يخرجون من خيمهم الفسيحة الى فنائها، وذقونهم (أي لحاهم على وجه الدقة) سود مثل شعورهم. وتراءى لي ربما ان بعضهم يمد يده الى حنفية خزان الماء المعلق. فإذا أدارها، ونزل الماء منها، وسفح بعضه على أرض الفناء فسال الماء المسفوح جداول ضئيلة، بعثت الحنفية والخزان والجداول الضئيلة والذقون السود والنوم في الوجوه والعيون والملابس، أفنية البيوت والأحواش في الضيع والبلدات الجنوبية والبقاعية الشمالية، ونفحت في خيالاتها وأطيافها حياة لا تقوم بأودها فتتهاوى وتتلاشى من غير معاندة ولا رجاء.
وإلى يميني كان جسر فؤاد شهاب فسيحاً وعريضاً كأنه ميدان قنص قاتل. وزاد المطر والبلل، وظلال المباني البعيدة والسحب الواطئة وبعض الشجر الهزيل، انحناء الطريق انحناء واستدارة. فبدت الطريق مثل بطن قرش ضخم انقلب على ظهره وهو في نزعه على شاطئ مقفر، وإلى جنبه حطام مراكب عظيمة. فلما بلغت البوابة “الأمنية” الضيقة، وهي “فتحة” في الشريط الشائك الطويل والملتف حول المخيم، ويقوم بإزائها مخفر صغير، اجتزتها من غير ان أنتبه الى حرسها أو أن أنظر إليهم. فاستوقفني صوت احد الحرس ينادي” يا أستاذ، اعمل معروف!”. والحارس هذا هو “مسؤول” الموقع. وسبق ان مررت به المرات العشر ربما التي اضطرتني الى بلوغ مقصدي من طريق المخيم الخائف على أمنه. وفي المرات كلها أشبه الرجل نفسه شبهاً قوياً لم يخالطه فرق ولا تباين: فالابتسامة “العسلية”، على ما يصفها الفرنسيون، كناية عن الاصطناع والتزلف الكاذب، هي نفسها على وجه دقيق القسمات، يميل الى وسامة سينمائية، وتتكشف ابتسامته الثابتة عن أسنان ناصعة البياض، وتطل من عينيه الخضراوين نظرة مرحة ومسرحية لا تتستر على وظيفة صاحبها وتشككه وتعاليه وإلفته المفتعلة. ويكاد يكون هذا الوجه وابتسامته وألوانه، وجه ابن عم لي لم أره منذ عقود، هاجر الى افريقيا، ورجع منها، على ما سمعت، ورعاً وحاجاً وناشداً هداية أقربائه. فسألني وهو يتصفحني: “إلى اين، من بعد أمرك؟”. فقلت إني رائح إلى عملي، وهممت بالمضي على طريقي. فقال، من غير ان ينتظر نهاية الجملة: “بطاقتك اعمل معروف يا أستاذ!”. وانحسر المرح من العينين من غير ان يطرأ على النبرة تغير. فأخرجت بطاقتي متذمراً وممتعضاً. فواساني: “الظرف أمني، معليش”. فقلت: “المرة الماضية طلبت بطاقتي ولم يكن في ظرف أمني”. فزالت الابتسامة، ولم يبق منها إلا التماع الأسنان القاسي والمعدني. وتصفح وجهي مدققاً ومحاولاً التذكر. فإشارتي الى مرة سابقة نبّهته الى انه يُرى بدوره، ولا يقتصر الأمر على مراقبته هو من يمرون به وبحاجزه. ولم يلبث ان استعاد جأشه السابق، وقال: “مستحيل! كان في ظرف أمني، أكيد”، وهو يعيد إلي بطاقتي من غير تدقيق فيها.
فمضيت على طريقي، وأنا أسأل نفسي عما اذا كان يحسن بي أن أرفض تلبية طلبه بطاقتي، فأضطر الى العودة على أعقابي، وموافاة التظاهرة من طريق كورنيش البحر ومنطقة (ردم) سوليدير. وخلفت الحادثة ضيقاً ربما مصدره أنني كنت في حيرة بين الإصرار على المرور الحر، ومشادة لا أعلم مآلها، وبين الرضوخ المهين والقاهر لإجراء عدواني ومتعسف، ولا يتستر صاحبه على عدوانه وتعسفه. فتعاظم شعوري بغربة الأرض هذه وبغروبها عن نفسها وعني، وهي أكثر المواضع البيروتية إلفة وقرباً. فلما مررت بشبان “أمن” وانضباط، على منعطف طريق البناية المركزية الخالي من غيرهم، وهم يتحادثون أو يجلسون على كراسٍ معدنية جرباء ومتداعية وكأنهم شخوص مشهد افتراضي أو أرضٍ يباب، وسرت عدوى افتراضهم في الأسفلت والرصيف وجدران المباني والنوافذ والأصوات القليلة المسموعة والطافية – خلت الغربة هذه كابوساً في منام لا مخرج منه ولا نهاية له.
وكنت أحسب ان في وسعي بلوغ الساحة من طريق ساحة النجمة ومبنى البلدية. فلما أخبرني الجندي ان الطرق كلها الى الساحة موصدة، وأن علي الرواح الى الصيفي، ومن الصيفي الى ساحة الأشرفية، ولا طريق غير هذه، أحبطني قوله. وحسبت، لوهلة خاطفة، ان علي المرور مرة أخرى، بالمحطة “الأمنية” بطرف المخيم. وعدت أدراجي. وانعطفت يساراً، ويممت شرقاً الى الطريق بين المركزية واللعازارية، وحاذيت حي الصيفي، أو “قريته”، الى ان بلغت شارعاً يخرج من الساحة المعرّفة باسم شركة تأمين كبيرة، وينزل شمالاً. ولم أر في الأثناء إلا جنوداً يحملون بنادقهم المتدلية من أيديهم، ويقفون على المفترقات ورؤوس الطرق، ويدل بعضهم المشاة القلائل الى المسير المباح، ويصدون آخرين عن مسير محظور. ولم أسمع صوتاً غير صوت حبات المطر على مظلتي فوق رأسي أو على الحصى الأبيض والمفروش على أرض مبان هدمت وتنتظر إسفلت موقف سيارات وشيك. وتوقعت دوام الخيبة. فلما وصلت الى باب الطريق الخارجة من الساحة، فاجأني سيل الناس القادمين من الاشرفية. والحق ان ما فاجأني لم يكن كثرة الناس أو قلتهم، أو مشيهم في طرق أعرفها، ومشيتها قبيل تظاهرة 14 آذار 2005، حين كانت إجراءات الجيش، والحكومة تقضي بـ “تقنين” بلوغ الساحة الكبيرة على قاصديها، وتعريج المسالك إليها. فالفجأة، أو المفاجأة، كانت الوقوع في وسط ناس “حقيقيين”، يجمعهم مكان يتشاركون فيه ويحلونه، ويَسَع الداخل إليه مشاركتهم إياه من غير تطفل ولا إقحام. فالدقائق القليلة، أي ثلث الساعة تقريباً التي قضيتها عابراً الخلاء واليباب اللذين خلفتهما ورائي، كادت تنسيني وجه الاجتماع الإنسي، وقسماته الأليفة والحارة، وإفشاءه معانيه، ووصله بين أفراد وآحاده من غير جهد ولا تكلف.
مجتمع الإنس
وصادف ان دخلت شطراً “قواتياً” (من حزب “القوات اللبنانية”) من التظاهرة والمتظاهرين. فأعلامهم – وأرزتها المجردة الرسم، والباردة اللون الأخضر داخل سعفتين – تعلو الناس المتدفقين من الشوارع والمصادر المتفرقة، الى العلم اللبناني وألوانه الحارة. وتتقدم الجمع من الناس شاحنة تعلوها فرقة موسيقية. ويصاحب “عزف” الفرقة مقطوعات غنائية مسجلة تضج بها مكبرات صوت تملأ ظهر الشاحنة. والفرقة أقرب الى العرض المسرحي الجوال والإيمائي منها الى الأداء الموسيقي والغنائي. فما عدا ناقرة دربكة بأعلى الشاحنة، وفي وسط جمعها القليل، تُوقّع النشيد وتُصاحب مقاطعه، انصرف الآخرون، وهم نحو العشرة وخليط من أولاد وأهل، ويلبس معظمهم “تي شيرت” و “جينز”، الى محادثة بعضهم بعضاً أو الى محادثة بعض مواكبيهم الماشين وراء الشاحنة، أو الإيماء إليهم حين تعلو أصوات مكبر الصوت أو يبعد المخاطب أو المخاطبة. وبينما قنع بعض الجمع بالمسير موكباً وراء الشاحنة، من غير انضباط ولا تقديم المواكبة على محادثة الناس بعضهم بعضاً أو على رغبات الأولاد في التنحي أو في اللحاق بأصحابهم بموضع آخر من الجمع، سعى آخرون في الانفلات من أسر الطريق الضيقة، وتخطي الشاحنة البطيئة والضاجة برجع صوتي تأخذ ذرواته الهادرة بجماع الجسم وتغشاه.
ومضت دقائق وأنا في غمرة الدفء الإنسي المُطَمْئن وغير المشروط هذا. ورأيت الناس يتكاثرون، وتصب جداولهم في الطريق التي أمشيها واحداً منهم. وفكرت، وأنا أسمع رجلين أو أكثر يتحادثان ويخبر رجل صاحبه أن مصائر عائلة فلان تفرقت، أن عدد المتظاهرين في الساحة، كثر أو قل، نقص عن مثيله في أوقات سابقة أم فاقه، ليس شاغلاً يدعو الى القلق. فالميزان العددي سياسي. وما يزجيه التظاهر ويهديه الى المشاركين فيه هدية سابغة وكريمة، إنما هو تقبلهم ما يصنعون بالرضا والأمان. (ولا تنفك الكلمات والألفاظ هذه، الكريم والتقبل والرضا والأمان، وهي تجول في ذهني، من العبارات الأولى التي جاءت فيها، وكان الأهل يقولونها ويتبادلونها أو يتلونها: يا كريم، تقبَّل الله، والإمامِ الرضا، في أمان الله… فلا نشك في صدورها عن مرتبة من المعاني والأحوال لولاها، ولولا سهرها على الخلق، لعاد الكون خلاء ويباباً وعماءً أسود). فعزمت على تخطي الشاحنة، مثل كثيرين غيري تقدموني، حين حشرها ضيق الطريق وتكاثر الناس. فاعتليت الرصيف الضيق، ومشيت في صف دقيق بإزاء الشاحنة. وكان أولاد يركبون الشاحنة مع أمهاتهم، ويحملون أعلاماً تتدلى من عصيها خارج الشاحنة. وبينما كنت أسابق المركبة، وقد لبثت تقريباً في مكانها والناس يحوطونها من امامها ومن خلفها، لامست وجهي ورأسي أعلام الأولا الواقفين. فأسرعت أم الى الطلب الى بنتها، حاملة العلم، رفع يدها به، وتجنيبي ما حسبته تجاوزاً ومضايقة. وكان القماش لامس وجهي ورأسي ملامسة رفيقة. وأردت طمأنة الأم وبنتها الى ان ملمس العلم “حلو”. فاختلطت الكلمات على لساني وفي ذهني، وتلعثمت بها. وفاضت نفسي بحنو تعلق بوجه المرأة، وبعبارة صفحة الوجه عن الخشية (من المضايقة) والارتياح الى انتفائها، قبل ان أجتاز الشاحنة، وأدخل في الجمع، وأنا أتمتم بين النشيج والضحك الساخر، أنا لا، لا، ما عليه (معليش)، لمس العلم حلو، وأحار في اختيار الكلمات التي لو قلتها، وأسمعتها الأم وابنتها، لأخرجتُ منها “لمس”، وقلت ان العلم حلو، وفهمت الاثنتان ما أعني، واستقبلتُ فهمهما، هما “القواتيتان” من غير ريب وأنا المتحدر من “بيت الشيخ علي” ومن أول خريجة دار معلمين لبنانية، بترجحي مرة أخرى بين نشيج مكتوم وبين سخرية ضاحكة، أو ربما بين بكاء صريح وبين ابتسامة مريرة.
وانتهينا في آخر الجزء هذا من مطافنا، الى بيت الكتائب المركزي. وكان الناس، الى يمين الطائفين المتظاهرين، أي شرقاً، جموعاً كثيرة، فرحة وصاخبة، بعضها يمشي صوب الساحة القريبة، أو يهم بالمشي، وبعضها الآخر غير مستعجل المشي ويريد ربما بلوغ ساحة الشهداء – الحرية وموافاة من سبقوهم إليها بعد بعض الوقت، وينتظر من قد يجيئون مع القادمين من جهة الشرق. ولم يفت الماشي وسط الجمع المتدفق من الأشرفية الى الجميزة والصيفي وشعبتي طريق الدورة: شركة الكهرباء ومحطة شارل حلو بإزاء المرفأ، كثرة عدد من يحملون أعلام “القوات اللبنانية” وحزبها. والتقى القادمون من الأشرفية وسفوحها الشمالية بأصحابهم القادمين من جبل لبنان وأقضيته الثلاثة: المتن وكسروان وجبيل، ومن لبنان الشمالي، وريفه ومدنه وجبله. فامتلأت الطريق العريضة والفسيحة، الى الشرق من بيت الكتائب المركزي، بهم. واختلطوا عند عتبة الساحة الكبيرة بجمهور شمالي آخر، جاء من طرابلس والضنية وعكار، وحمل أعلامه الزرق الجديدة، وبعض الفقر والتواضع في ثيابه. وكنت أقلعت، منذ بعض الوقت، عن العد والإحصاء. ولكنني عدت إليهما عندما فاجأني عدد القواتيين، وخلو جموعهم تقريباً من شارات يعرفون بها، أو يعرف بها شبابهم وفتيانهم على وجه الخصوص، من قيافة ولباس وهتاف وتحلق. فلما مرت سيارة “جيب” في الجمع، يقودها شاب ملتح وأشقر الشعر، يعتمر قبعة كشفية أو عسكرية، وعلى عينيه نظارات سوداء تلتصق بالخدين وتعترض النظر الى العينين، بعثت شارة من شاراتهم على نحو فولكلوري قد لا ينكرون صفته. وبدا ان كثرتهم غيّرتهم، وطوت بعض تظاهرات فولكلورهم وعصبيتهم وانكفائهم. ومن غير ان يدل أحد بالأمر، لا في التظاهرة نفسها ولا في بيانات دعاة التظاهر (و “القوات” فيهم) لاحقاً، أو يعلنه على رؤوس الأشهاد، بَانَ ان بعض جمهور المسيحيين الذي والى ميشال عون، وماشاه، واقترع لنوابه، إما انفض عنه أو كتم رأيه فيه، فأخلى الطريق لأنصار “القوات اللبنانية”، القدامى أو الجدد، فتحلقوا حولها وشايعوها، ومشوا في مواكبها.
فأل وكهانة
وعدت الى العد والإحصاء حين دخلت الساحة من بوابتها الشرقية التي يطل عليه بيار امين الجميل. فالساحة الفسيحة والمترامية ضاقت وتقلصت. وكان جنوبها، ناحية الصيفي وجسر فؤاد شهاب، اقتطع منها غداة أناخ “المخيم” العوني على جزء منها، بكلكله. وحجز شريط شائك بينها وبين شطرها الجنوبي هذا. ولكن طريق باب ادريس، من مبنى “النهار” وساحة سمير قصير، أو استراحته، الى بوابة السراي الكبير الشمالية, اطرحت بدورها من الساحة. وحمل المتظاهرون القادمون من كتلة بيروت الغربية، من الطريق الجديدة الى جل البحر وعين المريسة، على المسير والتجمع على الجادة العريضة بين ساحة رفيق الحريري وصديقته (على مقربة من مكان اغتياله) وبين طرف المرفأ. فخلت، للمرة الأولى منذ تظاهرات 2005، قبل 14 آذار وبعده، “جادات” فوش واللنبي والبلدية و “الوادي” (على ما كان يسمى الحي اليهودي السابق)، من الجموع. وسدت البوابة بحافلات عسكرية لونها لون التراب. والساحة نفسها، عزل جنوبها، في مقابلة جامع محمد الأمين، ومدافن رفيق الحريري و “أصحابه” في فناء الجامع، من معظمها. ونصب منبر وسرادق للخطباء على حدة من الجمهور. وفي وسط الساحة، أو ما بقي منها، حفريات أثرية لم تردم بعد. وتمر، شرقها، طريق تحت جسر، تصل جادة المرفأ بـ “قرية” الصيفي. والطريق هذه أغلق مدخلاها. فلما بلغت الساحة، في نحو العاشرة والنصف أو بعدها بقليل، كانت ناحيتها الشمالية الغربية خالية من المتظاهرين. فانتقلت من رصيف الجسر المشرف على المرفأ، في أعلى الرابية المتواضعة التي تعلو البحر قليلاً، الى الناحية الخالية. ودعاني الى الوقوف هناك، بينما كانت خيوط المطر، وليس حباته، تغلظ، والبرد يقسو، اعتقاد سحري (أو اعتقاد السحر) مثل اعتقاد الأطفال والأولاد. فتوهمت، أي أوهمت نفسي من غير تصديق، ان وقوفي بالموضع القفر هذا يبعث ناساً غيري على الوقوف هناك والتجمع.
ولم يخب فألي، ولا خابت كهانتي المازحة والساذجة. فلم يلبث بعض الجمع المحتشد حول بيت الكتائب اللصيق ان فاق قدرة الفسحة على الاستيعاب، ففاض بالناس، وملأوا الفسحة القريبة التي كنت وقفت وحيداً في وسطها لتوي. فعدت الى الجسر ورصيفه مطمئناً. واتكأت على حاجز الجسر المعدني، ورحت أنظر حولي، وأنقل النظر بين الساحة الممتدة امامي، والطريق المفضية من الشرق والشمال الى يساري، والجادة البحرية ورائي. وسكنت، بينما المطر يغزر وأصوات الخطباء البعيدة والقريبة (نصب مذياع على البيت المركزي ربما كان يبث الكلام بعد جزء راجح من الثانية) تعلو، الى جواري القريب وجيراني القريبين. فرأيت ما سبق ان رأيته في 14 آذار 2005، أو بعضه، وهو داعيّ الأقوى الى الإقبال على التظاهرات هذه: رأيت جمعاً عريضاً ولجباً لا يخرج منه “سلطان” عريض أو عظيم، ينصبه الجمع عليه ولياً أو وصياً. فالناس حولي، على مشاربهم وأهوائهم المتفرقة، فتياناً وفتيات وأولاداً وأهلاً واسراً وأصحاباً، قدموا من حيث قدموا، من قريب يبعد امتاراً أو من “الأطراف”، وحاديهم تحزب لا شك فيه، خال من الكراهية والثأر. وقد يغلب عليهم “فرح اللقا”، على قول أحد اصحابنا، أو أنسه ومسرته. فالجمع، أو التظاهر مجتمعين، يؤلف بينهم، ويقربهم، من غير ان يكتلهم كتلة مرصوصة. فالأصحاب مقيمون على صحبتهم وانتحائهم. والأهل مقيمون على قرابتهم ولحمتهم. والجماعات الصغيرة تشق طريقها في الجمع وأفرادها ماضون على مزاحهم وكلامهم وتلفتهم واستعراضهم المسرحي أجسامَهم و “ميكانيكهم”، على قول الفرنسيين. والحوادث الصغيرة التي تحصل بين ثلاثة اشخاص أو أربعة، ينصرف إليها الثلاثة أو الأربعة من غير حرج. فلا يعتزلون الجمع، ولا يحجز الجمع بينهم وبين حادثتهم ومشهدهم. فالولد الذي يرمي مظلته الصغيرة الى اعلى ويزعم القدرة على التقاطها، وهي لم تعلُه بعد، بينما والده وأمه وأخته يؤنبونه على “فعلته” ويضحكون، الولد ماض على اختباره وتكراره وتوقيعه، وأهله عينٌ عليه وأخرى على الجمع، وأذن الى خطابة الخطباء الكثر. والرجل المكتهل تحت المظلة العريضة والملونة، وإلى جنبه امرأة في سنه، يخاطب بيده الطليقة، وجبهته العريضة، وابتسامة صادرة عن الوجه كله، مخاطَباً لا أراه، ولم أفلح في تعقبه والاستدلال عليه. ومثل هذا كثير، ولا يفتر ولا يهدأ.
الإهاب والطور
فالحادثة الجامعة والغالبة، وأتردد في كتابة “الطاغية”، تؤدي دورها. فتجمع فعلاً، وتغلب على ما عداها، وتحمل الناس على ترك بيوتهم ومشاغلهم وبلادهم، وتنقلهم الى موضع ناء في ظرف صعب. ولكن الحادثة الجامعة هذه لا تخرجهم من إهابهم، ولا عن طورهم، على خلاف ما صنعت حادثة قريبة، هي اغتيال أحد قادة الحزب الشيعي الأهلي والأمني، في مشيعيه، وفي خطيبهم وقائدهم، على بعد كيلومترين تقريباً من ساحة الشهداء – الحرية، وعقب نصف ساعة على انفضاض الجمع وإخلائه الساحة. ولم يكن الفرق بين الاحتفالين التأبينيين، وبين الرجلين اللذين أبِّنا وشيعا الى مثويهما (شيع رفيق الحريري رمزياً وشيع عماد مغنية جسدياً)، على غير شاكلة الفرق بين الرجلين. وواحدهما مثال جمهور مشيعيه، وصورته ربما. فلحمة جمهور “مجمع سيد الشهداء” في الرويس هي سيرة صاحبهم: من السرية الطالبية الى حرس ياسر عرفات، ومن حراسة عرفات الى حراسة محمد حسين فضل الله، ومن هذه أو في اثنائها الى اقتحام مكتب مالكولم كير (رئيس الجامعة الأميركية قبل قتله) وتفجير مركزي قيادة القوات الأميركية والفرنسية ببيروت في خريف 1983، وتفجير السفارة الأميركية ببيروت، وتنظيم عمليات انتحارية في الجنوب، فخطف الطائرة الأميركية في 1985 وقتل غطاس أميركي، فخطف ديبلوماسيين وصحافيين وباحثين أميركيين وفرنسيين ببيروت، فخطف طائرتين كويتيتين، الى حبات السبحة الأخرى التي لا علم لمعظمنا بها. وهذا سجل، على ما يقال، حافل. وقد يمتدح بعضهم، من السياسيين والصحافيين الشجعان، هذه الخانة من السجل أو تلك. ولكنه سجل أفضى، مع سجلات أخرى كثيرة تشبهه الى مأساتنا المتطاولة: الى الاقتتال الأهلي أو استئنافه غداة الجلاء الفلسطيني فالجلاء الإسرائيلي، وإلى شبك مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بالحروب الملبننة، من وجه، وبالتسلط السوري الأمني والسياسي وإناخته على صدر اللبنانيين، واتصاله بالسياسة الإيرانية، من وجه آخر. فكانت حرب “التحرير” ذريعة الى شق الدولة اللبنانية وتصديعها، وإلى رعاية نقيضها المميت وعدوها في قلبها وأحشائها.
وعندما يخطب خطيبهم جمهورهم فهو يخطبهم واحداً. ويستمع إليه جمهوره أذناً واحدة. وترتفع قبضته واحدة. ويلبس لوناً واحداً ينفي الألوان الأخرى ويسكتها. والأولاد في الجمهور، حين يحملهم اهلهم الى تظاهراتهم واحتفالاتهم، هم رجال تامون في اجساد صغيرة، على ما كان الرسامون يرسمون الأولاد الى منتصف القرن الثامن عشر تقريباً. والنساء في الجمهور هن شطره المؤنث. وعلى شاكلة إحداهن، وهي في مكتب الحزب السياسي، يختبرن أن المرأة “لا تختلف عن الرجل في العطاء بشيء”، على قول المرأة. ومسرح تظاهراتهم واحتفالاتهم ميدان حرب. والحرب هي ربة الميدان. وأما الأخبار الجزئية والخاصة، والمشاهد الفرعية، فترهات وسخافات شأن الحياة نفسها في انتظار اليوم المجيد الذي يطويها ويؤرخ لولادة صاحبها، على قول “شعري” سائر. وفي وداع من لم يبدل تبديلاً، لا محل لغير الأهل الخلص، أي لأخوة السلاح والموت والمعتقد. وعلى هذا، لم يدع الى الوداع أقرب “الحلفاء” السياسيين، من غير ملة الراحل. فالسياسة يُتوجه بها الى غير الأهل، وعلى مسرح يغلب عليه التمثيل. ولا بأس ببلوغ التمثيل “المسخرات”، على قول عربي وسيط في المسرح، أو التهريج. وأما الجد، أي الجهاد، فأهلي خالص، وينفى منه الحليف المذعن والمستسلم والمولى. فالولد للفراش، على حكم فقه لا راد له ولا ناسخ. ولا تأليف بين من لم يولدوا على فراش واحد. ولا سياسة. ولا دولة. ولا رواية لمشهد أو خبر أو حادثة أو تاريخ. فهذه تفترض الكثرة. والكثرة تفترض المصادر والجداول والأعلام والأهواء والأوقات والنساء والأولاد والموت والآتي والسِّير والتراجم. وهذا كثير، أي ثقيل، على “المجاهدين”.
تحقيقات “النهار”
شباط 2008… كان جمعاً عريضاً في ساحة الشهداء – الحرية جمع لا ينصّـب عـلـيه سـلطاناً عـظيماً ولا ولـيّـاً أو وصيّـاً
النظام الايراني ركز في نشر مبادئه الخمينية الفارسية على المليشيات الطائفية المسلحة والحرس الثوري خلال 40 سنة وذلك للسيطرة على المنطقة ثم العالم واستغل الديكتاتويات وحرب العراق والدول التي ضد امريكا وذلك باستغلال جهل المسلمين للتعاطف معه وايضا استغلال القضية الفلسطينيةوان(ما يجري في الشرق الأوسط اليوم هو صراع بين السنة والشيعة للهيمنة على الإسلام السياسي) افيقوا يرحمكم الله والا الحروب الطائفية المدمرة قادمة مع الاسف ولبنان على وشك الهاوية.
شباط 2008… كان جمعاً عريضاً في ساحة الشهداء – الحرية جمع لا ينصّـب عـلـيه سـلطاناً عـظيماً ولا ولـيّـاً أو وصيّـاً لا غرابة المجرم مغنية اي ابن لادن الشيعي الذي كان ملاحقا من قبل 42 دولة لجرائمه القذرة بحق الابرياء اصبح شهيد من العمامات الشيطانية؟ مالكم كيف تحكمون وهل الله اعطاكم كروت الجنة توزعوها على المجرمين الطائفيين؟؟؟؟؟الحل وبدون لف ودوران لا سلاح الا سلاح الجيش. ووضع عقوبات عربية واممية قاسية لكل من يساعد المليشيات الطائفية لانها سرطانات قذرة باسم المقاومة. نعم(ان كلمة حزب الله خطيرة اي هو ربنا عمل حزب بإسمه من ورانا؟ يعنى إيه حزب الله، يعنى باقى الأحزاب تبقى… قراءة المزيد ..