دعيت في الاسبوع الماضي لألقاء محاضرة حول الحياة السياسية والحزبية في اسرائيل ، امام مجموعة من الشباب والطلاب خريجي المدارس الثانوية العربية في اسرائيل ، اعضاء في حركة الشبيبة العاملة والمتعلمة .
وانا ، كقائد سابق في منظمة الشبيبة الشيوعية في اسرائيل ، كنت متحمسا لارى اين يقف شبابنا اليوم ، بعد ثلاثة عقود ونصف العقد من السنين التي تفصلني عن تلك الأيام التي لا تنسى ، والمليئة بالتثقيف السياسي والفكري والثقافي ، وبالنشاط النضالي الذي رافقته الاعتقالات ، وأوامر تحديد التنقل ، وبأيام الشباب المليئة بالرومانتيكية والاندفاع ، والرغبة في ان نجعل العالم نسخة طبق الأصل لأحلامنا .
أنظر اليوم حولي فأرى أحزابا قد ترهلت ، وتنظيمات شبابية حزبية مهمتها ان تصفق للزعيم وترفعة فوق أكتافها.وبالكاد أسمع عن برناج تثقيف ، ومن معرفتي الوثيقة لواقع التنظيم الذي كنت من قادته ، التنظيم التي كان يحتضن الشباب ، ويقلق لمظاهر التسيب ، وينشل بكل قوته الشباب من الحلقات المفرغة ، ويعمل بجد وجهد هائل وتضحيات لا يمكن تقييمها بأي مقياس مادي أو فكري ، ويمد أجيال شعبنا بالوعي السياسي ، وبما حرموا منه من ثقافة شعبهم ، ويقوي ارطباتهم بقضايا شعبهم الوجودية والوطنية ، ويعطيهم الأمل بمستقبل نظيف من الاستغلال والعنصرية والاحكام العسكرية والخنق الثقافي ومصادرة الأرض – الوطن، والأهم يثقفهم على الفكر الوطني الانساني ، الفكر الأممي الذي لا يربي على الكراهية والعنصرية والتعصب القومي .. أعرف اليوم ان واقع هذا التنظيم تعيس جدا ، الفراغ بات يقتل الفكر ، تراجع الوعي والمعرفة أصبح ظاهرة مرضية ، وبدل النشاط الثقافي والفكري والتثقيف السياسي والنضال الوطني ، صارت مقاهي الأرجيلة هي التي تعبئ الدماغ ، والعنف ظاهرة تزيد من شرذمتنا الاجتماعية ، والطائفية أضحت أحزابا سياسية عمقت وتعمق ظاهرة الاستقطاب الاجتماعي ، وتعمق التنافر بين ابناء الهم الواحد والمصير الواحد.
مجتمع الشباب الذي كان يفور بالحياة ويخوض التحديات ، ويتعلم ويتثقف ويوسع مداركه ، ويندفع للتحصيل العلمي …أراه في أزمة .أراه يضيع وراء دخان الأراجيل .
حماستي للقاء الشباب من منظمة الشبيبة العاملة والمتعلمة ، كانت تشوبه مخاوفي من ان أجد نفسي اتحدث عن واقع يعيشونه بأجسادهم ولكنهم بعيدين عن مشاكله بأذهانهم .
ما طمأنني حديثي مع بعض قيادات المنظمة الذين دعوني للمحاضرة . حديثهم قوى توقعي بأنني امام منظمة جادة ومسؤولة ، تنشط بعيدا عن الأحزاب وعن القيادات الحزبية في المجتمع العربي في اسرائيل . وان جهودهم تتركز في الثقيف والمعرفة واثراء أعضاء منظمتهم على المستوى الشخصي والفردي.
ليبس سرا اني طرحت رؤيتي ، عن الواقع الحزبي والسياسي في اسرائيل ، الذي يعاني من أزمة قيادات ومن أزمة أحزاب ، والمعروف ان القيادة تبني أحزابا مأزومة على شاكلتها ، والأحزاب تختار قياداتها على شاكلتها المأزومة أيضا.
كان الحديث شاملا عن عجز الخطاب السياسي للأحزاب العربية عن تعبئة كوادرها وانعزالها عن الهموم اليومية. ومن هذا المنطلق تناولت مواقف الأحزاب السياسية من مختلف القضايا المطروحة ، وتركزت في حديثي عن “الموقف المسخرة ” من قضية “الخدمة المدنية” ، حيث طرحوا معارضتهم غير المبررة للمشروع ، دون ان يحاولوا المشاركة في صياغة فكرة الخدمة المدنية وبرنامجها بما يتلائم مع مجتمعنا. وكما هو متوقع أضحى الموضوع قرارا رسميا اقيمت من أجل البدء في تنفيذة ادارة خاصة في مكتب رئيس الحكومة.
ما أقولة ليس دفاعا عن المشروع بحد ذاته ، ولكن لي رؤية بسيطة تقول ان كل مجتمع مدني يحتاج الى خدمات مدنية ، وعلينا ان نجد المتطوعين لهذه الخدمات . هل طرح السلطة التي نتهمها بالعنصرية والتمييز لمشرع خلاق ، يفترض ان نقف ضده بدون تفكير وبدون مراجعة تفاصيله ومحاولة التأثير عليه بجعله ملائما لتطلعاتنا ؟؟
لا يكفي الصراخ . لا يكفي القول نحن ضد . لايكفي رفع شعار “لا” الكبيرة. ولا يكفي القول بدون تغطية بان المشروع خطوة أولى نحو الخدمة العسكرية .
على ماذا يعتمدون ؟ لماذا لم يحاوروا “لجنة عبري” حين كانت تعمل على المشروع؟
انقطاعهم عن واقع شعبهم ليس تهمة بقدر ما هي حقيقة. هل سرا انهم باتوا يقضون في الطائرات المتوجهة لعواصم الأنظمة العربية للتواصل معها ، أكثر مما يقضون في بلداتنا العربية في اسرائيل ؟ ويعرفون مشاكل انظمة الفساد العربية أكثر مما يعرفون مشاكل الناصرة وسخنين وام الفحم وغيرها من البلدات العربية ؟
هناك نموذج عل ” يقظتهم “…
حكومة اسرائيل ، التي ننتقدها دائما مثلما ننتقد كل الحكومات ، وانتقادنا على الأغلب محق ولا غبار عليه ، الا اننا أحيانا نهاجم بدون تفكير وننتقد قرارات لصالحنا ، مثلما انتقدنا وهاجمنا قرار الحكومة قبل أشهر باعطاء أفضلية في القبول لمستخدمين في المكاتب الحكومي من العرب ، لزيادة نسبتهم بما يخفف من ظاهرة التمييز الصارخ .
وتعهدت الحكومة بتقديم تقرير بعد عدة أشهر حول قراراتها . طبعا أحزابنا ثرثرت وانتقدت وتحدثت عن العنصرية وعن عدم المساواة ، وأقسم ان ما قالوه كله صحيح . غير اننا امام قرار سليم بأي مفهوم كان ، وربما أقل مما نريد ، ولكنه يشكل خطوة هامة ، يجب ملاحقتها برلمانيا وقضائيا وشعبيا لتنفيذها .
القرار اتخذ . الانتقادات العربية الحزبية سجلت . .ونسينا الموضوع . أحزابنا نستها أيضا .
قبل اسبوع فوجئت ان صحيفة ” هآرتس ” قدمت التماسا للمحكمة العليا تطلب فيه الزام الحكومة بقراراتها ، والحصول على التقرير الموعود . تبين انه غير جاهز وطلبت الحكومة التمديد حتى آخر الشهر.
لا أعرف اذا نفذ شيء من القرار ، ولكني أعرف ان أحزابنا نائمة. لا بالعير ولا بالنفير . ” هآرتس ” تلاحق الموضوع وهم نائمون . هل تذكرون الميزانية ( 4 مليار شيكل ) التي أقرتها حكومة سابقة ( ربما حكومة براك ) لتطوير الوسط العربي وأجلت وأجلت .. ثم لم نعد نسمع شيئا عنها ؟ هل فعلت أحزابنا شيئا لآلزام الحكومة بقراراتها ؟
المواضيع التي تهم قادة أحزابنا ، ولا تنسى … ما يزيد من رفع شأن الأشخاص الجالسين بقمة القيادة الحزبية ضمانا لعودتهم الميمونة مرة أخرى للكنيست.
لقد فرغت الأحزاب العربية من الأيديولوجيا والبرناج الحقيقي والحلم المجند للناس عموما.
اصبح لدينا فيض كبير من الأحزاب وبعضها وهمية، ومع ذلك مجتمعنا العربي يبدو خاويا فكريا وسياسيا . وشكليا خاويا من الأحزاب أيضا. هل سمع أحدا منكم عن نقاش فكري بين حزبين أو زعيمين ؟ يتناطحون فقط عندما تشتعل انتخابات الكنيست. ، تناطح لا فكر فيه يذكرني بحرب عابس والغبراء.
هذا الوضع يدفع أوساطا واسعة للبحث عن مصالحها ، حتى لو تناقضت مع مصالح المجموع .وبدأت تظهر من عقدين عناصر انتهازية تحتل مكانا مرموقا داخل الأحزاب ومحركها الآساسي ليس النهج السياسي او الفكري للحزب ، أنما المصلحة الشخصية، وبعضهم صاروا قوميين جدا بعد ان كانوا جبناء خاضعين لأحزاب السلطة .
هذا بالطبع من دلائل الأزمة السياسية والفكرية والثقافية الحادة لمجتمعنا العربي داخل اسرائيل.
ما يتوقعه العقل السليم من الأحزاب ان تكون ادوات نشر التوعية والتعبئة والتنظيم للشعب.
فهل لنا فائدة من مثل هذه الحزاب ؟
هل موقفها من الخدمة المدنية هو موقف عقلاني ام سياسة غوغائية ؟ قالوا “لا ” و “ضد” .. وهذا كل ما لديهم !!
ان مسؤلية القائد السياسي تحمل المسؤولية عن كل مشاكل مجتمعه ( بهذه الحالة مجتمعنا ) ، وعن كل هموم شعبهم ، واتخاذ المواقف السياسية التي تخدم مجتمعهم وتقدمة ورقيه وفتح الآفاق امام اجياله الصاعدة . وهذا بالطبع يفترض ان يكون القائد قادرا على التفكير ، وليس على اتخاذ المواقف المتشنجة فقط ، كما جرى بموضوع الخدمة المدنية ..
الفكر هو الذي يوضح للناس واقعهم ، ويقودهم في الطريق السليم ، ولا يدفع بهم الى المواقف المغامرة أو الطرق المغلقة.
ان البعد الاجتماعي لموضوع الخدمة المدنيةهو بعد ضروري لمجتعنا .
كان لقائي مع أكثر من 60 شاب وصبية مفاجأة أعادث لي الثقة بأن شعبي سيتجاوز العاجزين والمقعدين من قيادات لا تعيش همومه وتطلعاته الانسانية والحضارية.
كانت أسئلة الشباب والصبايا صعبة ولكنها أسئلة تبحث عن الجواب الصادق وليس عن التطمين الكذاب ، وما أثلج صدري هو تعطشهم للمعرفة ، وقدرتهم على التمييز بين العقلانية السياسية والشعوذة السياسية .
انها مجموعة اولى تستعد لتقدم لشعبها خدمة مدنية منظمة ، وفوجئت عندما تحدث مركز المجموعة بأنه جرى الاتفاق مع ادارة الخدمة المدنية ان يكون عمل الشباب والصبايا في المجال الثقافي فقط. أي ان الخيارات مفتوحة في اتجاهات عدة .
وكم تمنيت أن أرى مئات الشباب ، يشاركون بمثل هذه الدورات للتوعية الاجتماعية والسياسية والثقافية . ويتحضرون ليكونوا قادة المستقبل ورجاله في كل مرافق حياتنا.
هذا يثبت بشكل قاطع ، انه كان بأمكان قادة أحزابنا ان يصلوا الى صيغة ملائمة للخدمة المدنية لتكون رافعة اجتماعية نستفيد منها في مجمل مرافق حياتنا الحيوية. ويستفيد بالطبع الشباب الذين يؤدون خدمة لمجتمعهم ، ليس بما يحصلون عليه بعد الخدمة، وهو هام وحيوي جدا لمستقبلهم ، انما تأثيرهم الايجابي على الاوساط التي ينشطون معها ، وقدرتهم عبر أعمالهم التطوعية على نشر روح الوحدة الوطنية الانسانية من جديد ، تعيد لمجتمعنا ما فقده ويفقدة من حالة التشرذم السائدة.
اني ادعو جميع القوى الوطنية والدمقراطية واليسارية الصادقة للمبادرة باقامة أطر بديلة وذات مصداقية وذات برامج صادقة وعملية وبعيدة عن الدجل وعن الشعارات التي بلا رصيد .والأهم عدم قبول المواقف الحزبية بدون تفكير ، وبدون الجهد الذاتي لمعرفة الحقيقة من مصادرها . وانا على ثقة ، ان شباب شعبنا ، متعطشون للكلمة الصاقة ، وللموقف العقلاني الذي ينبع من الفكر والمسؤولية. واتمنى أخيرا على المسؤولين في منظمة الشبيبة العاملة والمتعلمة أن يشدو الخطى وان لايتركوا شبابنا للتضليل والضياع ،لأن طريقهم ، وما يقدموه غير قائم في أي تنظيم آخر .. أقول هذا بمسؤولية واصرار على كل كلمة.
nabiloudeh@gmail.com
* روائي، قاص، ناقد واعلامي – الناصرة
شبابنا.. الخدمة المدنية.. والحياة الحزبية العربية في اسرائيل
ما هذا؟
كل هذه الالقاب: روائي، قاص، ناقد وإعلامي؟؟؟؟
ولا يعرف الكتابة باللغة العربية…