فجأة، أصبحت الأوراق كلها فوق الطاولة. الكل يلعب على المكشوف هذه الأيام. بعد عقود من العيش في ما يشبه مسرحاً للدمى والعبث، يعيش العالم العربي لحظة جديدة ونادرة في تاريخه.
الأنظمة التي كانت حتى وقت قريب كلية القدرة والجبروت، تخوض هذه الأيام معركة البقاء. وفي معركة البقاء كل الأسلحة مشروعة، بما فيها وعلى رأسها الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي.
فلنضع ما حدث في الضفة الغربية وقطاع غزة، في يوم النكبة جانباً، ولنفكر في ما حدث على الجبهتين السورية واللبنانية مع إسرائيل. واهمٌ مَنْ يعتقد أن متظاهراً واحداً يستطيع الوصول إلى جبهة الجولان دون موافقة السلطات السورية، سواء بالتشجيع أو غض الطرف.
وواهمٌ مَنْ يعتقد أن الحافلات التي نقلت المتظاهرين إلى الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، لم تنل موافقة حزب الله، سواء بالتحريض أو الدعم اللوجستي. وواهمٌ، مرّة ثالثة، مَنْ يعتقد أن ما حدث في الجولان وفي جنوب لبنان، مفصول عن التحوّلات التي تجتاح العالم العربي هذه الأيام، بما فيها، وعلى رأسها، الانتفاضة السورية. فالنظام في دمشق أرسل رسالة واضحة إلى الإسرائيليين والأميركيين: أنا ضامن الاستقرار على الحدود، وفي بقائي مصلحة للجميع، وما أفعله بشعبي شأن داخلي لا يحق لأحد التدخّل فيه.
كان ذلك مضمون الرسالة التي عبّر عنها رامي مخلوف، قريب الرئيس السوري، في مقابلة ذائعة الصيت مع النيويورك تايمز. وكان ذلك، أيضاً، مضمون الرسائل التي رددها القذافي وابنه بعد اندلاع الانتفاضة الليبية، وقد أضافا إليها خصوصية لا توجد في الحالة السورية، وهي التحذير من خطر المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، على اعتبار أن بقاء النظام في طرابلس يحمي أوروبا من المهاجرين.
إذاً، بقاء النظام في دمشق يضمن أمن الحدود. وبقاء النظام في طرابلس الغرب، يحمي أوروبا من المهاجرين. هذا لعب على المكشوف. ولكن، في زمن التحوّلات الكبرى، وعندما يضع اللاعبون أوراقهم على الطاولة، ينفتح التاريخ على احتمالات جديدة، بصرف النظر عن نوايا اللاعبين أنفسهم. فحادثة الجولان، مثلاً، التي تمكن المتظاهرون خلالها من اجتياز الحاجز الأمني، والوصول إلى قرية مجدل شمس السورية المحتلة، تُحرّض على طرح أسئلة من نوع:
ماذا لو مشى بضعة ملايين من بني البشر في اتجاه حدود الدولة الإسرائيلية، من سوريا، ولبنان، وغزة، ومصر، والأردن، والضفة الغربية؟ عملياً، لا يستطيع الإسرائيليون حشد ما يكفي من الشرطة، وحرس الحدود، لمنعهم من اجتياز الحدود. وسياسياً، سيكون من المكلف جداً قتل مائة ألف متظاهر بالمدفعية والدبابات والطائرات في يوم واحد. وعملياً، أيضاً، ستفقد المدفعية والدبابات والطائرات قيمتها إذا تمكّن مائة ألف متظاهر من اجتياز الحدود، ودخلوا إلى المراكز السكّانية في إسرائيل.
سيناريو يشبه يوم القيامة، أليس كذلك؟
هذا النوع من السيناريوهات ليس بعيداً عن أذهان الإسرائيليين. قبل سنوات قليلة وضع أحد المعلقين الإسرائيليين سيناريو يسير بموجبه مئات الآلاف من الفلسطينيين في قطاع غزة، الذي يعاني من أزمة مياه، في اتجاه الحدود مع إسرائيل، وهم يحملون أواني الماء الفارغة، وتساءل: ماذا سنفعل إذا جاءوا بهذه الطريقة، وكيف سنردهم؟
في الزمن الميسيائي، وسيناريوهات يوم القيامة، يصبح كل شيء ممكناً. مَنْ تصوّر أن مليوناً من المصريين سيأتي إلى ميدان التحرير في القاهرة للإطاحة بنظام كان قبل أيام قليلة كلي القدرة والجبروت؟ ومَنْ تصوّر أن رياح التغيير ستجتاح العالم العربي، بهذا القدر من الحدة، يوم تظاهر مئات الآلاف أمام وزارة الداخلية في تونس، في آخر أيام بن علي؟ وقبل هذه وتلك: مَنْ تصوّر أن حائط برلين سيسقط، وأن سقوطه سيغيّر العالم؟
التصوّرات الميسيائية، تتجلى، عادة، في الذهن بطريقة، وفي الواقع، إذا تمكنت منه، بطريقة أخرى كارثية، وغير متوقعة في الغالب. والمهم، ليس مدى قابلية يوم القيامة هذا للتحقيق، بل مدى ما ينطوي عليه مجرد استدعائه من دنيا الخيال إلى دنيا الواقع من إدراك لهشاشة الدولة الإسرائيلية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي قال إن ما حدث في الجولان يهدد وجود إسرائيل. وهذا صحيح، طالما أن المقياس Paradigm الذي يستخدمه الإسرائيليون في تعريف وجودهم في المنطقة، وتوصيف ضماناته، بقي على حاله. أعرف ما الذي يدور في أذهانهم الآن: كيف حدث هذا الخرق الأمني؟ كيف سنجابه الخرق القادم، ونستعيد قدرتنا على الردع؟ ولكن البعض يشعر بعرق بارد يسيل في أسفل الظهر، للقوة حدود، والتاريخ ابن كلب.
على أية حال، يشعر العرب، عموما، في هذه الأيام بالتمكين empowerment. التمكين يعني الإحساس بزيادة القوة السياسية والاجتماعية والروحية للأفراد والجماعات. هذا الإحساس شائع، خاصة لدى الأجيال الشابة، أي الغالبية العظمى من العرب الأحياء. وهذا يصدق على الفلسطينيين، أيضاً، وحتى بدرجة مضاعفة بعد سنوات من الكآبة والإحباط.
ولكن تبقى ثلاث ملاحظات: أولا، يعيش العالم العربي هذه الأيام مرحلة انتقالية، حظوظ الديمقراطية، أو الثورة المضادة ما تزال متكافئة، في المدى القريب والمتوسّط على الأقل. ثانيا، في زمن اللعب على المكشوف يخسر الفلسطينيون إذا سمحوا لأنفسهم بالتحوّل إلى بيادق، مهما تكن طبيعة الشعارات التي تُدار باسمها اللعبة. ثالثاً، يرى الإسرائيليون في إحساس العرب بالتمكين مشكلة أمنية، ولهذا السبب فهم حلفاء طبيعيون للثورة المضادة في العالم العربي.
هل قلنا كل ما ينبغي أن يُقال. هذا غير ممكن، كل ما في الأمر أننا في زمن اللعب على المكشوف، وأن التاريخ يملك حساً نادراً بالسخرية، وأن سيناريوهات يوم القيامة أصبحت جزءاً من المخيال العام.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
Khaderhas1@hotmail.com
سيناريو يوم القيامة في الجولان ولبنان..!!
اولا اسقاط الانظمة الديناصورية الفاسدة ثم تأسيس الدول الوطنية بكل مؤسساتها المدنية ثم اسرائيل نفسها ستبحث عن السلام.