يقر في أذهان أصحاب المشروع السياسي الإسلامي، وفي ذهن الجمهور الأوسع من عامة المسلمين أيضاً، أنهم في نشاطهم وعملهم السياسي لإقامة نظام حكم إسلامي (ما) إنما يتخذون من الرسول قدوة ويحذون حذوه. وسوف أدافع في ما يلي عن رأي مفاده أن منهج عمل هذه الجماعات، على اختلافها، يخالف جوهرياً وبخط مستقيم منهج العمل الذي اعتمده الرسول لإظهار وبسط وإنفاذ دعوته.
1ـ اتكأ الرسول على السياسة كي يتمكن من حماية دعوته والخروج بها على الناس ونشرها، أي أن الرسول توسل عناصر الدنيا كي ينقل عبرها وبواسطتها رسالته الدينية. فلم يكتف بالإبلاغ عما كان يصله من الرسالة بل عمد في مكة، منذ اللحظة الأولى، إلى خلق تنظيم فريد شكّل سابقة حيرت القرشيين الذين لا عهد لهم بمثله، وكان هذا التنظيم يقوم على أساسين أولهما ديني يقوم على تصديق ما نزل على الرسول حتى إذٍ والتسليم والإيمان المسبق بما سوف ينزل عليه لاحقاً، ذلك أن الدعوة كانت حديثة العهد، لم تكن قد اكتملت ولم يكن قد تكشف منها إلا أقلها، وهذا ما يندرج في السياق الديني، والأساس الثاني هو الالتزام بتعليمات الرسول وأوامره وهذا ما يندرج في السياق السياسي المحض وليس في شيء من صلب الدعوة الدينية. ويمكن القول إن الرسول اضطر إلى سلوك هذا السبيل «السياسي» ليحول دون تحول دعوته إلى ظاهرة عابرة في تاريخ شبه الجزيرة العربية المعتادة على الكثبان الرملية التي تراكمها الريح فتعلو ثم لا تلبث أن تذروها فلا قرار لها. ومع نمو الدعوة نما التنظيم في مكة وباتت الاحتكاكات اليومية بين أفراد هذا التنظيم (المسلمين الأوائل) وبين بقية أهل مكة (المشركين) تهدد باندلاع أزمة أو قتال يشكل خطراً على الدعوة برمتها، فكان قرار الرسول بالصبر والمهادنة أولاً ثم بأن يهاجر قسم كبير من أفراد «تنظيمه» إلى الحبشة، للتخفيف من تلك الاحتكاكات درءاً لمعركة قد تنشب قبل أوانها وتتحول إلى حرب داخلية يكون وقودَها القرشيون وهو ما لم يرده الرسول الذي أراد للقرشيين أن يدخلوا في الإسلام وافرين ليكونوا كما رآهم، وكما كان لهم، أسياد العصر الجديد الذي افتتحته الدعوة. وكان قرار الرسول نافذاً بصفته السياسية كزعيم تنظيم لا بصفته الدينية، ذلك أن قرار الهجرة إلى الحبشة، ومعظم القرارات السياسية التالية، لم تكن أوامر سماوية جاء بها الوحي بل تدابير بشرية «سياسية» لصيانة استمرار تدفق الوحي إلى الرسول واستمرار تدفقه تالياً إلى قلوب/عقول عامة الناس. وهي تدابير كان الرسول يستشير صحابته بها وينزل عند رأيهم في الكثير من الحالات.
2ـ كان على الرسول إذاً أن يقوم بدور الزعيم السياسي ورئيس «الدولة» حين اقتضى الأمر منه ذلك في المدينة، ذلك فضلاً عن دوره الأساسي بصفته «المبلِّغ والمذكِّر»، لكن السؤال الجوهري هنا هو أي الدورين كان الناظم للآخر؟ أيهما الأساسي وأيهما العارض؟ في التدقيق بهذا السؤال يمكننا أن نمسك بالخيط الذي يوصلنا إلى إدراك انقلاب «الإسلام السياسي» على منهج الرسول باسم الاقتداء به واقتفاء سنته. فمن الواضح لكل متتبع لسيرة الرسول أنه لم يكن يبتغي ملكاً ولا منصباً دنيوياً على حساب دوره الرسولي، وإلا لقبل منذ البدء بما عرضه عليه المغيرة بن شعبة باسم زعامات قريش من تمليك وسيادة وثروة. الرسول هو في البدء والمنتهى متلق ومبلغ رسالة سماوية وكل ما سوى ذلك إنما هو أشياء عارضة قياساً على دور الرسول وعلى نشر الدعوة، أشياء اقتضاها العمل على إيصال وإنفاذ الدعوة. وكان الرسول قد شهد محدودية دور الوعظ والدعوة في المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه حين افتقر الوعظ، مهما علا شأنه وسمت مراميه، إلى حامل له، أي إلى تنظيم يحمله، كما كانت مثلاً حال الأحناف الذين كانت دعواتهم تذهب أدراج الرياح؛ فرأى أن نجاح الدعوة يستدعي التنظيم والانضباط ومركزية القيادة، أي يستدعي اعتماد العمل السياسي كحام وحامل للدعوة.
3ـ الدعوة الإسلامية الأولى استندت إلى سبل سياسية كي تقف على قدميها، وكان الرسول لا يتوانى عن تذكير أنصاره ومعارضيه بالثمار «السياسية» التي يمكن جنيها من وراء الدعوة، فيشحذ في نفوسهم الهمم الدنيوية. فمن الوعد بكنوز كسرى إلى العمل على مناوشة الروم، ومن مغازلة الزعامات الجاهلية («خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام») إلى تأليف القلوب، مسيرة سياسية دنيوية، أراد الرسول بها تمهيد السبيل أمام الدعوة وإدخالها في النسيج الفكري والنفسي للعرب وجعل الدنيا تجر قاطرة الدين إلى محطة اكتماله. فكان خاتم النبيين «يفتي» في السياسة ما ترى فيه عين عقله خدمة لسيرورة الدعوة إلى الدين الإسلامي الذي كان في طور التكوين. ومعروف كم كانت الدنيا، ولا تزال، تسرق العربي من نفسه، فالقبائل التي كان الرسول يعرض نفسه عليها كي تحميه حتى يبين عن الله ما بعثه من أجله، كانت تزن العرض «الرسولي» دنيوياً بميزان الربح والخسارة، لم تكن تهتم بأمر الدعوة بما هي كذلك، فحين عرض الرسول نفسه مثلاً على بني عامر بن صعصعة، قال رجل منهم «والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب»، وسألوه أيكون الأمر لهم من بعده إن أظهره الله على من خالفه، فحين أجاب الرسول بأن الأمر لله يضعه حيث يشاء، رفضوا حمايته. إذاً، الميزان الذي تعامل به العرب مع الدعوة في بدايتها ميزان غير ديني لا يبالي بمضمون الدعوة بل بجدواها الدنيوية. فلا غرو والحال كهذه أن يجعل الرسول مكاسب الدنيا حافزاً لقوم هذا ما يحفزهم.
4ـ ومهما يكن من شأن الباحثين الذين يقللون من الدور السياسي للرسول، أمثال علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم»، (وللدقة نقول إن علي عبد الرازق يسعى في كتابه الشهير المذكور إلى نقد فكرة الخلافة وهو في هذا المسعى ينتصر، بحق، لفكرة أن الدور السياسي للرسول خارج عن دوره كرسول، وأن الرسول لم يكن مكترثاً ببناء دولة وأنه استمد نفوذه من سطوته الدينية اللاسياسية، وهو كلام فيه نظر، وهذه الزاوية في تناول الموضوع تدفع في الواقع إلى التقليل من شأن العمل السياسي للرسول) أو يبالغون في رسم صورة الدولة «المكتملة والكاملة» التي أسسها الرسول في المدينة، أمثال عبد المعطي محمد بيومي في «الإسلام والدولة المدنية»، فالثابت أن السياسة هي التي نهضت بالدعوة وأن دينامو الدعوة كان يدور بوقود سياسية في الغالب، وأن وجود الرسول كان يشكل ضمان عدم سيطرة السياسي على الديني، أو بقاء الدينامو «السياسي» يعمل في خدمة الدعوة وتهيئة شروط استمراريتها. ولكن ما إن غاب الرسول بعد أن أعلن اكتمال الدين حتى سيطرت السياسة على كامل المشهد، وراح المحرك السياسي يعمل مستقلاً في الجوهر عن متطلبات الدعوة الدينية لخدمة متطلبات «تنظيم أو منظمة الدعوة» إن صح القول. من الصراع «السياسي» على الخلافة إلى حروب الردة «السياسية» إلى غيرها من شؤون الصراعات السياسية. ولعل من المفيد هنا التذكير بموقف الصحابي الكبير عمر بن الخطاب من حروب الردة، فقد أنكر الأخير على أبي بكر قتاله المرتدين وقال: «كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله». وموقفه الصريح من مقتل مالك بن نويرة على يد خالد بن الوليد. ومن المفيد أيضاً التذكير بأن آخر من أسلم من العرب علي يد الرسول (مكة والطائف) هم من حملوا، في مفارقة تلفت الأنظار، مع الأنصار لواء حروب الردة بعد أن أدركوا الآفاق السياسية التي تهيئها لهم الدعوة.
5ـ في هذه المرحلة أي بعد أن اكتمل الدين وانقطع الوحي بوفاة الرسول انقلبت العلاقة بين الدين والسياسة، ففي حين كانت السياسة في خدمة الدين بدأت تتكرس علاقة أخرى يعمل الدين فيها على خدمة السياسة، وبدأ تسويغ الأعمال السياسية بالمبررات الدينية. ولعل أول ظاهرة من هذا النوع كانت تسمية حروب الخليفة الأول التي خاضها حفاظاً على وحدة العرب المسلمين السياسية، هذه الحروب التي سميت بحروب الردة للدلالة على محاربة المرتدين عن الإسلام، في حين كانت هذه الحروب في جزء كبير منها لمحاربة المرتدين عن الانقياد لغير رسول الله. ذاك هو الخيط الذي ظهر غداة وفاة الرسول وطال وامتد حتى يومنا هذا. فانقلب المشهد من سياسة غايتها تهيئة شروط نقل الدعوة وإكمالها، إلى سياسة تبرر لنفسها بالدين. من دعوة تعتمد على ما للسياسة من فاعلية وقوة حشد كي تنمو وتنهض وتنتشر، إلى سياسة تعتمد على ما للدين من قوة وكرامة مستحقة في قلوب الناس كي تنمو وتحشد وتصل إلى غاياتها. من دين اعتمد على الدنيا إلى دنيا تعتمد على الدين. لكنها، في الحق، دنيا غير الدنيا ودين غير الدين.
6ـ ولئن كان الرسول «يفتي» في السياسة بما يخدم نشر الدعوة والوصول بها إلى كمالها معرضاً من الدنيا عن كل ما لا يكون في خدمة الدعوة مهما كان، ومتواضعاً في السياسة إلى حد التخلي عن صفة «رسول الله» في صلح الحديبية مثلاً، راضياً بأن يوقع الاتفاق باسم محمد بن عبد الله خدمة لمسيرة الدعوة وتمهيداً لها، فإن الجماعات الإسلامية السياسية اليوم «تفتي» في الدين ما يساندها في تنفيذ سياساتها معرضة من الدين عن كل ما لا يكون في خدمة دنياها وغاياتها السياسة. والشيء نفسه ينطبق على الحركات السياسية الإسلامية المعارضة والموالية سواء بسواء. فتجد ما لا يحصى من الفتاوي والاجتهادات الدينية التي تعكس ما لا يحصى من المصالح والأطماع الدنيوية. ما جعل الدين غلافاً للمصلحة بدلاً من أن يكون جوهراً روحياً بذاته يؤلف بين الناس وإن اختلفت دياناتهم.
والأمثلة على تعدد الفتاوي الدينية الإسلامية السياسية أكثر من أن تعد، رغم استنادها إلى المرجع الديني عينه وأحياناً إلى المذهب نفسه، منذ أيام الشيعة والمرجئة والخوارج، والصراعات بين الجبرية والقدرية وأهل الحديث وأهل الرأي والمعتزلة والأشاعرة وصولاً إلى اختلافات الأمس حول قضايا التأميم والإصلاح الزراعي بين الأخوان المسلمين في مصر وسوريا، ثم اختلاف تيار الخميني المعادي للشاه عن تيار شريعتمداري الموالي للشاه إلى اختلافات اليوم بين نظرة التيار الصدري في العراق ونظرة المجلس الأعلى الإسلامي في العراق إزاء الاحتلال الأميركي، وبين رؤية زعماء القاعدة والأخوان المسلمين اليوم… الخ. ونحن بالطبع لا نذم الاختلاف في السياسة ولا في غير السياسة بل نراه بالأحرى المظهر الطبيعي للحياة السياسية وغير السياسية في مواجهة المظهر الممسوخ والفقير للحياة الذي يتخذ شكل الرأي الموحد، لكن حين يسند الرأي، ولا سيما السياسي منه، إلى الدين و«يفتى» به من جهات وصائية تزعم لنفسها عصمة ليست لها وتنطق عن الهوى وتقحم المجالات القدسية في المجالات الدنيوية، فإن من شأن ذلك أن يحيل الاختلاف إلى عامل انقسام وتفتيت وحروب أهلية وغير أهلية. وما يلفت النظر أن رجال الدين في وقتنا الراهن يبدون آراءهم بقطعية وثقة عجيبة إلى حد أنك لم تعد تسمع منهم تلك العبارة «الديموقراطية» الجميلة والتي كثيراً ما كنا نسمعها من قبل، أقصد عبارة «الله أعلم»، فهم ربما يجدون في هذه العبارة انتقاصاً من وثوقيتهم وطعناً في «عصمتهم».
مؤدى الكلام أن اعتماد الحركات السياسية الإسلامية اليوم على دين منجز وتوظيف الطاقات الكامنة فيه، وهي بعد طاقات مشربة بالطائفية والمذهبية، لنصرة سياسات معينة تخدم غايات ومصالح دنيوية مختلفة وحتى متباينة، هو منهج يعارض تماماً منهج الرسول في دعوته، حيث اعتمد الرسول، في الجزء الأعظم من نشاطه، على فعالية السبل السياسية وجاذبية المكاسب الدنيوية كي يهيئ للدعوة سبل نموها واكتمالها وديمومتها. ففي حال الدعوة الإسلامية كان للدعوة سيطرة على السياسة وكانت السياسة وسيلة والدعوة هي الأبدأ، أما في حال الحركات السياسية الإسلامية فإن للسياسة موقع السيطرة والأولوية وهي التي تتوسل الدين لنصرتها عبر فتاوٍ تالية للمواقف والبرامج السياسية وليست هادية لها في الغالبية الغالبة من الحالات.
([) كاتب سوري
(نقلاً عن جريدة “السفير”)