(الصورة: الخميني أمام شاه إيران)
(الحلقة السابعة من دراسة مهدي خلجي: “سياسات آخر الزمان: حول عقلانية السياسة الإيرانية)
Mehdi Khalaji: Apocalyptic Politics On the Rationality of Iranian Policy
ربما كانت النقطة الأهم في هذا الفصل الذي خصّصه مهدي خلجي لإيديولوجية النظام الإيراني هي أن “نظرية ولاية الفقيه الشيعي لا ترمي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وإنما، بالأحرى، إلى إضفاء السلطة الشرعية على الفقيه لتجاهلها” وأن الخميني كان يعتقد أنه “من حيث المبدأ ليس هنالك مبدأ في الإٍسلام”. كذلك أنه “يحق للحكومة أن تُبطِلَ أي أمر، سواءً كان يتعلق بفرائض الإسلام أم بغير ذلك، إذا كان مخالفاً لمصالح الإٍسلام. وبمكن للحكومة أن تبطل مؤقتاً فريضة الحج، مع أنها من أعظم الفرائض الدينية، إذا اعتبرت أن إداء تلك الفريضة يتعارض مع مصلحة الجمهورية الإسلامية..”
ولاية الفقيه لا تحلّ، إذاً، محل “ولاية الشعب” فحسب، بل إنها غير ملتزمة حتى بـ”الشريعة الإسلامية” التي أقامت دولتها بإسمها. بكلام آخر، بدلاً من سلطة الفقيه المقيّدة بالشرع الإسلامي، فقد فتح آية الله الخميني الباب على مصراعيه لسلطة الفقيه غير المقيدة بأية إعتبارات دينية أو دستورية سوى.. مصلحة النظام. أي أنه فتح الباب أمام الإستبداد المطلق غير المقيّد سواء بدستور أو بشرع ديني! باختصار، نظرية “ولاية الفقيه” الخمينية تفتح الباب على مصراعيه لـ”الإستبداد الآسيوي” الذي تحدث عنه مونتسكيو وكارل ماركس.. وطبّقه جوزيف ستالين.
ب.ع.
*
مكانــــــــــــة الإيديولوجيـــــــــة في السيـــــــاسات الإيرانيـــــــــــة
بعد النظر في وجهات النظر الدينية للزعماء الإيرانيين البارزين (راجع الحلقات السابقة)، يبقى أن نتساءل إلى أية درجة تؤثّر الإيديولوجية في أعمالهم السياسية وفي القرارات التي يتخذونها. ما هي العلاقة بين السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية والقناعات الدينية لقادة هذه الجمهورية؟ بكلمات أخرى، ما هو وزن الإيديولوجية الإسلامية في السياسات التي تعتمدها إيران؟
إيديولوجية هشّة
يصوّر بعض المفكّرين الغربيين المسلمين كشعب واحد يمتلك وعياً وهويّة ثابتين ومشتركين. على سبيل المثال، كتب برنارد لويس: « إنهم (أي المسلمين) يعرفون من هم وماذا هم وماذا يريدون؛ وتلك ميزة يبدو أننا، نحن، قد فقدناها إلى حدّ بعيد”. إن مثل هذا الفهم للإسلام شبيه جداً بتصوّر المسلمين التقليديين للإسلام، وهو أن الإسلام دين يتجاوز التاريخ ويتجاوز تأثيرات المعايير الدنيوية. بالمقابل، يؤكّد مفكّرون غربيون آخرون على العلاقة المتبادلة بين نظم الإعتقاد الديني والوقائع الإجتماعية-التاريخية؛ فيقول ماكس فيبر، مثلاً، أن “تطوّر الصور الدينية يكون مدفوعاً بمنطق المصلحة، الذي تعبّر عنه الأفكار أو تفرض قيوداً عليه أحياناً”. إن وجهة النظر الثانية أقرب إلى الحقيقة. فالإيديولوجية الإسلامية ليست وحدانية، وفي كل بلد إسلامي تعكس الإيديولوجية الظروف المادية والملموسة للبلد المعني. تبعاً لذلك، فأي تغيير في الأوضاع الإجتماعية-الإقتصادية، وفي الأوضاع السياسية، يؤثّر تأثيراً كبيراً جداً في الإيديولوجية.
بدأت أزمة الإيديولوجية في إيران مباشرةً بعد انتصار ثورة 1979 الإسلامية. فعلاوة على سياساته الإقتصادية الشعبوية التي وعدت بتوفير حاجات الشعب الأساسية، بما فيها الماء والكهرباء والنقل، فإن مؤسّس الجمهورية الإسلامية، الخميني، وعد بتطبيق الشريعة الإسلامية حينما تسلّم السلطة. وإذ اكتشف أن الشريعة الإسلامية، كما عبّر عنها التراث الإسلامي، لا تتناسب مع الوقائع التي واجهها، فقد عمد الخميني إلى استخدام نظرية “ولاية الفقيه” لتحرير الفقيه الولي من القيود التي تفرضها عليه الشريعة الإسلامية. وتبعاً للخميني، يملك الولي الفقيه صلاحية مخالفة الشريعة الإسلامية إذا كان ذلك ضرورياً لضمان بقاء النظام. وفي خطاب إلى أعصاء مجلس تشخيص مصلحة النظام قبل خمسة أشهر من وفاته، كتب الخميني “في هذا العالم الذي تسوده الفوضى، فإن إحدى
المشكلات الحاسمة تتمثّل في دور الزمان والمكان (الظروف التاريخية) في الإجتهاد وفي عملية إتخاذ القرارات. إن الحكومة هي التي تقرّر بأية طريقة يمكن لنا عملياً أن نواجه مسائل الشرك، والوثنية، والمآزق الداخلية والخارجية. إن النقاشات المدرسية في إطار النظريات ليست غير قابلة للحسم فحسب، بل إنها يمكن أن توصلنا إلى مآزق ينجم عنه خرق الدستور”. وفي خطاب إلى رئيس الجمهورية (خامنئي)، كتب الخميني “يحق للحكومة بدون التشاور مع أحد أن تبطِلَ العقود الدينية مع الشعب، إذا كانت مثل تلك العقود مخالفة لمصالح البلاد ومصالح الإسلام. ويحق للحكومة أن تُبطِلَ أي أمر، سواءً كان يتعلق بفرائض الإسلام أم بغير ذلك، إذا كان مخالفاً لمصالح الإٍسلام. وبمكن للحكومة أن تبطل مؤقتاً فريضة الحج، مع أنها من أعظم الفرائض الدينية، إذا اعتبرت أن إداء تلك الفريضة يتعارض مع مصلحة الجمهورية الإسلامية”. وأكّد الخميني أنه إذا كان الولي الفقيه ملزماً باتخاذ قراراته بناءً على الشريعة الإسلامية وحدها، فإن الحكومة الدينية وسلطة الفقيه المطلقة تصبحان بلا معنى. وبناءً عليه، فالولي الفقيه ليس بالضرورة الفقيه الذي يفهم الشريعة الإسلامية أفضل من سواه، وإنما هو الفقيه الذي يملك القدرة والسلطة لفهم مصالح الإسلام ومصالح الجمهورية الإسلامية في ما يتجاوز النص المقدّس للشريعة الإسلامية. إن النصوص الدينية بحد ذاتها وبدون تأويل هي “إسلام صامت”، أما الولي الفقيه الذي يملك الحق الحصري في فهم تلك النصوص وفي تطبيقها فهو “الإسلام الناطق”. بكلمات أخرى، النصوص الإٍسلامية وحدها تظلّ بدون معنى في غياب الفقيه الذي يملك الحق الرسمي في تأويلها وتطبيقها.
“المصلحة” كعنصر جديد
كان الخميني أول من طرح مفهوم “المصلحة” في الفكر السياسي الشيعي. فالفقه الشيعي التقليدي يعتبر أن تقويض مقتضيات النصوص الدينية لخدمة الصالح العام غير جائز شرعاً، حتى لو كان مؤقتاً. ولكن نظرية الخميني السياسية تنصّ على أن ما يعتبره الفقيه مصلحة النظام يعلو على وصايا الله وأوامره. وفي تعديل أدخل على دستور الجمهورية الإسلامية، بات من حق القائد الأعلى أن يشكّل مجلس تمحيص مصلحة النظام الذي يتمثل واجبه الرئيسي في نقض القرارات التي يتخذها مجلس الوصاية المسؤول عن النظر في توافق القوانين التي يقرّها البرلمان مع الدستور ومع الشرع الإسلامي. بكلمات أخرى، يملك مجلس تمحيص مصلحة النظام، تحت سلطة القائد الأعلى، صلاحية نقض الشرع الإسلامي أو الدستور الإسلامي إذا ما اعتبرهما متعارضين مع مصلحة النظام. وكتب الخميني أن “صيانة النظام هي الواجب الديني الذي يفوق كل الواجبات الأخرى”. بناءً عليه، فإن نظرية ولاية الفقيه الشيعي لا ترمي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وإنما، بالأحرى، إلى إضفاء السلطة الشرعية على الفقيه لتجاهلها. وكان ذلك، بالضبط، سببَ معارضة كثير من فقهاء الشيعة لنظرية الخميني. فقد اعتبر هؤلاء أن الخميني، بنظريته هذه، يقدّم تبريراً دينياً لتجاهل الشريعة الإٍسلامية.
إستناداً إلى نظريته هذه، أضفى الخميني الشرعية على العديد من الممارسات التي كانت تعتبر غير جائزة دينياً قبل الثورة، من مشاركة المرأة في الإنتخابات إلى تجارة الكافيار. وتبعاً لتأويل الخميني للإسلام، فمن حيث المبدأ ليس هنالك مبدأ في الإٍسلام. إن الإمام وممثّلوه هم المعيار. ولم يكتفِ الخميني بتشريع العديد من الأفعال المحظورة دينياً، بل وأقحم الدين في مسائل لم تكن تخضع للشرع الديني. مثلاً، إن احترام قواعد قيادة السيارات ليس مسألة دينية، ولكن الخميني أصدر فتوى يعتبره مسألة دينية. وبعد أن كانت تأدية الضرائب للحكومة محظورة دينياً قبل الثورة، فإنها باتت واجباً دينياً بعدها.
تبعاً لذلك، كان القادة السياسيون الإيرانيون، بعد الثورة، وخصوصاً في العقدين الأخيرين، أكثر اهتماماً بالمصالح العيانية والعملية منهم بالمُثُل الإسلامية المجرّدة والمطلقة. بل إن الإستثمارات السياسية، والإقتصادية، والعسكرية التي خُصِّصت لدعم “قضية فلسطين” أو “قضية الإسلام” ينبغي ألا تُفهَم كمجرّد سياسة تقوم على حوافز دينية مجرّدة، وإنما ينبغي إدراجها في إطار الظروف التاريخية والسياسية التي تُشِكّل سلوك طهران. وبدقّة، فقادة إيران يضعون مصالحهم هم قبل مصالح الله. إن موقف طهران من أزمة “ناغورنو-كاراباخ”، أو في العراق حيث دعمت جماعات مسلحة سنّية، وكذلك تعاونها مع بعض الوهّابيين في المنطقة، يشكل دليلاً قاطعاً على أن النظام الإيراني يسعى لترسيخ سلطته وتوسيعها بكل الوسائل الممكنة، وأن الدين هو أداة لتبرير السياسات وليس قاعدة ملزمة له.
وقد أظهر قادة إيران، نظرياً أو بالممارسة العملية، أنه في حال وقوع نزاع بين مصالح الحكومة ومصالح الدين، فإنهم سيقفون إلى جانب مصالح الحكومة. ولكن فهم المؤسسة الحاكمة للنصوص الدينية وفّر لها القدرة على تبرير أي قرار بموجب الإيديولوجية الإسلامية. فإبان الحرب العراقية-الإيرانية، استخدم النظام كل العناصر والإيقونات والمفاهيم الإسلامية المتوفرة من أجل تبرير الحرب وتعبئة الشعب للمشاركة في القتال. وجاءت موافقة إيران على قرار وقف إطلاق النار الصادر عن مجلس الأمن، التي حظيت بدعم الخميني شخصياً، لتثبت أن الإيديولوجية الإسلامية تصلح لتبرير الحرب والسلم على السواء. والواقع أن أحد العواقب المهمة جداً لقرار وقف إطلاق النار كان طغيان الشكّ بنزاهة قائد الثورة. وأدى هذا الشك بمدى إخلاص القائد للمثل الإسلامية والثورية إلى حالة إكتئاب عميقة في صفوف جيل الحرب لأن الخميني كان وعد بالنصر، وكان اعتبر النصر وعداً من الله لشعب إيران. وكان الخميني قد أعلن أنه، مهما حدث، فسيصمد الإيرانيون حتى النهاية.
*
الفكر الإٍسلامي والأسلحة النووية
اتخذ قادة إيران العديد من القرارات المتناقضة في الحقبات الثلاث الماضية، وكانوا دائماً يبرّرون قراراتهم باعتبارات دينية. ولا يشكّل البرنامج النووي الإيراني إستثناءً في هذا المجال. والأرجح أن السياسة النووية للقائد الأعلى لا تتأثر بمعتقداته الدينية. ومن المؤكّد تقريباً أن موقف خامنئي من برنامج إيران النووي يستند إلى أجندته السياسية، وليس إلى وجهات نظره الدينية. لقد أولى المراقبون إنتباهاً كبيراً لزعمه بأن البرنامج النووي لا يهدف إلى إنتاج قنبلة ذرية لأن الإسلام يحظر إنتاج أسلحة تقتل مدنيين أبرياء. ولكن ثمة أسباباً وجيهة للشك في هذا الزعم.
لقد جاء في القرآن: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم”. وحسب فتوى لآية الله منتظري، ينبغي على المسلمين أن يتسلّحوا بأحدث الأسلحة المعدات لقتال أعداء البلدان الإسلامية، وكذلك لضمان الأمن الداخلي. ويفسّر الفقهاء المعاصرون تعبير “رباط الخيل” بصورة مجازية تشمل “كل المعدات والأسلحة الحديثة”. ويعتبر بعض الفقهاء الشيعة أن كل ما يرهب العدو هو حسن.
من الصعب أن يجد المرء في الإسلام قانوناً يحظر على المسلمين إستخدام أي سلاح ضد “أعداء الله”. ويمكن للمرء أن يزعم أن قتل المدنيين، والنساء والأطفال الأبرياء محظور في الإسلام. ولكن ذلك لا يحول دون إنتاج أسلحة الدمار الشامل إذا ما اعتبر الإمام الحاكم أن إنتاجها وامتلاكها سيرهب أعداء البلاد. وقد كتب الفقيه الشيعي البارز حسين علي منتظري الذي عيّنه الخميني خليفةً له أن “الأهبة العسكرية ليست لخوض الحرب فحسب. وواجب المسلمين العسكري لا ينحصر بوجود عدو حقيقي وبشنّه حرباً ضد البلدان الإسلامية؛ فالهدف من الأهبة هو تخويف الأعداء المحتملين وترهيبهم.. وهذا ما يسمّى “السلم المسلّح”.
ثانياً، وحسب الفقه الإٍسلامي، فالتمييز بين المدنيين والمحاربين غامض جداً حينما يتعلق الأمر بالكفّار. وقد اعتبر العلامة حلّي، الذي عاش في القرن الخامس عشر، أن هذا الموضوع يتمتع بإجماع الفقهاء الشيعة، وأنه إذا كان إلحاق الهزيمة بالعدو يقتضي مهاجمة النساء والأطفال والعجز وقتلهم، فإنه ينبغي مهاجمتهم. وفي مقال بعنوان “الأسس الشرعية الإسلامية لعمليات الإستشهاد”، نشر في مجلة “الحكومة الإٍسلامية” الفصلية (باللغة الإيرانية)، وهي المجلة الرسمية لمجلس الخبراء، عرض “سيد جواد فارائي”، وهو رئيس تحرير المجلة، أن العمليات الإستشهادية ليست محظورة بموجب مبادئ الفقه الشيعي، بل إنها تعتبر عمليات فاضلة. وردّاً على سؤال حول قتل الإبرياء أثناء هجمات إنتحارية، قال أنه “أولاً، يكون العدو جميعه أحياناً، بما فيه النساء والرجال، والشبان والكهول، مشاركاً في الغزو… وبناء عليه، فالطريقة الوحيدة لحرمانه الأمان هي العمليات الإستشهادية. ثانياً، من الممكن أن تكون نساء العدو قد تلقّين التدريب العسكري للقتال إلى جانب رجالهن، وتبعاً لذلك فإنهن يصبحن من جنود العدو ويعتبر قتلهن بمثابة قتل جنود العدو وليس بمثابة قتل مواطنين أبرياء.. ثالثاً، حينما يشن مقاتلو الإٍسلام مثل هذه العمليات، فإن قتل آخرين (أي مواطنين أبرياء) يبدو أمراً لا سبيل للحؤول دونه.. ورابعاً، حتى لو قتل محاربو الإسلام مواطنين أبرياء، فإن ذلك يمثّل ردّاً ثأرياً مشروعاً دينياً. هل يكون غير مشروع أن نقوم بردود ثأرية ضد عدو يقتل الشبان والمراهقين، والنساء والرجال، والكهول والمرضى، ويعتبر قتل الأطفال والنساء جزءاً من معتقداته؟”
إن العديد من فقهاء “قم” و”النجف” يعتقدون أن دم الكفّار لا يملك نفس حرمة دماء المسلمين. وقد كتب آية الله أحمد جنّاتي، الذي يرأس مجلس الوصاية، وهو مستشار مقرّب من خامنئي، في 20 نوفمبر 2005، أن “البشر، باستثناء المسلمين، هم بهائم تسير في الأرض وتعيث الفساد”.
باختصار، إن وجهات النظر الدينية التي يعتنقها قادة إيران لا تشكل رادعاً دينياً ضد الإصابات على نطاق شامل التي ستنجم عن إستخدام سلاح نووي.
ثمة منحىً آخر للنظر إلى وجهات نظر الفقه الشيعي في ما يتعلق بالحرب النووية. ويتمثّل هذا المنحى في دراسة مفهوم “الجهاد”، وهو أحد المسائل السجالية في الفقه الشيعي لحقبة “الغيبة”. وكانت الفكرة الأصلية هي أن إصدار أمر الجهاد الهجومي هو حق حصري للإمام المعصوم، وأنه، أثناء غيابه، لا يجوز للشيعة المشاركة سوى في الجهاد الدفاعي. ومنذ عهد الصفويين، وبعد نشوء النظرية التي تضفي قسماً من سلطة الإمام الغائب على الفقيه الشيعي، شرع بعض الفقهاء في نقاش مسألة شرعية الجهاد الهجومي. وكانت وجهة نظر الخميني في البداية أن إصدار أمر الجهاد الهجومي حقّ حصري للإمام المعصوم. (“تبرير الوسيلة”، المجلد 2). ولكن وجهة نظره تغيّرت لاحقاً، وبات يعتقد أن “الفقيه الشيعي يملك كل سلطات الإمام باستثناء ما إذا كان هنالك سند ديني يفيد أن حقاً معيناً أو سلطة معينة من سلطات الإمام تتعلق بهويّته الشخصية وليس بمركزه كرئيس للحكومة”.
وردّاً على سؤال من أحد أتباعه، أعلن الخميني أنه يمكن لفقيه مؤهّل أن يأمر بالجهاد الهجومي إذا كان ذلك في مصلحة الجمهورية الإسلامية. وفي أوراق محاضرات الخميني غير المنشورة، فإنه يدعو إلى نظرية تضفي الشرعية على أمر يصدره الفقيه الحاكم بإعلان الجهاد الهجومي. إن آية الله حسين علي منتظري، الذي كان أستاذ الخميني في الشرع الديني، يؤمن هو الآخر بنفس هذه النظرية. وفي كتابه “رسالة في توضيح المسائل” (بالفارسية)، كتب: “الجهاد الهجومي هو حرب يشنّها الإمام لدعوة الكفّار وغير الموحّدين للدخول في الإسلام أو للحؤول دون خرق معاهدة أهل الذمّة. والواقع أن هدف الجهاد الهجومي ليس فتح بلدان أخرى، وإنما هو الدفاع عن الحقوق الأصلية للأمم التي حرمت من السلطة على أيد الكفار وغير التوحيديين، والتي تشذّ عن عبادة الله، والتوحيد، والعدل”. وهو يقول أن الجهاد الهجومي يصبح ملزماً لكل المسلمين حينما يأمر به إمام معصوم أو فقيه حاكم. وبعد الإستشهاد بالآية القرآنية “وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ”، يقول منتظري أن “هذه الآية تشمل الجهاد الدفاعي والدفاع الهجومي على السواء. إن الجهاد، على غرار الصلاة، هو لكل الأزمنة ولا ينحصر في مطلع الإسلام، مثل حقبة محمد، وعلي، والأئمة الآخرين. فالمقصود بالجهاد هو الدفاع عن الحق والعدل، ومساعدة الشعوب المضطهدة، وتقويم الإسلام. وفي حقبة غيبة الإمام، لا يجوز أن يُهجَرَ الجهاد؛ وحتى لو دامت الغيبة مئة ألف عام، فإن على المسلمين أن يدافعوا وأن يقاتلوا لنشر الإسلام. وبالتأكيد، فإن كان الخير في السيف في مطلع عهد الإسلام، فإن الخير الآن هو في المدفعية، والدبابات، والرشاشات، والصواريخ… في المبدأ، الجهاد في الإسلام هو لأغراض الدفاع؛ سواء الدفاع عن الحق أو العدل، أو مجاهدة الكفّار لإكراههم على العودة إلى الوحدانية والطبيعة الإلهية. إن ذلك هو دفاع عن الحق، لأن إنكار الله هو إنكار الحق”.
يتبع
(1)مهدي خلجي: “سياسات آخر الزمان” في إيران
سياسات آخر الزمان” في إيران (2): المهدوية التراثية وقبل الثورة الإسلامية
“سياسات آخر الزمان” في إيران (3): “مشهد” ومتطرّفوها
التفكيكيّون، و”الحجّتية” و”الولايتيّون”
سياسات آخر الزمان” في إيران(4): المهدوية في الجمهورية الإسلامية
سياسات آخر الزمان في إيران (5): وجهات النظر الدينية لخامنئي وأحمدي نجاد
سياسات آخر الزمان في إيران (6) : أحمدي نجاد والإمام الغائب وإسرائيل