(الحلقة السادسة من دراسة مهدي خلجي: “سياسات آخر الزمان: حول عقلانية السياسة الإيرانية)
Mehdi Khalaji: Apocalyptic Politics On the Rationality of Iranian Policy
يطابق أحمدي نجاد التمهيد لعودة الإمام الغائب مع انهيار دولة إسرائيل. في خطاب ألقاه في 26 يونيو 2007، تحدث أحمدي نجاد عن “العد العكسي لسقوط النظام الصهيوني” وخاطب زعماء إسرائيل قائلاً: “اليوم أعلن بصوت مرتفع، مع أن أعينكم وآذانكم مقفلة، أن العالم كله يرى أنكم ستغرقون، لأن العدل ورائد العدل قادمان”.
ويبدو أن أحمدي نجاد متأثّر بنزعة في فكر “آخر الزمان” المعاصر تعتبر أن قتل اليهود سيكون أحد أهم إنجازات حكومة المهدي. إن الحماس لقتل اليهود يُنسَبُ خطأً إلى كتب التراث. مثلاً، إن كتاب الملاحم والفتن التي وضعه “إبن طاووس” في القرن الثالث عشر وموضوعه آخر الزمان وحكومة المهدي، لا يعطي أهمية كبيرة لليهود بالصلة مع الإمام. ولكن رجل دين معاصراً هو “سيّد مهدي أية الله” قام بترجمة الكتاب إلى الفارسية ووضع على الغلاف قصيدة جاء فيها أنه حينما يعود المهدي فإنه سوف “يقتلع اليهود الصهاينة”. ومن الواضح أن ذلك يمثّل إستخداماً تعسّفياً للتراث لأغراض سياسية. ويعود المثل الآخر إلى أعقاب الحرب اللبنانية-الإسرائيلية في العام 2006، حينما نشرت جريدة “كيهان” مقالاً بعنوان “على أبواب القدس”. واستشهد كاتب المقال بحديث نبوي جاء فيه أن شخصاً يدعى نصرالله سيهزم اليهود. ولكن عالماً إسلامياً ردّ على مقال “كيهان” وأثبث أن الحديث مختلق وأن كاتب المقال قام بتحوير حديثين وبتعديلهما لكي يوحي بانطباقهما على الأزمة اللبنانية. والواقع أن العداء لإسرائيل ظهر في إيران لأول مرة في سنوات الأربعينات على يد “فدائيي الإسلام“، التي كانت أول جماعة أصولية إيرانية تستخدم العنف بصفته أداةً مشروعة دينياً لاستئصال “أعداء الله”. وكان زعيم الجماعة رجل دين شاباً يدعى “مجتبى نوّاب صفوي”، وكان يقيم علاقات وثيقة مع جماعة “الإخوان المسلمين” المصرية.
لكن يبدو أن نزعتين معاصرتين معاديتين للسامية أثّرتا في عقلية الرئيس الإيراني أكثر مما أثّر به أي من عناصر الترات الإسلامي. وتعود كلا النزعتين إلى تراث العداء للسامية في ألمانيا في القرن العشرين. يقود إحدى هذه النزعات “محمد علي رامين“، الذي نظّم أنصار أحمدي نجاد في العام 2005، والذي كان كذلك سكرتير جماعة الرئيس المسمّاة “رائحة الخدمة”. وهو يرأس “منظمة الأمة الإسلامية” و”جمعية مناصرة الأقلية المسلمة في الغرب”. في مطلع حياته، كان رامين تلميذا يسارياً في ألمانيا، لكنه سرعان ما تأثّر بالنزعات المعادية للسامية فيها. إن وجهات نظره المناوئة للسامية بدائية، كما يظهر من خطاب ألقاه في 30 مايو 2006 وجاء فيه: “على مدى التاريخ، اتّهم اليهود بأمور عديدة. مثلاً، كان معروفاً أنهم السبب في انتشار الأوبئة مثل الطاعون والتيفوس وذلك لأن اليهود بشر قذرون جداً”.
وقد نظّمت وزارة الخارجية الإيرانية مؤتمر “الهولوكوست: منظور تاريخي” في طهران باقتراح من “رامين”. وأثناء المؤتمر، صوّت الـ76 مشاركاً بالإجماع لاختيار “رامين” أميناً عاماً لـ”معهد الهولوكوست الدولي” الذي انتهى المؤتمر بإعلان تأسيسه. وأثار المؤتمر سجالاً واسعاً لأن الرئيس الإيراني ألقى خطاباً جاء فيه أنه “ينبغي محو إسرائيل عن الخريطة”. وفي مقابلة مع موقع “بازتاب”، عرض “رامين” وجهات نظره حول تاريخ إسرائيل. فهو يعتقد أن اليهود كانوا يملكون نفوذا كبيراً جداً في النظام النازي، وأن هتلر ساعدهم للهجرة إلى فلسطين. وقد عرض صراحةً أن “الهولوكوست” ما هو إلا أسطورة اخترعها اليهود أنفسهم. ورداً على أسئلة صحفيين، قال “رامين” أن الصهاينة هم الذين دفعوا المجتمع الدولي لإجراء تحقيق حول نشاطات إيران النووية. ولمواجهة النظام الصهيوني، والضغط عليه، فقد قرّر أحمدي نجاد أن يطرح موضوع مدى صحّة “الهولوكوست” المزعوم.
إن التيار الآخر المناوئ للسامية الذي أثّر كثيراً جداً في نظرة أحمدي نجاد وفي إيديولوجية إيران بعد الثورة عموماً هو التيّار الذي مثّله “أحمد فرديد“، الذي كان فيلسوفاً إيرانياً بارزاً (1939-1994). بعد الثورة، عاش “فرديد” تحوّلاً إيديولوجياً صارخاً من الزهد إلى دعم ولاية الفقيه والعداء للسامية. وبات يعتبر أن اليهود والصهاينة أنتجوا كل إيديولوجيات الحضارة الغربية الحديثة، بما فيها نظريات حقوق الإنسان والديمقراطية. وكان “فرديد” مسحوراً بفكرة “آخر الزمان” والجهاد ضد الغرب واليهود. وباستخدام العناصر المناوئة للنزعة الإنسانية في فلسفة “هيدغر”، برّر “فرديد” النموذج الأكثر عنفاً من الأصولية الإسلامية في إيران. وقد كتب أحمد أشرف (في “موسوعة المعارف الإيرانية، المجلد 2) أن “فرديد اجتذب أنصاراً في حلقات الحوزات الدينية وقوات الإستخبارات، وكذلك بين محرّري الصحف اليومية الكبرى مثل “كيهان”، وفي صحف مثل “سورة”، وHawza-ye andipa وHonar-e eslmi “. ومع أن خطب أحمدي نجاد لا تشير إلى “فرديد” مباشرةً، فإن تأثيره عليه ثابت لسببين: أولاً، أن مفهوم العداء للحداثة والعداء للغرب في خطب أحمدي نجاد يشبه كثيراً إيديولوجية “فرديد”؛ وثانيا،ً لأن أنصار “فرديد” في هيئة تحرير “كيهان” هم من أكثر أنصار أحمدي نجاد حماساً.
الفهم الجديد للفعل الإنساني ولعود المهدي
خلقت الثورة فهماً جديداً لتراث “آخر الزمان” يفرض على المؤمنين أن يقوموا بفعلٍ ما لكي يسرّعوا بعودة الإمام. إن إيديولوجية “آخر الزمان” المسيّسة الجديدة هذه تتأثّر بالإيديولوجيات الحديثة، مثل فلسفة التاريخ عند كارل ماركس، أكثر منها بالتراث الإيديولوجي. وكما يعرض التراث الماركسي بأن الصراع الطبقي لا بد منه للوصول إلى مجتمع بلا طبقات، فإن دعاة “آخر الزمان” الجدد يؤمنون بأن القتال ضد الظلم خطوة لا بدّ منها من أجل التمهيد لظهور المهدي.
تتمثّل الآلية الرئيسية التي يستخدمها دعاة “آخر الزمان” الجدد لإضفاء شرعية دينية على سلوكهم السياسي في البحث عن تناسب بين علامات “آخر الزمان”، كما وردت في كتب التراث الشيعي، والزمن الراهن. وهم يسعون لتصوير أنفسهم وكأنهم أبطال روايات “آخر الزمان”، في حين يصوّرون خصومهم وكأنهم الأعداء المذكورون في تلك الروايات، التي يُفتَرَض أنها تدور في زمننا. بكلام آخر، لا يجد دعاة آخر الزمان الجدد أنصاراً لهم إلا إذا ما زعموا أن آخر الزمان بات وشيكاً وأنهم يمثّلون قوة الخير ضد قوة الشر. مثلاً، وفقاً للتراث، قبل ظهور المهدي ستقوم جماعة من الشرق وتواجه الطغيان في العالم. وعن هذا الحديث قال “مسعود بور سيّد أقائي“، المقرّب جداً من أحمدي نجاد ورئيس “معهد المستقبل المشرق” أنه يعني أن “شعب إيران سوف يقوم وسيمهّد الطريق لعودة الإمام الغائب”. إن مطابقة أحداث اليوم واللاعبين السياسيين الحاليين بعلامات آخر الزمان يسمح لهم بزعم أنه من أجل تسريع عودة الإمام الغائب فإن أشخاصاً يملكون ميزات خاصة سيقومون بمهام خاصة. فقد اعتبر “داوود أحمدي نجاد“، وهو شقيق الرئيس ورئيس مكتب التحقيقات الخاصة التابع لرئيس الجمهورية، أنه كما وقف موسى ضد الفرعون وحرّر شعبه، فإن أحمدي نجاد وقف ضد بوش، مبشّراً بالعودة القريبة للإمام الغائب (في خطابه، أطلق داوود أحمدي نجاد على القائد الأعلى صفة “خليفة الله“، وهو أمر غير مألوف في التراث الشيعي).
وينزع دعاة آخر الزمان الجدد إلى موازاة صعود أحمد نجاد بتصاعد الرذائل مثل الدعارة، والإدمان على المخدرات، والفساد الإقتصادي، والإنحطاط الثقافي. وتبعاً لهم، فإن وصول أحمدي نجاد إلى السلطة سيمهّد الطريق لعودة الإمام الغائب عبر مكافحة “المفسدين في الأرض” داخل إيران وخارجها. ويعتبر مستشار أحمدي نجاد، “محمد علي رامين”، أن زيادة الرذائل جزء من مخطط تآمري لـ”السيطرة اليهودية” على المسلمين، التي تتمثّل بالإحتلال الإسرائيلي لأراضي المسلمين المقدّسة. كما يعود تصاعد الرذائل إلى تشويه نصوص الإسلام المقدسة على أيدى عملاء الإستعمار، وبالأخص “إمبراطورية أميركا”. وتحتل الولايات المتحدة بصورة خاصة مكانة بارزة في دار الشياطين الغربيين ليس فقط لأنها شنّت حرباً ظالمة على العراق ولأنها تؤيد السياسات الحاقدة للدولة الصهيونية، بل ولأنها تفرض قواعد إستعمارية على الشعب الإيراني، وتضغط على إيران بسبب برنامجها النووي، وتفرض عقوبات إقتصادية، وتعبّّئ العالم ضد الجمهورية الإسلامية.
مع ذلك، يبدو أن الرئيس وأتباعه لا يملكون فكرة دقيقة حول الأفعال الإنسانية المطلوبة لتسريع عودة المهدي. وفي خطب أحمدي نجاد، فإن الأفعال الوحيدة التي يتحدث عنها للتسريع بعودة الإمام الغائب هي تطبيق الشريعة الإسلامية ودعواته لزعماء العالم للقبول بتعاليم الإسلام. مثلاً، إبان موسم الحج في العام 2007، تحدث أحمدي نجاد إلى الحجاج الإيرانيين في مكة حول الإمام الغائب. وابتدأ بإعلان أنه “ليست هنالك مهمة في زمننا سوى مهمة دعوة الإمام الغائب.. إن الجمهورية الإسلامية هي وسيلة الإتصال بالإمام. وبدون الإتصال بالإمام، ماذا يبقى من الجمهورية الإسلامية؟” ويعتقد أحمدي نجاد أن الإمام الغائب يسيطر كلياً على العالم وإن “تسيير شؤون العالم في يدي الإمام”. وهو يعتقد ان السياسي غير المتّصل بالإمام والذي لا يتوقّع عودته “لا يستفيد من الحقيقة”. كما أعلن أن البرنامج النووي الإيراني يسير تحت سيطرة الإمام الغائب وأن الإمام الغائب هو الذي وجّهه في الخطاب الذي ألقاه بجامعة كولومبيا في العام 2007. ولم يشر أحمدي نجاد في خطاب مكة إلى أية أفعال محددة مطلوبة لظهور الإمام الغائب، ولكنه أشار إلى ضرورة تأسيس العدل ومكافحة الظلم.
يلقي أحمدي نجاد خطباً نارية حول إسرائيل والغرب، ولكن ليس واضحاً ما إذا كان يعني أن على المؤمنين أن يقوموا بفعل ما في هذا الصدد. إن قسماً من التراث الشيعي ينص على أن عودة الإمام ستحصل في وقت تعمّ الفوضى العالم، ويبدو أحياناً أن أحمدي نجاد يسعى لنشر الفوضى لهذا الغرض. لكن، نظراً لأن أحمدي نجاد ليس فقيهاً ولا حتى منظّراً سياسياً، فقد لا تكون لديه فكرة واضحة عن الأفعال البشرية المطلوبة للتسريع بظهور الإمام الغائب. وهذا، خصوصاً لأنه ليس هنالك في كتب التراث ما يمكنه الإستناد له. فأدب آخر الزمان الشيعي ينصّ صراحةً على أن الفعل الإنساني الوحيد الذي يمكن أن يسرّع عودة الإمام الغائب هو الصلاة والطاعة.
رغم التقارير التي تفيد بانتمائه إلى جمعية سرّية، فليس هنالك دليل واضح أن أحمدي نجاد يسعى لتنفيذ “أجندة” سرّية لتسريع ظهور الإمام الغائب. فلو كانت مثل هذه الخطة السرّية موجودة، فليس هنالك شكّ في أن خصومه السياسيين كانوا سيكتشفونها ويستخدمونها ضده. إن خصوم أحمدي نجاد يملكون أسباباً قوية للقلق بالنسبة لهذا الموضوع. فلو كانت مثل هذه الخطة السرية موجودة، فإنها ستطال مواضيع السياسات الداخلية التي تهمّ خصوم أحمدي نجاد أكثر بكثير مما تهمّهم سياساته الخارجية.
الحلقة المقبلة: مكانة الإيديولوجية في السياسات الإيرانية
(1)مهدي خلجي: “سياسات آخر الزمان” في إيران
“سياسات آخر الزمان” في إيران (2): المهدوية التراثية وقبل الثورة الإسلامية
“سياسات آخر الزمان” في إيران (3): “مشهد” ومتطرّفوها
التفكيكيّون، و”الحجّتية” و”الولايتيّون”
سياسات آخر الزمان” في إيران(4): المهدوية في الجمهورية الإسلامية
سياسات آخر الزمان في إيران(5): وجهات النظر الدينية لخامنئي وأحمدي نجاد
أيضا:
وول ستريت جورنال: داخل آلة النقود المقدّسة في إيران
“ضريح الإمام الرضا”أغنى إمبراطوية تجارية في إيران الإسلامية