قديما قيل “من لم يزر البصرة مات بحسرة”. وهذه المقولة بطبيعة الحال لم تعد صحيحة في ظل الأوضاع البائسة التي تعيشها هذه المدينة العراقية حاليا. غير أن من قال: ” إذا لم تطأ قدماك شارع سوكومفيت في بانكوك فكأنك لم تزر تايلاند” مصيب ومحق. وهذا ليس فقط بسبب حقيقة كون هذا الشارع هو الأطول على مستوى العالم ( نحو 400 كيلومتر)، حينما نضيف إليه امتداداته من ناحية الغرب التي تنتهي بشارع ” بلونتشيت ” وامتداداته من ناحية الشرق التي تنتهي بحدود تايلاند مع كمبوديا ، وإنما أيضا بسبب ما يقع على ضفتي الشارع من مجموعة من أفخم المجمعات التجارية والشقق السكنية والفنادق والمطاعم والأسواق ودور الترفيه في العالم. هذا ناهيك عن الطرق التي تقطع الشارع بالعرض، ويحمل كل منها اسم ” سوي” مرفقا برقم يبدأ من 1 وينتهي بالرقم 107 . ومن يدقق في هذه الطرق يلاحظ تشكل تقسيمات لم يكن لأحد يد فيها سوى تباين خيارات وأذواق أصحابها. فالطرق من الرقم 1 وحتى الرقم 63 مرغوبة كمناطق للسكن من قبل الأوروبيين، والطرق من 21 وما فوق يفضله اليابانيون، أما الهنود فيفضلون السكن في الطرق من 8 إلى 28، وهناك طريق يعرف باسم “كاوبوي” يفضله العرب والأفارقة من نيجيريين وصوماليين، هو ذلك المحيط بفندقي ” غريس” و ” نانا “.
أمر آخر ربما لم يدقق فيه كل من زار هذا الشارع، الذي يحمل اسم سوكومفيت نسبة إلى رابع مدير لدائرة الطرق التايلاندية ” برا بيسان سوكومفيت” ، هو أن الشارع له أكثر من وجه خلال اليوم الواحد. فمع بداية النهار في الصباح الباكر تستغل أرصفة الشارع لبيع الخضار والفواكه والأغذية، ومع انتصاف النهار تتحول الأرصفة نفسها إلى مكان تصطف فيه العربات التي تبيع السندويشات أو وجبات الغداء المحلية والعصيرات. ومع بداية الفترة المسائية تغيب العربات السابقة لتحل محلها عربات أخرى تعرض الملابس والساعات والحقائب والسلع المقلدة والهدايا التذكارية لتتلوها عربات تبيع وجبات العشاء والمرطبات أو عربات تعمل كالحانات المتنقلة. و في الحالات السابقة قد تتغير الوجوه وقد لا تتغير، بمعنى أن الشخص نفسه يتنقل من عمل إلى آخر، غير أنه في جميع الأحوال لا ينتقل الشخص من عمل إلى غيره إلا بعد أن يكون قد مهد لذلك بتنظيف المكان من مخلفات عمله السابق، بل غسله بالماء والصابون. وهنا يقوم القانون مقام المنظم للعملية. فطبقا للقانون المعمول به في تايلاند، لا يكون لمستأجر المحل التجاري حق الانتفاع بمساحة العقار الداخلية فقط، وإنما أيضا بمساحة الرصيف الخارجي الواقع أمام محله. ومن هنا يلجأ الكثيرون من المستأجرين إلى تأجير أرصفة محلاتهم من الباطن إلى شخص أو عدة أشخاص في اليوم الواحد. وعلى كل واحد من هؤلاء أن يمهد المكان لمن سيخلفه عليه.
حينما كنت أقيم واعمل مع المنظمات الدولية في تايلاند كمتدرب، في مرحلة التحضير للماجستير ودبلومات التخصص، كنت وبعض الزملاء نتردد يوميا على المجمع التجاري الافخم في بانكوك وقتذاك، وكان يسمى ” أمارينا بلازا”، حيث كان الأخير يحتضن واحدة من أفضل المكتبات التجارية الإنجليزية، وواحدا من أفضل المقاهي الأوروبية، عدا عن أحد أفضل وأفخم متاجر الملابس الرجالية. كانت زيارة هذا المكان بالنسبة لنا في تلك الأيام، وحدها بمثابة ترفيه لا يقدر بثمن.
في زيارتي الأخيرة لبانكوك قبل شهرين مررت بذات المكان لأجده قد شاخ مثلما شخنا، وتحول إلى ما يشبه أسواق ” الروبابيكا للملابس المستعملة “. لم يكن هناك المقهى الذي لطالما قدمت لنا نادلته المجنونة ” نوعا متميزا من الكابوتشينو”. ولم يكن هناك المتجر الذي لطالما ابتعنا منه ملابسنا وفق خطوط الموضة زمن الشباب والنضارة. حتى المكتبة كانت غائبة، وقد تكوم في أرففها بضائع تافهة!
وبقدر ما أثار المشهد تألمي، فانه لم يدفعني إلى التوقف وسؤال أحدهم عما حل بالمكان لإيماني العميق بأن هذه الأمة العظيمة لا يختفي من حياتها معلم عظيم قبل أن تدشن شيئا أكثر إبهارا للنظر واكبر فائدة ونفعا وتألقا وأقدر على التنافس. وهذا ما تأكد لي في الواقع في اليوم التالي، حينما قادتني قدماي إلى مكان أفخم واكبر وأضخم من المكان الذي اعتدنا زيارته في الثمانينات، وفي الشارع نفسه أي في سوكوفيت رود.
من الأمور التي لا زلت أتذكرها عن هذا الشارع أيضا، ازدحامه المروري الرهيب الذي كان يحرق الأعصاب ويوتر النفس، كيف لا ، ومشوار قصير يمكن قطعه في الأحوال العادية في دقائق معدودات، يستهلك من المرء أكثر من ساعة بسبب تدافع المركبات الجنوني و عددها الهائل والإشارات الضوئية المتكررة، ناهيك عن محاولات العربات الشعبية الرخيصة المعروفة باسم “توك توك ” – الكلمة تعني “في كل مكان ” – تجاوزك.
لكن هذه صارت اليوم مشكلة من الزمن الماضي، ولم تعد تؤرق المواطن أو السائح حاليا، بفضل سياسات الحكومة الواقعية والحكيمة. ففي أواخر التسعينات، اتخذت الحكومة قرارا جريئا بحل المشكلة عبر إنشاء شبكة القطارات المعلقة التي تخترق سماء أكثر مناطق بانكوك ازدحاما. ولم يأت عام 1999 إلا والمشروع منجز ويعمل بدقة وكفاءة عاليتين، ناقلا مئات الآلاف من البشر – مواطنين وسياح أجانب – في كل ساعة بسلاسة ويسر وأسعار مناسبة وتنظيم تدقيق ونظافة. وابتداء من عام 2004 أدخلت الهيئة المسئولة عن المشروع تطويرا عليه ليكون أكثر استجابة لمطالب السياح الأجانب، وذلك من خلال إنشاء مراكز إرشادية وتوظيف فتيات وفتيان يجيدون اللغات الاجنبية وتقديم عروض تشمل شراء تذاكر لعدة أيام على جميع الخطوط بثمن مخفض مع خرائط مجانية.
والحقيقة أن هذا المشروع أحدث ثورة في عالم الانتقال من مكان إلى آخر في بانكوك واثر في حياة الملايين من سكان العاصمة الذين تزايد عددهم من 8 ملايين في الثمانينات إلى 12 مليونا في الوقت الحالي، ولا سيما بعد أن تم ربط المشروع بأول نفق في البلاد وهو النفق الذي يعتبر احد البدائل اليوم للوصول إلى ” تشاينا تاون ” أو المدينة الصينية القديمة وتسمى بالتايلاندية ” ياوارات “.
صحيح أن المشروع لا يغطي كل أنحاء بانكوك، فلا يمتد ابعد من حي المصارف والدوائر الرسمية في ” سيلوم رود ” وحي الفنادق والمباني السكنية في ” سوكومفيت ” و منطقة المجمعات التجارية في محيط ” سيام سكوير “، لكنه بكل تأكيد يقرب المسافات ويزيل الاحتقانات ويريح الأعصاب المشدودة، بل ربما كانت محدودية خطوطه ميزة وليست عيبا كيلا تتعقد الأمور أمام مستخدم الشبكة كما هو الحال بالنسبة لشبكة الأنفاق البريطانية.
وطالما تحدثنا عن سوكومفيت رود، فمن الأجدر أن نتحدث عن بانكوك، المدينة التي بدأت في جذب المزيد من السياح العرب بوتيرة متسارعة منذ سبعينات القرن المنصرم، ورغم ذلك لا يعرف سوى القليل منهم شيئا عن تاريخها ونشأتها.
كانت مدينة ” أيوتايا ” هي عاصمة ملوك تايلاند حتى عام 1767، أي العام الذي احرق فيه الغزاة البورميون المدينة، ليقوم الملك الجديد ” تاكسين ” بتأسيس عاصمة جديدة في المكان المعروف حاليا بضاحية “تونبوري ” تحت اسم بانكوك والذي هو اختصار لعبارة ” كرونغ تيب ماها ناخون ” أي مدينة الملائكة. وفي عهد الملك ” فونغ كوت ” أو راما الأول مؤسس السلالة الملكية الحالية اختيرت بانكوك رسميا كعاصمة للبلاد وكقاعدة للحكومة، حيث بدأت تشهد المدينة منذ ذلك الحين تطويرا لمرافقها و خدمات العامة، وبالذات الطرق التي تم تعبيد أوائلها في عام 1863، وسكة الحديد التي بني خطها الأول الذي يربط بانكوك بشمال البلاد في عهد خليفة الملك فونغ كوت ” تشالونغ كورن”. والأخيران صنعت لهما هوليوود الأمريكية في عام 1999 فيلما تحت عنوان ” الملك وأنا ” من بطولة يول تيرنر، لكن السلطات التايلاندية لا زالت تفرض حظرا على تداوله ومشاهدته وعرضه بذريعة أنه لا يعكس شخصيتيهما الحقيقية ويعتبر إهانة للأسرة المالكة. ففي نظر تايلانديين كثر أن الملك راما الأول وابنه راما الثاني كانا إصلاحيين و اليهما تعزا بدايات الانفتاح والتطوير. وتصحيحا للوضع أو اعترافا بالخطأ، يقال أن هوليوود الآن بصدد صنع عمل سينمائي جديد يحمل عنوان ” أنا – بتشديد النون – والملك”.
ومع بداية القرن العشرين بدأت بانكوك طريقها نحو التحول إلى عاصمة كوزموبوليتينية مستفيدة من أجواء السلام والاستقرار التي خيمت على ربوع البلاد بفضل الدعم العسكري الأمريكي في الستينات، زمن الحرب الفيتنامية، ثم الدعم والمساعدات الاقتصادية الكبيرة فيما بعد من الدول الحليفة مثل اليابان، ناهيك عن سياسات الدولة الحكيمة في الانفتاح والتنمية الحضرية وبناء قاعدة صناعية للتصدير واستغلال ما تتمتع به البلاد من مقومات سياحية خير استغلال.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين