ا
بفضل الثورة السورية والحراك الذي صنعته يدخل ملايين السوريين حيز السياسة بعدما كان ذلك الحق حكراً على الدولة وحزب البعث، فمع كل يوم جديد تنضم قطاعات أكبر من الغالبية الصامتة إلى الثورة وذلك بهدف الإمساك بمستقبلها. وبينما تتعالى أمواج الثورة السورية يعجز النظام السوري، الذي يسقط كل يوم في الامتحان التاريخي، عن تصفيتها. إن انتصار الثورة السورية حتمي كما أن تحولها إلى دولة ونظام جديد مسألة وقت.
لقد تفجرت ثورة سورية لأن الشعب السوري لم يجد في قيادة الأسد والمجموعة التي تقف وراء قوته ما يلبي الحد الأدنى من طموحاته، فالنظام السوري الذي بدأ يعاني سكرات النهاية وآفاق الغروب يعيش في مؤخرة النظام الدولي والاقتصاد العالمي بعد أن سلم البلاد لأقلية من المتنفذين المعزولين عن بقية الشعب. وبينما تقاسم النظام السوري في زمن الرئيس حافظ الأسد بعض المنافع مع فئات مختلفة من المجتمع السوري في الأرياف، نجد أن سياسات بشار الأسد الاقتصادية أدت إلى عزل فئات واسعة من السوريين في درعا وإدلب وريف دمشق ومدن أخرى مثل حمص وحماة. لقد ثار الشعب السوري عندما تبين له أن أسلوب النظام الأمني وامتهانه لكرامة المواطن وحرياته وضيق أفق سياساته الاقتصادية والأمنية تدفع بالسوريين في قراهم ومدنهم إلى الحائط.
وتمثل الثورة السورية حالة امتداد لرغبة السوريين في العودة إلى المسرح الإنساني والعربي، وهي في الوقت نفسه تعبير عن سعي السوريين لبناء سورية ديموقراطية ونامية في ظل تغير شامل في القيم والحقوق والفكر والممارسات. هذا البعد في الثورات العربية وفي الثورة السورية بالتحديد هو الذي يوجه حراكها الواسع ويؤجج تفاعلاتها. الديموقراطية القادمة في سورية لن تكون انتخابات فقط، فالناس لا تضحي على هذا المستوى للخروج بانتخابات تسيطر عليها فئة محدودة من الناس تؤدي إلى إعادة إنتاج حزب البعث والنظام القديم. الديموقراطية القادمة في سورية ستضمن حقوق كل مواطن في ظل عودة السياسة والحريات إلى بلد حرم منها لمدة تجاوزت الأربعين عاماً. ويقف وراء الغضب السوري مجتمع يريد إيقاف آلة القتل ضده وحماية حقوقه وتحقيق التداول على السلطة الذي سبب غيابه الديكتاتورية الأسدية. في سورية القادمة سيكون للكرامة الإنسانية مكانة وللعدالة الاجتماعية والاقتصادية موقع يضع حداً فاصلاً بين القديم والجديد.
وللثورة في سورية تعبيرات ووجوه عدة: شعب يحب الحياة نجده يتعايش مع الدبابة قرب بيته، لكنه يتظاهر ضدها عند كل منعطف، وهو في الوقت نفسه شعب يسعى لنهاية حقبة الظلم متحلياً بطول النفس وصلابة الإرادة. الاقتصاد السوري لم يعد يحتمل قوة الثورة وطول أمدها بل نجده يزداد إضعافا للنظام وقدراته. وفي الوقت نفسه يقع الجيش تحت ضغط كبير في ظل تنامي قوة «الجيش الحر» الذي يتقبل متطوعين من الشعب السوري على أوسع نطاق. «الجيش الحر» أصبح جزءاً من المعادلة، وهو يتحرك في مناطق واسعة حول دمشق وحول المدن وداخلها. سورية الثورية في بداية تكوين جيش وطني جديد ينتشر في كل المواقع، ويعبر عن قدراته في الليالي الطويلة.
لقد خرجت مدن ومناطق كاملة في حمص عن سلطة النظام، بينما يختنق النظام المسيطر على دمشق بفضل ثورة ريف دمشق الموسعة. وفي الوقت نفسه تتعمق الثورة في كل من درعا وريفها وإدلب وريف حلب ومناطق أخرى ممتدة. في الليل يسيطر الثوار وفي النهار يعود الجيش إلى بعض المناطق قبل أن يرعبه الليل. إن مسلسل خروج المناطق عن سيطرة النظام سوف يزداد انتشاراً في كل الاتجاهات. لقد سقطت سيطرة النظام بمجرد صمود الناس أثناء حملاته العسكرية الفاشلة هذا الشهر والشهر الماضي. ثورة سورية هي ثورة المستحيل، فمع كل قمع ومع كل هدم لأحياء وقرى هناك إصرار أعمق على الاستمرار في الثورة وسقوط أكبر للدولة.
الدولة في سورية دخلت مرحلة الفشل، فهي متراجعة عن تأمين الكهرباء والمياه والمدارس وكل المرافق، حتى سيارات الدولة بدأت تنفذ، بعضها يصادرها «الجيش الحر» وبعضها تصادرها جماعات الشبيحة التي أطلقها النظام وأصبحت خطراً عليه كما هي خطر على الشعب. الدولة السورية في حالة انهيار مما يؤكد أن النظام يخلق لنفسه كل يوم أعداء جدداً. والأهم في قصة انهيار الدولة السورية أن المواطنين في المدن والأحياء والقرى الممتدة سرعان ما أنشأوا لجاناً وانتخبوا ممثلين يعبئون فراغ الدولة ويؤمنون الخدمات الأساسية. هكذا تبرز من جراء انهيار الدولة إمكانيات المجتمع السوري المدني على إنتاج مكونات دولة جديدة. من كان يتوقع من بين الثوريين السوريين الذين بدأوا الثورة أن ينهار نظام البعث المتجبر بهذه السرعة؟ إن أكثر الثوريين تفاؤلاً توقع أن تكون سورية آخر ثورات الربيع العربي.
وتنفجر الثورة السورية على مراحل، وتتعمق عند كل منعطف بينما البيئة الدولية والعربية هي الأخرى تتداخل مع تجليات الثورة. بين شعب ثائر يغير الحقائق بشجاعة كل يوم، وبين بيئة دولية وإقليمية تقدم اعترافاً وتنشئ مراقبين دوليين وقرارات دولية ومؤتمرات أصدقاء سيتحدد الوضع القادم.
يعلمنا التاريخ أن الأنظمة الاستبدادية تفشل في فتح مجال الإصلاح لأنها تعرف أنه يمهد لنهايتها. وما الإصلاحات التي أعلنها النظام إلا ذر للرماد في العيون بينما يمعن في الحل الأمني المرعب. إن النظام السوري الذي تقوده عائلة الأسد غير قابل للإصلاح وللتطويع أو لإعادة الإنتاج. إنه نمط من الأنظمة التي ينقلب عليها التاريخ بمجرد أن يعي الناس طبيعتها. فالأنظمة الأمنية الديكتاتورية تسقط بفضل تجاوزاتها وعمق فسادها وطول بقائها وبفضل انتشار الوعي الذي تسببه الحراكات والثورات بطبيعة مأزقها وضيق أفقها. إن النظام السوري لم يكن ليتقبل وحدة السوريين أو حرياتهم أو تنمية تؤدي إلى دولة مزدهرة ديموقراطية. لم يكن النظام ليقبل باحترام الإنسان. لقد هرب النظام بكل دمويته وراء شعار «المقاومة» التي عمل لتفريغها من محتواها.
إن محدودية النظام السوري القائم أساساً على مصالح عائلية وأمنية ضيقة دفعته إلى ممارسات مرعبة. لم ينتبه النظام السوري إلى أن هذا القمع ساهم في تطوير الثورة فكراً وممارسة وساهم في تسليحها ومهد الطريق لتدمير مكونات النظام السياسي السوري القديم على كل مستوى بأكثر مما فعلت الثورات في كل من مصر وتونس واليمن. إن ضيق أفق النظام وسعيه المتسرع للحلول الدموية كما حصل في بداية الأحداث في درعا فجر كل شيء ووضع السوريين في مرحلة اللاعودة مبكراً. لهذا فسورية مقبلة على تغير سيكون الأكثر جذرية من بين الثورات العربية. إن من نصحوا النظام بأن القمع سيوقف المد وينهي الثورة ويغلق بابها كانوا من أكثر من ضلل النظام. ما وقع في سورية ليس كالربيع الإيراني القصير الأمد، ولا هو كانتفاضة العراق ضد صدام في الجنوب عام 1991. الثورة السورية مخلوق مختلف من عمق أعماق الشعب السوري ومن تاريخ قديم يتجدد. هذه يقظة سورية، وهي تتجاوز حسابات النظام الضيقة ونصائح أصدقائه. السوريون يبنون عالمهم الحر بصلابة وجدارة، وهذا سيجعل تحررهم راسخاً ومجدداً لسورية وللمشرق العربي.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
الحياة