تكشف الغارة الإسرائيلية على سورية، وتؤكد، جملة حقائق، غالباً ما تضيع في زحام الأخبار اليومية. ولعل في وضع هذه الحقائق في إطار واحد ما يمكِّن المراقب من قراءة المشهد السوري بطريقة أفضل.
الصراع في سورية، وعليها، محلي وإقليمي ودولي. المحلي: معارضة تستهدف إسقاط النظام. الإقليمي: أطراف عربية وتركية وإيرانية توّظف الصراع المحلي خدمة لأهدافها في الإقليم، التي قد تنسجم، أو تتناقض مع أحد طرفي الصراع المحلي. الدولي: ما يصدق على الإقليمي يصدق على الدولي، مع إضافة أن موقف القوى الدولية من الصراع في سورية، وعليها، جزء من استراتيجيتها الكونية العامة.
أين إسرائيل من هذا كله؟
إسرائيل في الوقت الحاضر قوّة إقليمية تصارع تركيا وإيران، لتحقيق تفاهم حول تسويات أمنية وسياسية تضمن مصالحها القريبة والبعيدة في الإقليم. سورية في نظرها عدو، ولكن نظامها عاقل. وسواء نجمت العقلانية عن قراءة باردة لموازين القوى العسكرية، أو عن انتهازية سياسية وأخلاقية من العيار الثقيل، إلا أن هذا، وبقدر ما يتعلّق الأمر بإسرائيل، لا يغيّر من الأمر شيئاً.
وهل هذا يعني أن بقاء نظام الأسد يخدم مصلحة إسرائيل؟
نعم (عدو عاقل خير من صديق جاهل) إلا في حالة واحدة، إذا ضمنت أن يكون النظام الجديد حليفاً للولايات المتحدة. ولكن ألا تشير الوقائع على الأرض، خاصة بعد انخراط إيران وحزب الله في الصراع في سورية، وعليها، إلى حقيقة أن المعارضة المُنتصرة لن تكون مع إيران وحزب الله؟
هذا صحيح، ولكن المعارضة السورية، وأجنحتها المسلحة، ذات هويات وتوجهات مختلفة، ومتعارضة، وقد تسللت إلى صفوفها جماعات جهادية سورية وأجنبية. وهذه الخلطة لا تضمن انتهاء الحرب الأهلية، واستقرار النظام الجديد في وقت قريب. ولا تضمن، أيضاً، ألا تؤدي حالة الفوضى، وعدم الاستقرار، إلى شن هجمات على إسرائيل من الجولان. وقد تكون هذه بالغة الخطورة، في حال وقعت أسلحة من ترسانة الصواريخ والأسلحة الكيماوية والبيولوجية في أيدي ميليشيات وجماعات غير نظامية داخل سورية وخارجها.
وطالما أن بقاء النظام يخدم مصلحة إسرائيل، لماذا تشن الغارات على منشآته العسكرية، وتُسهم في إضعافه؟
لأن المصلحة في البقاء لا تمنح النظام شيكاً على بياض يمكنه من التصرّف كما يشاء. فمن غير المسموح تزويد حزب الله بأسلحة معيّنة. ومع هذا كله، من الحماقة عدم الاستفادة من مأزق النظام والترّفع عن تقليص قدراته الصاروخية، وهي أهم ما في جعبته.
ألا تجازف إسرائيل بإمكانية اندلاع الحرب مع سورية؟
الجواب: لا. يملك النظام عدداً محدوداً من الطائرات الحديثة الصالحة للقتال. جيشه غارق في حرب أهلية، وليس في جعبته سوى الصواريخ بعيدة المدى. وهذه قد تنجح في تسديد ضربات انتقامية، لكن الثمن سيكون تدمير ترسانته العسكرية. ولعل في هذا التقدير ما يفسّر عبارة أفلتت من أحد المعلّقين الإسرائيليين في سياق الكلام عن الغارة الأخيرة، حين ذكر أن سورية أصبحت في نظر إسرائيل مثل غزة. بمعنى يمكن لإسرائيل أن تضرب متى تشاء، دون خشية، أو حتى اهتمام من جانب أحد.
ومع ذلك، لو كان الكلام عن مصلحة إسرائيل في بقاء النظام صحيحاً، لماذا تدعم الولايات المتحدة، وقوى حليفة محسوبة عليها، معارضة سورية تستهدف إسقاطه؟
الجواب: الحسابات الاستراتيجية للولايات المتحدة، والقوى الحليفة والمحسوبة عليها، لا تتطابق بالضرورة مع الحسابات الإسرائيلية، وإن حدث وتطابقت، فإن التكتيكات المتبعة ليست موّحدة في جميع الأحوال.
ناهيك، أيضاً، عن حقيقة أن الحسابات تتطوّر، وتتغيّر. بعضها يخدم أهدافاً سياسية ودعائية آنية، والبعض الآخر يتأقلم ويتطوّر مع تطوّر الأحداث. ولم يحدث حتى الآن أن حصلت المعارضة السورية على أسلحة مضادة للدروع، والطائرات، تمكنها من قلب موازين القوى على الأرض. المسألة الوحيدة التي حظيت، وما تزال، بقدر أكبر من الجدية والاهتمام هي سيناريوهات حماية وتأمين القوّة الصاروخية/الكيماوية في ترسانة النظام، والحيلولة دون وقوعها في الأيدي الخطأ.
إذاً، بقاء النظام يخدم مصلحة إسرائيل، لكنها لا تتوّرع عن إضعافه كلما سنحت الفرصة، وكلما تجاوز خطاً من خطوطها الحمراء. ولن تذرف الكثير من الدموع إذا سقط، المهم أن يطول أمد الصراع. والقوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الحرب في سورية، وعليها، لم تزوّد المعارضة السورية بأسلحة تمكنها من قلب موازين القوى. هذه هي صورة الوضع.
ولكن لماذا كل هذا، ومن هنا إلى أين؟
الأرجح أن إطالة أمد الصراع في سورية، واستنزاف الجميع، مفيد لإسرائيل. فما حدث في سورية حتى الآن، مع كل مضاعفاته الاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية يمنح إسرائيل طمأنينة عقدين أو أكثر من الزمن، لن تقوم فيهما قائمة لقوّة عسكرية يعتد بها على حدودها الشمالية.
وهذا، للأسف، هو الحصاد المر، والميراث المأساوي، لحكم آل الأسد في سورية، الذي شطب الفرق بين النظام والدولة، كأن مصير الدولة السورية مشروط بمصير النظام. وشطب الفرق بين النظام والعائلة، كأن بقاء النظام مشروط ببقاء العائلة، وشطب الفرق بين العائلة، والطائفة، كأن مصير العلويين مشروط بمصير العائلة.
ولو لم تحدث هذه الأشياء كلها، لما أصبح ابن الرئيس رئيساً، رغم أنف الدستور، ولظهر بين السوريين في نخبة الدولة، والحزب، والجيش، من يقول له: وصلنا إلى لحظة الحقيقة، الدولة أبقى من النظام، والنظام أبقى من العائلة، والطائفة أبقى منك، وسورية أبقى من الجميع. ولأن هذا لم يحدث، ولأن سورية تتحلل الآن إلى ملل ونحل وميليشيات وعصابات، وتغرق في الدم والشعارات، أصبحت مثل غزة.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني