بعد قمة أنقرة لا تبدو طرق الذهاب نحو حل واقعي وعادل في سوريا سالكة ومعبدة، بل إن الذي يجري يكرس تقاسم الكيان السوري بين مناطق نفوذ، ومخاطر طفرات عنف أو حروب إقليمية في سياق تصفية الحروب السورية.
لم يكن لمتابعي “الحروب السورية” خصوصاً عند احتدامها بين 2012 و2016 أن يتوقعوا ويشهدوا تلاقي أبرز الأطراف المعنية، أي الأضداد الروسي والتركي والإيراني، في قمة تسعى لتقرير مصير سوريا وفي أنقرة بالذات، يوم الرابع من أبريل 2018.
يندرج هذا التطور في سياق مسار أستانة الذي انطلق نتيجة الإنجاز العسكري الروسي إثر منعطف حلب أواخر 2016 وواقعية التقاطعات التي نجحت موسكو نسبياً في إدارتها مع الحليف الإيراني والشريك التركي والصديق الإسرائيلي تحت العين الساهرة والغامزة لإدارة باراك أوباما أولا، أو بسبب عدم وجود استراتيجية واضحة ومتماسكة لإدارة دونالد ترامب.
لكن بالرغم من طموح رؤساء الدول الثلاث الفاعلة في رسم مستقبل سوريا وتنظيم تناقضاتهم في مرحلة تصفية “الحروب السورية” تبرز الكثير من العوائق والقيود الدولية والإقليمية والداخلية، ومن أبرزها العقدة الكردية التي لم تعد تمثل هاجسا لأنقرة فحسب، بل نقطة مركزية في تحديد معالم “سوريا الجديدة” والنقاش حول مستقبل الوجود الأميركي في سوريا.
في لعبة “تضارب المسارات” التي تستهدف فرض الحل الروسي، لم يكن مفاجئاً أن يؤكد البيان الختامي لقمة الرؤساء رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين وحسن روحاني أن “صيغة أستانة هي المبادرة الدولية المؤثرة الوحيدة التي ساهمت في الحد من العنف في أنحاء سوريا، وكان لها دور في إرساء السلام والاستقرار في هذا البلد”.
لكن في الحقيقة لم يحد ذلك من العنف والتدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي، لكن مسار أستانة ومناطق خفض التصعيد التي أقرها، كان المظلة لتسهيل وترتيب الحسم العسكري لصالح المحور الروسي- الإيراني مع تسليم من تركيا أو مساومة معها، تماماً كما جرى في الفصل الأخير من معارك الغوطة الشرقية وعفرين.
الأهم إذن وبيت القصيد من وراء ذلك تعطيل مسار جنيف بشكل عملي من خلال تجاوز المرحلة الانتقالية وعودة النازحين والمهجرين وتحديد مصير المخفيين والتركيز على “تسهيل البدء السريع للجنة الدستورية في جنيف، بمساعدة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، وبالتنسيق بين الضامنين الثلاثة” علماً أن هذه اللجنة العتيدة كانت الخلاصة الوحيدة الملموسة لمؤتمر سوتشي المسمى “مؤتمر الحوار الوطني السوري” الذي عُقد في 30 يناير 2018 في المنتجع الروسي والذي اعتبره الثلاثي “معلما مهما في توفير الأرضية للعملية السياسية”، مع أنه كان في واقع الأمر مؤتمرا فاشلا وفولكلورا فضفاضا لتكريس الغلبة وتنظيم الانتداب على سوريا والاستحواذ عليها.
بيد أنه من خلال المؤتمر الصحفي المشترك للرؤساء إثر اختتام قمة أنقرة، برزت العقدة الكردية حينما ركز أردوغان على تصنيف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن المنظمات الإرهابية من دون موافقة ضيفيه. والملفت أن الرئيس التركي الذي تعهد نظريا كما زملاؤه بوحدة التراب السوري قال إن “تركيا على استعداد للعمل مع روسيا وإيران لجعل تل رفعت منطقة مؤهلة كي يعيش فيها السوريون”.
وهذا الهروب من التاريخ إلى الجغرافيا المجاورة عند “السلطان الجديد” لا يتقاطع مع نظرة الجنرال قاسم سليماني منفذ المشروع الإمبراطوري الإيراني الذي لا يتحمس للتمركز التركي في تل رفعت تخوفا على أنصاره في نبل والزهراء.
إسراع فرنسا في إرسال قواتها الخاصة إلى منبج بالتوازي مع وصول تعزيزات أميركية أوائل هذا الأسبوع قطع الطريق مؤقتاً على استمرار الزحف التركي
ويسري ذلك على الرئيس حسن روحاني الذي طالب أن يَحُلَّ الجيش السوري في عفرين بدلا من القوات التركية وحلفائها السوريين. وهذه المقاربة المختلفة حيال الشمال السوري تمتد إلى أدلب وأماكن أخرى، وحسب ما تسرب من أنقرة بدا الجانب الإيراني منزعجا من تفهم روسي لرأي تركي يقول بـ“إعلان جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام عن حل نفسها نهائيا واختفاء قادتها أو إبعاد قيادييها عن أي فصيل آخر” وذلك لتجنب عملية عسكرية روسية- تركية لا تقبل إيران أن تكون هي والنظام السوري مغيبين عنها.
في عودة إلى العقدة الكردية تسرب من القمة وجود نقطة خلاف أخرى حول طبيعة الـدولة السورية المستقبلية، إذ اصطدم الطرح الروسي عن فيدرالية اتحادية (يعني ذلك ضمناً دعما للأكراد بإنشاء إقليم في الشمال السوري) بمعارضة إيرانية وتشدد تركي برفضه.
بالرغم من ذلك يعول أردوغان على الرئيس الروسي في استمرار قضمه للشمال السوري وضرب ما يسميه مشروع الانفصال الكردي. ويقر أحد مستشاري الرئيس التركي بأنه “لولا فتح موسكو المجال الجوي أمام سلاح الجو التركي، لما تمكن الجيش من الوصول إلى الباب وعفرين”. ويحقق فلاديمير بوتين من وراء ذلك إبعاد أنقرة عن حلف شمال الأطلسي ونصب فخ استراتيجي لواشنطن في هذه المنطقة من شرق المتوسط.
بيد أن إسراع فرنسا في إرسال قواتها الخاصة إلى منبج بالتوازي مع وصول تعزيزات أميركية أوائل هذا الأسبوع قطع الطريق مؤقتاً على استمرار الزحف التركي، وجعل هذه المنطقة من الشمال السوري محل اهتمام دولي ومكان اختبار لقدرة واشنطن على احتواء تركيا أو التفاهم معها، وكذلك لقدرة باريس وأوروبا على إبراز دعمهما للأكراد وعدم قبول مقارباتها السورية.
لقد سبق وهلل الغرب للبيشمركة الأكراد الذين لعبوا دور الحلفاء الرئيسيين في المعركة ضد إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، وركزت وسائل الإعلام الأوروبية على المقاتلات الكرديات وعلى بطولات الأكراد وشجاعتهم وتضحياتهم في مواجهة الجهاديين من سنجار إلى كوباني (عين العرب) والرقة، ووصل الأمر بواشنطن والتحالف الدولي ضد الإرهاب إلى التعويل على وحدات الحماية الكردية لتكون نواة قوات سوريا الديمقراطية في السيطرة على المناطق الحساسة شمال وشرق الفرات في سوريا.
من جهته راهن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا (المقرب أيديولوجيا من حزب العمال الأوجلاني في تركيا) على تمركزه في ما أسماه روج أفا والمطالبة بسوريا فيدرالية تعددية. وكانت منطقة عفرين غرب الفرات حيوية بالنسبة لمشروعه في تواصل كانتوناته، لكنها كانت بالنسبة لأنقرة خطاً أحمر زاد من هواجسها في إنشاء شريط أكرادي بالقرب من حدودها تعتبره مساً بأمنها القومي مع مخاطر نقل العدوى إلى أكراد تركيا.
ولذا بلور أردوغان استراتيجيته على أساس محاربة ما يسميه “إرهاب البي كا كا” المصنف على اللوائح الدولية. ومنذ عملية درع الفرات صيف 2016 واستدارته نحو موسكو مهد الرئيس التركي لإنجاح خططه، وهكذا نجح خلال مارس 2018 في إسقاط منطقة عفرين جوهرة الشمال السوري الموجودة في “قلب المشروع الكردي في سوريا”.
إزاء مناورة أنقرة ومكاسبها، شعر الأكراد بأنهم ضحايا لعبة الأمم في القرن الحادي والعشرين تماماً كما حل بهم في القرن العشرين. وأخذ القادة الميدانيون الأكراد والنخب الكردية يستنتجون أن الوعود الروسية والرهانات الغربية عليهم لا تُحسب في الميزان الإقليمي عندما تتحالف تركيا وإيران والعراق في حلف مقدس ضد الحلم الكردي.
وأتى كلام الرئيس دونالد ترامب عن انسحاب قريب من سوريا ليشكل صدمة إضافية للأكراد الذين صدقوا وعود جنرالات البنتاغون بعدم التخلي عنهم، خاصة أنهم نشروا أكثر من عشر قواعد في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ولذا ربما جاء استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لوفد “قسد” في الإليزيه بمثابة رسالة واضحة لتركيا في لحظة تخبط أميركي.
بعد قمة أنقرة، لا تبدو طرق الذهاب نحو حل واقعي وعادل في سوريا سالكة ومعبدة، بل إن الذي يجري يكرس تقاسم الكيان السوري بين مناطق نفوذ، ومخاطر طفرات عنف أو حروب إقليمية في سياق تصفية الحروب السورية. وهذا بالطبع إلى جانب استعصاء “العقدة الكردية”.
khattarwahid@yahoo.fr
العرب