مضى قرابة قرن من الزمن على أول قوافل شهداء شهر أيار من عام 1916، ومازالت إلى الآن ذكراهم العطرة تطرق مخيلة أفكارنا بصفحات من البطولة النادرة والتي لن تغفلها كل سنوات القرون القادمة.
من قبلهم، ومن بعدهم، توالت أعداد أخرى من الشهداء، سطرت على صفحات التاريخ عناوين ساطعة بالتضحية في سبيل الأوطان، لا تمحوها سطوة التاريخ وما فيه من لي لعنق الحقيقة المتمثل بالقفز فوق دمائهم الطاهرة.
ولما كان الشهيد صانع الوحدة الوطنية بامتياز، فالشهيد بتعاليه تعالي للوطن بكل مكوناته، أفراداً وجماعات، يحرك فيهم معنى الوطنية الصحيح، يحدث فيهم نقلة نوعية، ذاتياً وموضوعياً، فيأخذ بأيديهم إلى مصاف المجد والعزة، ويجعل لهم اسماً ثابتاً في التاريخ، في الذاكرة، في هوية الأبناء والأجيال.
فمن الجزائر بلد المليون شهيد، إلى تضحيات الشعب الفلسطيني ونهر دماء شهدائه المتواصل، ضد أبشع احتلال في التاريخ، والعراق المحتل من جديد أمريكياً، وجرحه النازف على مدار الساعة، حيث ضاقت أرضه الواسعة بأعداد شهدائه. وقائمة طويلة من أقطارنا العربية تعتز بما قدمته من الشهداء في سبيل نيلها الاستقلال الوطني.
وسوريا واحدة منها، قدمت الكثير من الشهداء، من الاحتلال العثماني، إلى الاحتلال الفرنسي، حتى نالت الاستقلال النهائي عام 1946، وحروب عديدة مع الكيان الصهيوني، على امتداد نصف قرن تمثل في معارك خاسرة في قضية الصراع تلك، نتج عنه احتلال هضبة الجولان كجزء غال من أرضنا عام 1967، والى الآن مازال التحرير حلما بعيد المنال، ومن الطبيعي أن تكون النجوم المضيئة، في كل تلك الحروب، قائمة جديدة من الشهداء في الصراع مع العدو الصهيوني، عبر أنظمة ولا سيما (الثورية) منها، والتي وصلت إلى سدة الحكم بشعارات براقة، ومواقف مدوية، سرعان ما أفرغت من مضمونها، وضرب بها عرض الحائط، وهكذا، تحول عدم الصدقية في إتمام مهام التحرير إلى مرض عام، أدى إلى خيبات وإخفاقات وتحطيم لآمال، وتبديد لوعود، دفعت الكثير من الأجيال المثقفة إلى السقوط في براثن اليأس والقنوط، فإذا بنا نواجه حالة من التردي العام على مستوى الانخراط في المسائل التي تمس الشأن الوطني والإنساني والاجتماعي العام، والأنظمة العديدة للأسف التي مرت على بلادنا، تنكرت لتلك القيم، وساومت بكل بساطة باسم الشهادة النبيل، ومعنى البطولة السامي، أمام صفقات مذلة من الاستسلام المجاني على حساب الوطن، وقضية أرضه المحتلة متناسية أرواح الآلاف من شهداء شعبنا على مر السنين.
فمن (التوازن الاستراتيجي!) في ثمانينات القرن الماضي، والذي دفعنا مقابله الكثير من مقدرات الوطن الاقتصادية والاجتماعية، تمثلت بسلسلة طويلة من القوانين الظالمة والجائرة التي أنهكت المواطن، وأفقدته حق المواطنة والثقة بنفسه، وكل ذلك على مذبح كوننا (دولة المواجهة الأولى) في الصراع مع العدو الصهيوني، ونسف منظم على كل المستويات، لكل القوانين الخاصة والعامة والتي تهتم باحترام حقوق الإنسان من حرية بالتفكير لحياة أفضل في كل السبل، والتي ذهبت أدراج الرياح مع استمرار حالة الطوارئ والأحكام العرفية المؤبدة على رقابنا منذ 40 عاما، وصولاً إلى شعار جديد تتزين به منذ سنوات، تمثل (بالسلام الاستراتيجي!) كعنوان للمرحلة المقبلة، وكورقة إضافية تقدم مجاناً على طاولة المفاوضات الاستسلامية، حيث درجت السياسة في بلادنا على أن تكون مرادفا للانتهاز والالتفاف وازدواجية المعنى، واستثمار بخس لأثمن القيم وهي الشهادة، والتهرب من الالتزام بموجبات العمل الذي تدعي قيادته، هذه السياسة هي نتاج للمدرسة التجارية في الفكر السياسي، تلك المدرسة التي تتعامل مع كل شيء على انه سلعة خاضعة لمبدأ العرض والطلب، ومن الطبيعي إن هذه السياسة لا تتوخى في تجارتها تلك، إلا المصالح الخاصة، والتي لا تقترن فيها الأقوال بالأفعال، ولا الشعارات بالممارسات، إذ يتحول كل شيء عندها إلى مجرد وسائل لتحقيق الغايات الخاصة فقط، ولحرص هذه ( الفئة ) على إبعاد أي شيء يمكن أن يلحق الأذى بمصالحها، نراها دائماً تهدد بصوت عال، وتتوعد الأعداء بالمعركة المقبلة، وتشدد على حريتها في اختيار الوقت والمكان المناسبين، وفي الوقت نفسه تقاتل عن بعد، وحتى وصل الأمر بها أن تقاتل بغيرها!
فالعبرة ليست بجلاء المحتل، بل بالحفاظ على قيم الاستقلال الثمين، وذلك لن يكون إلا من خلال تكريس مجموعة من القيم والمبادئ السامية, التي تحفظ للوطن حريته وللمواطن كرامته، وعزته بنفسه، واحتراما لدماء الشهداء من شعبه.
فقد قال فيهم القائد الخالد جمال عبد الناصر: (إن الشعوب العظيمة، لا تعتبر الشهداء من أبنائها مجرد ذكرى، بل تعتبرهم مشاعل نور على طريق انتصاراتها).
marwanhamza@maktoob.com
* كاتب سوري