إذا كانت المواجهة العسكرية الدائرة تكشف، بما لا يقبل الشك، عن فعالية التنسيق بين روسيا وإيران، يتوجب الاستدراك أن تجارب التاريخ علمتنا صعوبة التعايش بين قوتين محتلتين على أرض واحدة.
تجسد الخواتيم المأساوية لمعركة حلب أبشع مظاهر الفوضى التدميرية التي تجتاح العالم العربي، وتبرهن على أهمية القوة الجوية الروسية والقوات البرية التي تقودها إيران في فرض الوقائع الجديدة في سوريا إبان الوقت الضائع الأميركي.
وإذا كانت المواجهة العسكرية الدائرة تكشف، بما لا يقبل الشك، عن فعالية التنسيق بين روسيا وإيران، يتوجب الاستدراك أن تجارب التاريخ علمتنا صعوبة التعايش بين قوتين محتلتين على أرض واحدة، وفي حالتنا هذه إن لجهة تصور مستقبل سوريا ودور منظومة الأسد، وإن لناحية الحسابات الإستراتيجية والإقليمية للطرفين. ولذا لن يشكل إسقاط حلب إلا فصلاً من فصول أول نزاع إقليمي-عالمي متعدد الأقطاب، وأن مصير المشرق يبقى معلقاً على نتائج صراع مفتوح على أكثر من مسرح.
يزهو النظام السوري بقتل الإنسانية ونفيها في حلب وسواها، وفي استكمال تدمير المدن والدساكر وتغيير الديموغرافيا السورية.
في تصريح حديث له أقر بشار الأسد بأن النسيج الاجتماعي السوري اليوم ملائم تماما وذلك بعد اقتلاع وتهجير طالا أساساً المكون السني الأكثري، وسبق لبعض رموز النظام أن هددوا الحراك الثوري في العام 2011 بإعادة التركيبة السكانية في البلاد إلى ما كانت عليه عندما تسلمها حافظ الأسد أي حوالي 8 ملايين نسمة. وقبل استتباب الأمور له يستعجل النظام، مع شركائه، إحكام القبضة على لبنان ومنع العهد الجديد من الانطلاق قبل تطويعه. لكن هذه العجلة وهذا التمظهر الإعلامي لا يمكن أن يحجبا الواقع الفعلي الميداني والسياسي إذ أن النظام استمر ويستمر بفضل الانخراط الروسي-الإيراني الكثيف إلى جانبه، وقبل ذلك بفضل التغاضي الإسرائيلي والأميركي إضافة إلى العجز العربي والإسلامي والضعف الأوروبي. أما سوريا (قلب العروبة النابض حسب توصيفات النظام سابقا ونوستالجيي البعث والقومجيين، وسوريا الأموية حسب توصيفات أيديولوجية تاريخية) فقد تفككت إلى مناطق نفوذ حتى إشعار آخر، والنظام وقع ببساطة صك التسليم بالانتداب الروسي، وهو الخاضع عن قناعة لوصاية ونفوذ إيران.
قبل تسلم إدارة دونالد ترامب في الشهر القادم وبلورة سياسة سورية جديدة لواشنطن، وعلى ضوء مراقبة التقاطعات الروسية مع إسرائيل من جهة، ومع تركيا من جهة أخرى، يمكن التساؤل حول مآلات العلاقة الروسية-الإيرانية التي لا ترقى إلى مصاف الحلف الإستراتيجي، لكنها تتميز بمستوى متقدم من التنسيق تحت سقف لعبة المصالح المتبادلة. وكانت الساحة السورية مختبر العمل بين الجانبين وذلك لحاجة مزدوجة:
– حرص الجمهورية الإسلامية الإيرانية على ديمومة النظام السوري الذي يعتبر الجوهرة على تاج مشروعها الإمبراطوري، والذي حول سوريا إلى جسر إيران نحو البحر الأبيض المتوسط.
– تمسك الاتحاد الروسي بآخر نقطة ارتكاز في العالم العربي، إذ تتجاوز المسألة الدفاع عن النظام السوري إلى أهمية دور سوريا الجيوسياسي لناحية الوصول إلى المياه الدافئة وحروب مصادر وممرات الطاقة، بالإضافة إلى استخدام الورقة السورية في العودة بقوة إلى الساحة الدولية.
هكذا تركز التفاهم بين موسكو وطهران تحت عين إدارة أوباما المتجاهلة، ومنذ صيف 2015 تحول سلاح الجو الروسي ليكون الغطاء للقوات البرية التي تتحرك تحت إشراف إيران وغرف عملياتها من البيت الزجاجي بالقرب من دمشق، إلى ثكنة السيدة رقية (مركز البحوث سابقا جنوب حلب بالقرب من معامل الدفاع في السفيرة). ولوحظ وجود تقاسم للنفوذ والعمل على الأرض إذ تركز روسيا على استكمال بناء جزيرتها (روسيا الجديدة أو أبخازيا السورية) على ساحل المتوسط في غرب سوريا.
بعد التوقيع على صك تسليم قاعدة حميميم الجوية لمدة 99 عاماً، يجري العمل على ترتيب نفس العقد لقاعدة طرطوس البحرية، عبر الاتفاق الموقع بين فلاديمير بوتين وبشار الأسد في أغسطس 2015 والقاضي بإبقاء القوات الروسية حتى إشعار آخر ومن دون أي مسؤوليات جنائية. إنه الانتداب الروسي بغير قناع مع الحصانات المكتسبة والأراضي والمياه وعقود الطاقة المنتظرة وغيرها من المكاسب. أما مناطق النفوذ الإيراني فتمتد من دمشق وجنوبها حتى الحدود مع لبنان (الممر نحو حزب الله) وتصل إلى حلب نظرا لأهمية موقع المحافظة الإستراتيجي والاقتصادي، وهناك عامل تبريري لحشد الحرس الثوري الإيراني ميليشياته وقيادته لميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية وباكستانية، يتصل باعتبارهم محافظة حلب محافظة شيعية بعد أن حكمها الحمدانيون في القرن العاشر ولذلك يسعون لإعادة السيطرة عليها.
من خلال تصريح أحد الجنرالات الإيرانيين عن الرغبة في إقامة قاعدة بحرية في سوريا، يتبين إمكان تزايد عدم الثقة بين الشريكين على المدى المتوسط، لأن روسيا التي لا تريد تحول سوريا إلى مستنقع يمكن أن تكتفي بما يسمى “سوريا المفيدة”، وأن تعمل لاحقا مع تركيا والأكراد وربما تدفع إلى دور مصري من أجل تركيب حل في سوريا يحفظ مصالحها ووجودها، ومسألة بقاء أو عدم بقاء الأسد ستتصل بالتوازنات المستقبلية والمساومات الممكنة. في المقابل، تخشى إيران غلبة الدور الروسي وتهميش دورها على المدى المتوسط، ولذا تركز على الإمساك بالحلقة الأولى وبالقيادات الميدانية العاملة على الأرض، ويخشى بعض أنصارها ترحيب العلويين بالوجود الروسي.
على المدى القريب سيكون هناك الكثير من الأعباء على العلاقة التنسيقية الروسية-الإيرانية مع دخول تركيا على خط العلاقة مع موسكو للدفاع عما تعتبره مصالحها وأمنها القومي في الشمال السوري، ونتيجة احتمال تدخل إسرائيلي في المناطق حول دمشق وجنوبها تحت ستار منع إدخال أسلحة إلى حزب الله الذي يحتاج إلى مد أكثر انتظاماً من المد الجوي بعد مشاركاته الكثيفة في الميدان السوري منذ العام 2012. وهكذا يمثل النظام السوري دور الناطور أو شاهد الزور في لعبة دمرت سوريا وجعلتها ساحة حروب وتقاطعات الآخرين.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس