منذ اتمامي لدراستي الجامعية العليا وتخصصي في الشأن الآسيوي وأنا احرص على متابعة وملاحقة كل ما يكتب عن “لي كوان يو” باني المعجزة السنغافورة، سواء ماكتبه بنفسه عن تجربته في الادارة والحكم أو ما كتبه عنه الآخرون من وحي مقابلاتهم معه. فهذا الرجل الذي يبلغ اليوم التاسعة والثمانين من عمره، وقضى جله زعيما لبلاده وقائدا لمسيرتها التنموية الوضاءة عبر قبضة سياسية متشددة وأخرى إقتصادية منفتحة، جدير بأن يـُتابع ليس لأنه بنى معجزة قد لا تكون قابلة للتكرار في أماكن أخرى، وليس لأن معجزته باتت مضرب الأمثال، ويحلم صناع القرار في دول العالم الثالث بتحقيق ربعها او خمسها، ولكن لأنه أحد القلائل الباقين على قيد الحياة من حكماء العصر الحديث.
وكيف لا يكون “لي كوان يو” حكيما وهو الذي حول بلاده في زمن قصير نسبيا إلى شيء لا نظير له في العالم النامي. فإلى حنكته وبعد نظره ورؤيته السديدة وتخطيطه الدقيق يــُعزى تحويل سنغافورة من جزيرة معزولة ومستنقع مليء بالاوبئة ومكب لنفايات دول الجوار إلى دولة مدنية عصرية، وعاصمة براقة من أنظف عواصم العالم واكثرها تنظيما وجمالا ورخاء، ومركز من أكبر مراكز المال والأعمال العالمية، وكيان يمتلك اليوم أكبر أحواض السفن وأحد أفضل المطارات وأكبر شركات الطيران على مستوى العالم، دعك من مستويات المعيشة والدخول الفردية المرتفعة، ومستويات الخدمات الصحية والتعليمية والاسكانية والإجتماعية الراقية، والبنى التحتية المتطورة التي تضاهي مثيلاتها في دول الغرب المتقدمة، إن لم تكن أفضل منها بأشواط.
مؤخرا كتب الصديق الاستاذ سمير عطاالله في صحيفة الشرق الاوسط (4 مارس 2013 ) عمودا تحدث فيه عن هذا الرجل، الذي قال عنه الرئيس الإمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون ذات مرة “أنه لمن المفارقة أن يكون رجل بكل هذه الإمكانيات الكبيرة زعيما لدولة صغيرة كسنغافورة”، ومزاياه ومواهبه القيادية وكيف أنه إتخذ من ثلاثة زعماء كبار في التاريخ المعاصر قدوة له لما رأى فيهم من قوة وجسارة وإقدام في لحظات ضعف أوطانهم وإقترابها من الهزيمة والإنهيار. هؤلاء الزعماء لم يكونوا سوى الرئيس الفرنسي الأسبق تشارل ديغول الذي “أنقذ فرنسا من خيانة الماريشال فيليب بيتان” وحررها من قبضة القوات النازية، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرتشل الذي “قاد بريطانيا إلى النصر تحت صواريخ هتلر”، والزعيم الإصلاحي الصيني دينغ هسياو بينغ الذي حل في سنغافورة وأعجبه ما تحقق فيها، وحينما رجع إلى بلاده أسدل الستار على الحقبة الماوية بتخبطاتها ونهجها الراديكالي ورعونة سياساتها الخارجية، وفتح ابواب الأمل لمئات الملايين من الصينيين، وغيــّر حياتهم، وقادهم من الفقر والعزلة إلى المراكز الاولى في العالم.
ويخبرنا عطا الله في عموده المذكور أن كتابا جديدا ظهر مؤخرا يحتوى على محادثات مطولة أجراها “لي كوان يو” عبر السنين مع أستاذين من جامعة هارفارد. وهذا خبر مفرح لمن يريد التعلم من تجربة الرجل من زعماء الدول المأزومة الذين لم يصنعوا مسمارا ولم يبنوا طوبة، ولم يعلموا حرفا، ولم يحققوا إنتصارا، ولم يحرروا شبرا من أراضيهم.
إن أحد أسرار نجاح “لي كوان يو” في ما حققه لسنغافورة، وخصوصا لجهة تحويل مواطنيه البالغ تعدادهم اليوم نحو خمسة ملايين نسمة إلى شعب يفتخر بوطنه ويفاخر بمواطنته، إنه كان يفتح مصنعا أو مدرسة أو مستشفى أو مجمعا سكانيا مقابل كل سجن أو إذاعة تحريضية أو كوخ يبنيه الآخرون. وطبقا لأحد الذين تابعوا مسيرته فإنه زعيم غير موتور، لا يجيد العنتريات وإطلاق الشعارات الفارغة، ولا يحبذ خداع شعبه بالوعود الوردية، ولايتعلق بالأوهام والأساطير والخرافات مثلما يفعل بعض نظرائه من قادة دول العالم الثالث. وبعبارة أخرى فإن نجاحه يعود إلى واقعيته في النظر إلى المعطيات المحلية والاقليمية والدولية، والتصرف وفقها في اللحظة المناسبة.
وهذه خصلة نجدها تتجسد في طريقة تصرفه مع مستعمري بلاده من البريطانيين. فهو مثلا لم يلجأ إلى تحريض مواطنيه ضدهم، ولم يقطع روابط سنغافورة بهم، ولم يتخذ مواقف عدائية تجاههم، وإنما فضل التعاون والتفاهم معهم، بل لم يجد غضاضة في أن تصبح بلاده جزءا من الكومنولث البريطاني من أجل جني أكبر قدر من المساعدات المالية والفنية البريطانية في مرحلة تأسيس بناء دولة ما بعد الإستقلال. وحينما كانت بريطانيا على وشك تصفية قواعدها في سنغافورة وسحب قواتها منها وتدمير ما بنته من مهاجع لجنودها ومنشآت للرصد والتحميل والتصدير، كما يقتضي القانون البريطاني لم يسارع “كوان يو” إلى استعجال المستعمر بغرض الظهور أمام مواطنيه كبطل قومي، ودغدغة عواطفهم، وسحب البساط من تحت اقدام خصومه اليساريين، وإنما اتصل بصديقه تشرتشل ليطلب منه تأجيل الموضوع لفترة قصيرة كيلا تخسر سنغافورة ما كان البريطانيون يضخونه من أموال في الإقتصاد السنغافوري الضعيف وقتذاك. ولاحقا طلب من تشرتشل أن تـُستثنى سنغافورة من القانون البريطاني آنف الذكر، فكان له ذلك.
وهكذا إنطلقت نهضة سنغافورة كميناء عملاق للشحن والمناولة والتصدير وصيانة السفن مما تركه البريطانيون لها من منشآت صالحة للإستعمال. التجسيد الآخر لتلك الخصلة نجده في طريقة إنسحابه الهادئة من الإتحاد الماليزي في 1965 بالتراضي ودون إستعداء ماليزيا وشعبها، بعدما تبين له أن كوالالمبور لا تعدل بين القوميات والثقافات المكونة للإتحاد.
ومن صور واقعية “كوان يو” وعدم إنجراره نحو التمنيات – وهو المعجب بتجربة الصين في حقبة ما بعد الماوية والحريص على صلاته مع قادة بكين – أنه لا يرى أن الصين مؤهلة في المدى المنظور لقيادة العالم والحلول محل الولايات المتحدة كقوة عظمى. وتبريره المقنع هو ما سطره الزميل عطا الله في ثلاثة أسباب وهي:
• صعوبة عبور الحضارة الصينية إلى الآخر وصعوبة عبور الآخر إلى الحضارة الصينية وثقافتها بسبب اللغة الصعبة. وهذا أمر استوعبه الهنود مبكرا وتجاوزوه بالابقاء على لغة مستعمرهم الانجليزي كلغة لتعاملاتهم مع الآخر وكوسيلة تواصل أيضا مابين شعوبهم المختلفة ثقافة وإثنية وديانة. والشيء نفسه فعلته سنغافورة بعيد إستقلالها عن بريطانيا في 1959 ، وذلك حينما أبقت الإنجليزية لغة رسمية للبلاد وعامل وصل بين قومياتها وثقافاتها المحلية.
• إنتشار الفساد وضعف محاسبة الفاسدين في الصين بسبب نظامها الشمولي غير التعددي.
• صعوبة تدشين نظام ليبرالي تعددي، لأن من شأن ذلك تفكك البلاد. إذ إعتاد الصينيون منذ 5 آلاف سنة على حكم الرجل الفرد.
ونختتم بالتذكير بأن ما تحقق على يد “لي كون يو” كان في ظل عدم امتلاك بلاده لأي موارد طبيعية، فكيف لو أنه كان صاحب القرار في بلد يطفو على الغاز والنفط أو يمتلك مناجم الألماس والذهب والفضة؟
وماذا يا ترى كان سيحقق؟ الإجابة قد نجدها في ثنايا المحاضرة التي ألقاها الرجل في الرياض في يناير 2008 تحت عنوان “لو كنت سعوديا”، ففيها ما يوحي أننا في الخليج مقصرون، لكننا بالامكان أن نلحق بالعصر لو خططنا كيفية إدارة ثرواتنا الطائلة تخطيطا سليما بحيث يتم توجيه جلها نحو التعليم المتطور المواكب للعصر.
*كاتب ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
إقرأ أيضاً:
[لي كوان يو: «لو كنت سعودياً لسألت ما الذي سيزيد من أهميتي بالنسبة لدول العالم؟»
->
http://www.aawsat.com/details.asp?issueno=10626&article=455276#.UUYZQVt36p0]