منذ سنة، تضاءلت تظاهرات اسقاط النظام الطائفي، مع اندلاع الثورة السورية، ثم خفتت نهائيا بعيدها بقليل. طبعا كانت هناك أسباب جوهرية اخرى لتوقف هذه التظاهرات. على رأسها انعدام التطابق بين الوصفات السريعة التونسية والمصرية وبين الوقائع اللبنانية المزمنة، متعددة الرؤوس والرؤساء. لكن السبب السوري أكثر جوهرية، وهو اخذ شيئا فشيئا طريقه نحو الطغيان، فانكب لبنان كله مع مجرياته، مع ثورته أو ضدها. كأننا عدنا الى «تلازم المسارين»، ولكن معدّلا هذه المرة.
خلال هذه السنة المنصرمة، لم تنقلب صيغة «التلازم» بمفردها، انما طبائع السوريين ايضا: بدوا غير ما كانوا يبدون عليه خلال سنوات صمتهم الكبير. احرار وجوديا، لا سياسيا أو حزبيا. اصحاب احساس عال بكرامتهم، الشخصية والسياسية على حدّ سواء. شوقهم للحرية الصافية منحهم شجاعة تختلف نوعيا عن تلك التي ابتزنا بها «الممانعون» لسنوات. ومع الشجاعة طاقة غريبة على المثابرة وسط دمائهم المهدورة، وعلى استنباط ادوار بوجوه جديدة، سوف تكتب عنها الروايات الملحمية. فكانوا موحَّدين، بالرغم مما نعرفه عنن انفلات نظامهم الطائفي الدموي عن عقاله ضد وحدتهم، ضد ثورتهم. هكذا اصبحوا، بالمأثرة التاريخية، السياسية والاخلاقية التي يقودونها، سوريين… هكذا تشكلت سوريتهم الجديدة، بهذا الفعل التأسيسي، الذي مهما كان مصيره، فان مآله هو بقعة ضوء ساطع في ليل الأسدية القاتم.
اللبنانيون بالمقابل، بدوا على العكس، كأن آلة تشكيل طبائعهم تعمل على قاعدة التناسب العكسي. سحبت كل الطاقة من اللبنانيين، كأن الطاقتين، السورية واللبنانية، لا تجتمعان. فبدوا خاملين، كسالى، لا مبالين، امام جبروت التظاهر اليومي تحت خطر الموت. جل ما يحسنونه التضامن مع الثورة او مع النظام. لم يتعمق انقسامهم الوطني، ولا كانوا تابعين لنظامهم… كما هم منقسمون وتابعون اليوم. فاندرجوا بطبيعة الحال في اطر هذا الانقسام. وبدوا عاجزين، محكومين، يكذّبون قلقهم باطمئنان السذج، فيما هم شطار متلاعبون.
فقط انفلات لسانهم، دليل ديموقراطيتهم، أو بالاحرى ذريعة هذه الديموقراطية، افرج عن عدائهم، ليس ضد نظامهم، بل ضد بعضهم…. مع الثورة السورية، تفوق اللبنانيون على أنفسهم بالممحاكة والتناحر والتخَنْدق، وبلغت اخلاقهم حضيضا آخر. فشعر الحساسون من بينهم بتواضع غير معهود تجاه الشعب السوري، يبرره تواضع قدرتهم على تحريك أي عجلة من عجلات التاريخ.
من طرائف ما سجله العام المنصرم، ان كلمة واحدة تكررت على مدى أسابيعه وأشهره، من غير ان ينتبه المتفوهون بها الى الانعدام التام لصحتها. وكان يمكنك بسهولة التخمين من ان صاحبها من اشد المؤيدين للنظام السوري. والكلمة هي: «ما في شي بسوريا. كلو تمام. الجيش قضى على الارهابيين». وهي تُرفق عادة بالاستعجال الخاص بأصحاب اليقين التام: «انتهى الموضوع، وبشار منتصر». هذه الكلمة استهلكها الممانعون المؤيدون لبشار وباتت العنوان الصريح لموقف المؤيدين للنظام. لذلك وُجِدت لها صيغ اخرى، اكثر جاذبية وتمويها. آخرها تلك التي اطلقها «الوزير السابق» ميشال سماحة في شاشة «المنار». سأله المذيع: «مرت الآن السنة الاولى للحدث السوري… ما تعليقك عليه؟». جواب ميشال سماحة: «يجب ان تكون دقيقا: لا تقول «السنة الاولى» بل قل «سنة واحدة» على الحدث السوري…. لن يكون هناك سنة اخرى!»… وبعبارات وجه الفاهم كل شيء، والذكي الى حدّ انه لا يقول «كلو تمام. الجيش قضى على الارهابيين» الا بأحرف مموهة… لكي لا يعرف المشاهد ان ميشال سماحة مؤيد للنظام السوري، أو انه مؤيد فعلا، ولكنه «موضوعي»…. يقول «الوضع تمام»، معناه ان «الوضع تمام» علميا، ذلك لأن سنة واحدة هي التي قررها التاريخ، لا هو.
هذا النوع من التذاكي هو نقطة في بحر التشاطر والتلاعب بالعقول والكلمات والمواقف التي اعتمدتها حكومة لبنانية شكلها حزب الله في لحظة استقواء لم يسعفه التاريخ بالتنعم بها، كما كان يحلم، أكثر من شهر ونصف. فكانت في بداية الثورة السورية «حيادية». ثم بدفع تشاطر بلاغي آخر، اطلقت فعل «النأي بالنفس» الذي يحجب شللا وانتظارا لا فكاك منهما. فحكومة اللون الواحد واقعة في تناقض أساسي، كشفت الثورة السورية غطاءه، وتؤكده يوميا بحولياتها: من جهة حزب في هذه الحكومة يحمل سلاحا لم يعد له وظيفة وطنية، اذا اعتبرنا ان حرب 2006 كانت حربا وطنية…. وهذا الحزب لا يتوقف عن ارسال مواقف التأييد للنظام السوري. ولكن على هذه الحكومة نفسها ان تحترم التزاماتها الدولية: أقلها حرجا هو استقبال لاجئين فارين من حرب إبادة جماعية؛ أو بالتصويت ضد قرارات دولية وعربية تدعم الشعب السوري. «الناي بالنفس» في هذه الحالة، يصبح كذبة انيقة يقودها الحزب المتورط بالثورة السورية، ليس جسدياً فحسب، انما بالسياسة والديبلوماسية وتوازن الرعب الخ. يقودها الحزب بصرامة ولكن تخرج من حكومته اصوات «براغماتية»، «وسطية»، لا تلتزم تماما بمقرراته او عقيدته، وتلتزم في آن؛ فكانت البهلوانية التي تدوخ أمتن العقول، وتسلّيها في آن.
ما افضى الى الشلل الذي يعجز فيه المصابون به عن القيام باية مبادرة، اية خطة أي مشروع، أية حملة، أو قليل مما صدر في البيان الوزاري لهذه الحكومة. فكان الفراغ الذي كبر مع استمرار الثورة؛ فراغ في الدور، وقد كُتب لميشال عون ان يلعب الرئيسي منه، بفضل طباعه الدونكيشوتية، طباع الرأس الحامي لأية معركة فيها من المسرح والدراما قدر ما فيها من الفشل الذريع. حيث يخوض البطل ماثرته، بدعم غير محدود لداعميه وحلفائه وصانعي مجده، الذي يتصور وحده انهم مخفيون… غرضهم هم شيء، اما غرضه هو فمعروف سلفا انه لن يتحقق (هل هو معروف لديه أيضا؟)… اذ ينتهي الامر كل مرة بهزيمة يخرج منها «بطلا»، يتوسّل المزيد من التكريس. تماما مثل وزيره شربل نحاس، الذي لعب من الاول الى الآخر دور الجاهل بطبيعة النظام السياسي الذي يقارعه.
والسؤال يبقى: لولا الثورة السورية، هل كانت الطبائع العونية سوف تتطور وتتمدّد… وتَعِد بالمزيد؟ هل يكون صاحب هكذا طبائع هو المرشح المفضّل للعب هكذا دور؟ أثناء مرحلة انتظار ما ستفضي اليه الثورة السورية، والتي يحكمنا بها نظامنا السياسي، نفتقد الى الرزانة والصدق، أو شيء منهما.
«التلازم» بين المسارين السوري اللبناني لا يتوقف عند هذه الجوانب المشهدية من الحدث. هناك شيء اعمق من الترابط بين النظامين السوري واللبناني، أفعل من مجرد فراغ ناجم عن الانتظار. لبنان حميم الصلة بسوريا من زوايا اخرى، اقتصادية، اجتماعية، اعلامية، ثقافية، اخلاقية… كم من الامبراطوريات، كم من الدكاكين، من التجمعات واللجان والاحزاب والروابط، من الثروات، من الاقدار، كم من شبكات المصالح، من المنظومات، خصوصا الثقافية، كم من الزيجات، من العائلات الواحدة، الحدودية خصوصا… هذا غير حزب الله نفسه، وكلهم لم يكونوا ليوجدوا لولا النظام، وقد آمنوا بأنه سوف يبقى الى الأبد، مثله مثل الجبال والانهر والوديان.
ولكن هذا النظام «الذكي» آيل الى الاهتزاز في اضعف الاحتمالات، والى السقوط في أعلاها. (فوق انه سوف يدفعنا الى اعادة النظر بمعنى «الذكاء»). وسوف يطال اهتزازه لبنان، سواء اغرق اللبنانيون رأسهم في الرمل او لم يغرقوا.
وفي هذه الحال يطرح على اللبنانيين بالحاح موضوع دورهم في عملية الاهتزاز هذه. يطرح عليهم السؤال عن الدروس التي يفترض انهم يشرعون في استخلاصها منه. ليس من الضروري على الاطلاق ان تكون لهم ثورة، وان تكون هذه الثورة دموية، (كما صورت احدى الرسوم الكاريكاتورية منذ عام، في بداية انطلاق تظاهرات اسقاط النظام الطائفي: مواطن لبناني يصلي لربه لكي ينعم لبنان بديكتاتور، مثل مبارك او بن علي…).
وهم على كل حال دفعوا سلفا، شهداءهم، معتقليهم، مخطوفيهم ومفقوديهم، ضحايا النظام السوري في عقود «الوصاية» الثلاثة… فضلا عن الخراب السياسي العميم. قد لا يتغير نظامهم بفعل ومضة ثورة، نيران ثورة. والمؤكد انه لن يتغير بمفرده. فقط اذا انتصرت الثورة السورية، أو تضعضع النظام، ثم اكتملت دورة الثورات اقليميا… فقط عند هذه الحالة سوف تلتقي روافدها في بوتقته. فما لبنان الا ملتقى التأثيرات القريبة البعيدة، ومجالا فريدا لتفاعلها.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل