كانت السيارة من نوع مرسيدس 190 موديل سنة 1967، لون أحمر، تسير متنقلة بهدوء، فيها الأختان والأخ الذي مات بعد 13 عاماً، والأخ الأصغر الذي هجر البلد منذ أعوام ليأتيه سائحاً من فترة لأخرى باحثاً عن الأفراح وتاركاً الأتراح، رأس سنة العام 1974 وبداية العام 1975، قبل بوسطة عين الرمانة بأربعة أشهر وثلاثة عشر يوماً، ابنا الخال الصغيرين، وبناته، وكذلك ابنة الجيران سلوى، اللعوب التي كان الصبيان الصغار يخبرون عن غرامياتها الجنسية فوق سطح البناية، مع محمد الشاب الفارع الطول.
الولد الأوسط في حضن سلوى، ورأس السنة، وسلوى تحاول اقناع والديها بالخروج مع الجيران إلى شوارع المدينة، يضيع الولد الأوسط بين نهدها الأيسر، ورأسها الطائر من شباك السيارة بحثا عن الناس في شارع الحمرا، ورائحة الكولونيا الشعبية التي رشتها على جسدها.
تقول الأخت الكبرى في السيارة التي ولدت في عام النكسة، ان شارع الحمرا هو شارع الموضة، فإن مشيت عارياً في إحدى المرات، يقلدك الناس، ينظر الولد الأوسط إلى شرطي ينظم السير، الثياب بلون البيج، والشريط المضاء كشجرة الميلاد، يقف أمام المودكا منظماً حركة المرور، ومصفراً بصفارته الحديدية لمجموعة الأولاد الذين يغنون له أغنية “آه يا ام حمادة”، يضحك الشرطي الذي يقف في منتصف ليلة رأس السنة، في العام الذي أشعل حرباً أعادت البلد 100 عام إلى الوراء.
تدور مرسيدس الخال الحمراء و”المزوزقة”، بالصور الموضوعة فيها، صورة بعلبك ومغارة جعيتا ومدن لبنانية تاريخية كجبيل وصور، صور لجذب السياح الأجانب إلى هذه الأماكن، علّ النهار يأتي بأرباح تتعدى الخمسين ليرة لبنانية، “لا تسرع يا بابا فالموت أسرع”، و”اطلب التعرفة من السائق”، و”الباب اللي بيجي منو ريح، ركّب لو قزاز”، وغيرها من شعارات طمستها لافتات الحرب وصور الشهداء الشبان الذين قضوا على محاور القتال، محاولين تغيير لبنانهم، لبناننا ولبنانكم.
الطريق في شارع عبد العزيز لم يتغير كثيراً، مع بعض تفاصيل العائلات على شرفات المنازل، لم يهطل المطر تلك الليلة فخرج الكثيرون إلى الشارع. سلوى والولد الأوسط محاولاً اسقاط رأسه بين القميص الأحمر، لاستكشاف ما يمكن استكشافه، فالأخ الأكبر يخبره الكثير، وهو يريد أن يرى ليصدق الروايات التي تعطيه احساساً غريباً.
تعود سيارة الخال إلى ساحة الشهداء، يقف في مكان ما قرب التمثال. يشد الاحساس إلى الاستيقاظ بعد غفوة صغيرة، هنا ساعة الورود، يقول الشقيق الأكبر والذي كان يناديه الوالد بـ”أبو صواريخ”، إنها هي ساعة “بيغ بن” التي يستمع إليها الوالد في أخبار السابعة من القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، الإذاعة التي تنافست في المنزل مع صوت موسكو وكذلك راديو مونت كارلو، قبل أشهر من وصول الاذاعات اللبنانية بأنواعها من “صوت لبنان، وصوت لبنان العربي، وإذاعة لبنان الحر، وصوت فلسطين”.
الورود الملونة مكانها في ساعة ساحة البرج، عام يفترق مبتعداً ثانية واحدة عن العام الذي سبقه، يتجمع شبان وصبايا يغنون ويرقصون، ورجال شرطة يصفقون للمشهد، ساحة الشهداء تجمع الوطن في الليلة الأخيرة للعام الذي مضى بكل ما فيه من حياة سعيدة، وأتى العام الجديد مع الكفن الأبيض الذي خبأه في بوسطة تحمل شعارات النوادي الرياضية، وأمثال وحكم تنادي بالصبر وما يتلوه من أفعال ندامة. رقص سبق البكاء، وغناء سبق النحيب، وأدوات موسيقية لفرقة دبكة وتوابعها تسبق أسلحة “السيمونوف والدكتريوف والكلاشينكوف والأم 16، وكذلك المعدلة وقناصة البريجينيف، والدوشكا، وقنبلة المدقة”.
يرقص الجميع ويغنون، أحد الشبان يلاعب الصبي الأوسط بين يدي سلوى، “ويا سلوى ليش عمبتبكي، عمببكي بدي ارقص، يا سلوى قومي تنرقص دبكي”، فتذهب سلوى للرقص مع الشاب، الرقص اللعوب والمجنون وتترك الصبي الأوسط واقفاً في أرضه ضائعاً عن الجميع، من العائلة لم تستطع رؤيته بين الناس، هو الصغير المتطاول على كل شيء، صار وحيداً ليلعب مع أعشاب خضراء وجدها هناك ونام بقربها.
الجمع الذي يشبه التظاهرة في رأس سنة ذلك العام، غنى وقدم أكثر ما لديه، فيما سلوى ترقص، وقميصها يظهر الكثير من الاغراءات كما قال الأخ الأكبر “أبو صواريخ”، استيقظ الأخ الأوسط على صوت المفرقعات التي ملأت الدنيا، والتي تقوى لنذهب في عامنا الجديد. دارت السيارة في الجميزة الهادئة، فوق خط سكة الحديد، نزولاً باتجاه منطقة البدوي وبعدها إلى حي مرعش في برج حمود، أجواء صراخ وأغان، وابن الجارة ام جورج “الخنفوس” يشغّل موسيقى “الروك أند رول” هو وشبان الحي وصباياه فوق سطح البناية، تنظر سلوى حيث يتلاعب قلبها هناك، لا تستطيع الصعود، صوت عال من ستيريو جديد من فئة الاسطوانات، اشتراه أحد الشبان من هجرة قصيرة إلى الكويت، رقص الحي كله على الموسيقى، قبل أن يظهر الصباح الأول في عام الحرب الأهلية وأخواتها.
يا سلوى… دعيني أصلي في خط الأفق النازل هناك بين القميص ونهدك الشارد يساراً ولنترك لهم كفن رأس العام الذي سبق حرباً مجنونة أبعدت “أبو الصواريخ” و “أبو جوَي” عن رؤيتك.
omar_harkous@hotmail.com