• تخلق التجربة الشعرية المتواصلة لسلمان مصالحة معاني وأفاقًا دلالية جديدة ، قد تكون مغايرة أحيانًا ومناقضة، للكلمات والافكار التي تحضر بقوّة في الكثير مما يكتب في الشعر الفلسطيني اليوم، ولعلّ في ذلك؛ أي في قدرتها على منح المفاهيم المستهلكة والمستعادة آفاقًا دلالية جديدة وطازجة وصادمة، أحد وجوه قوتها ومتانتها واختلافها.
عن ” راية للنشر والترجمة” في حيفا، صدرت في الأسبوعين الماضيين المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر والأكاديمي الفلسطيني المعروف، سلمان مصالحة، موسومة بعنوان “في الثرى، في الحجر”، وهي الثامنة في سجلّ أعماله الإبداعيّة في الشعر، حيث قدّم على مدار العقود الاربعة الماضية عددًا من المجاميع الشعرية استهلها بـ “مغناة طائر الخضّر” الصادرة في القدس عام 1979.
في عمله الجديد يواصل مصالحة اللعب على الموضوعات الأثيرة التي شكّلت عالم قصيدته وميّزتها، سواءً لجهة الجرعات الوجودية العالية للقصائد، والاحتفاء المدروس بالإيقاع، عبر تصعيد الأسئلة الوجودية التي تفرضها تجربة الشاعر، هنا والآن، على أفق القصيدة وترابها، كما في اكتفائها بذاتها كموضوعة شعرية، خارج سياق “الثيمات” الكبرى للكتابة في المدونة الشعرية الفلسطينية. فهنا، في هذه المجموعة وفي مجمل أعمال سلمان مصالحة التي يحضر فيها الاغتراب الخلاق؛ الاغتراب الذي يدفع إلى مزيد من الأسئلة والاحتمالات، لا يحضر المكان بوصفه الوطن” النهائي” بل بوصفه الحاضنة التي تتخلّق الفكرة فيها، ولا تحضر القدس- المدينة التي يعيش فيها منذ 1970- كرمز دينيّ، او كعاصمة متنازع عليها، بل كمكان شخصيّ أولاً وأخيراً، شهد وما يزال، المراحل الأكثر نضوجًا في تجربة الشاعر الحياتية والوجودية. ولعلّ في عناوين بعض قصائد المجموعة ، مثل “قصيدة وطنية، ربما”، و”درس في النحو الأجنبي لطالبة عربية” ما يؤكّد هذا التصوّر ويعزّزه.
هكذا تخلق التجربة الشعرية المتواصلة لسلمان مصالحة معاني وأفاقًا دلالية جديدة ، قد تكون مغايرة أحيانًا ومناقضة، للكلمات والافكار التي تحضر بقوّة في الكثير مما يكتب في الشعر الفلسطيني اليوم، ولعلّ في ذلك؛ أي في قدرتها على منح المفاهيم المستهلكة والمستعادة آفاقًا دلالية جديدة وطازجة وصادمة، أحد وجوه قوتها ومتانتها واختلافها، وهو ما يمنحها على الدوام القدرة على تطوير ذاتها، كاقتراح فنّي، وتطوير الشعر؛ أيضًا.
تقع المجموعة الجديدة في 110 صفحات من القطع المتوسّط، مشتملة على 34 قصيدة، حضر الموضوع السياسي المباشر في بعض منها، كما في قصيدة “القصيدة الشامية” التي يشكّل الحدث السوري الدامي بؤرتها ومركزها، او قصيدة “مرثية عربية لوطن ضائع” وهي تستعيد بوحدة اللغة والحلم ما فرّقته خيبات السياسة وهموم التاريخ، فيما تحضر تجربة الشاعر الوجودية والتدويرات التي يجريها عليها، استقراءً وتصعيدًا ومساءلة، في غالبية قصائد المجموعة.
الجدير بالذكر أن سلمان مصالحة حاصل على الدكتوراة في الأدب العربي، وقد اشتغل لسنوات محاضرًا في الأدب العربي في الجامعة العبرية بالقدس، وله مساهمات أكاديمية بحثية في العديد من الدوريات المختصّة، بالإضافة لذلك قدّم مصالحة عبر مجلة مشارف التي كان أحد أعضاء هيئة تحريرها ترجمات من الأدب العالمي لأبرز الاصوات الشعرية العالمية، بينها شيموس هيني، فيسلافا شيمبورسكا، برايتن برايتنباخ وآخرين، كما ترجم وقدّم للقارئ العربي بعض ابرز التجارب الشعرية في الادب العبري المعاصر لشعراء اسرائيليين مثل حاييم غوري، اهارون شبتاي، يتسحاك لاؤور، روني سوميك، وغيرهم. وبالتوازي قدّم مصالحة للقارئ العبري عددا من الترجمات لكتب عربية وفلسطينية بينها “ذاكرة للنسيان” لمحمود درويش، و”الصبار” لسحر خليفة، وغيرهما، بالإضافة إلى ترجمات كثيرة لقصائد من الشعر العربي المعاصر.