وزارة الخارجية الفرنسية (أو “الكاي دورسيه”)، ناقمة. ناقمة على الرئيس ساركوزي الذي انتزع من الديبلوماسيين المحترفين السياسة الخارجية عموماً، وناقمة على وزير الخارجية برنار كوشنير الذي يتراءى أحياناً أن الرئيس ساركوزي عيّنه وزيراً “شكلياً” للخارجية بمهمة محددة هي تغطية إنتقال السياسة الخارجية إلى قصر الإليزيه. وهذا ما يتيح اليوم الحديث عن “وزيرين للخارجية”: أما الوزير الآخر فهو، طبعاً، مدير الإليزيه “كلود غيّان” الذي تشمل صلاحياته العلاقات مع سوريا والجزائر وليبيا والغابون ورواندا وساحل العاج. والإستياء من الطابع “الشخصي” للسياسة الخارجية الفرنسية قد يشمل بعض “أجهزة الظلّ” الفرنسية، ولكن استياءها يظلّ في الظلّ لأنها “أجهزة ظلّ” أي أجهزة سرّية.
وعلى هامش مقابلة أجرتها جريدة “لوموند” اليوم الثلاثاء مع سفير فرنسا السابق في ساحل العاج، فقد عرضت “لوموند” لبعض مبادرات السكرتير العام للقصر، “كلود غيّان”، في السياسة الخارجية. وحسب “لوموند”: “سواءً في الغابون، ورواندا، وساحل العاج، والجزائر… فإن إفريقيا هي أرض مفضّلة للسكرتير العام للإليزيه. وقد قام كلود غيان بمهمات كثيرة في هذه البلدان بمفرده وذلك على حساب وزير الخارجية برنار كوشنير، الذي لم يكن بالضرورة مطّلعاً على تحرّكاته.
في أبريل 2008، كان كلود غيان في مكتب الرئيس الراحل عمر بونغو في مهمة إستئناف العلاقات الطبيعية مع بونغو الذي تعرّض للنقد من “سكرتير الدولة للتعاون”، جان-ماري بوكيل، الذي كان قد أقيل من منصبه قبل أيام. وصرّح غيان لجريدة “لوموند” أنه “ليست وظيفتنا أن نسيء علاقاتنا مع أولئك الذين كانوا أصدقائنا تاريخياً والذي قدّموا لنا خدمات جلّى”.
وتضيف “لوموند”: “لم يوفّر السيد غيان جهداً لدعم “علي بونغو”، الذي خلف والده. كما استقبل عدة مرات “كريم واد”، الذي يسعى لخلافة والده في رئاسة السنغال. وفي نوفمبر 2009، سافر كلود غيان إلى “كيغالي” لاستئناف العلاقات مع روندا وللتمهيد لزيارة ساركوزي التي تمّت في شهر فبراير.
“كما قام السكرتير العام للإليزيه بزيارة كثيرة لشمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث استفاد من العلاقات التي كان قد نسجها مع أجهزة أمن هاتين المنطقتين أثناء عمله كمدير لمكتب ساركوزي الذي كان في حينه وزيراً للداخلية.
“وتشمل هذه العلاقات مدير الإستخبارات الليبية ووزير خارجية ليبيا الحالي منذ 2009 “موسى كوسا”. وأفادت العلاقات مع “كوسى موسا” في قضية إطلاق سراح الرهائن البلغار والطبيب الفلسطيني الذين كانوا اعتقلوا في ليبيا في يوليو 2007.
وقام السيد غيان بعدة زيارات لسوريا، برفقة المستشار الديبلوماسي لساركوزي، “جان-دافيد ليفيت”، بهدف إعادة وصل العلاقات بين باريس ودمشق، التي كانت قد تباعدت في ولاية جاك شيراك الأخيرة. (يسخر ديبلوماسيون فرنسيون من مزاعم نيقولا ساركوزي، في كتاب أصدره قبل أشهر من وصوله إلى الرئاسة، وجاء فيها أنه “فهم سوريا” خلال زيارة استغرقت أسبوعاً أكثر من السفير الفرنسي في دمشق!)
يضاف إلى ما سبق أن السكرتير العام للرئاسة ينشط كثيراً في العلاقات مع السعودية ودول الخليج، حيث قام بعدة زيارات من أجل الترويج للمصالح الفرنسية. ولكن جهوده لم تثمر، وخصوصاً في دولة الإمارات التي فضّلت كونسورتيوم كوري جنوبي على الشركات الفرنسية في ديسمبر 2009، وأبرامته معه عقداً بقيمة 20 مليار دولار لبناء 4 مفاعلات نووية”.
وسط هذا الصراع بين “القصر” و”الكاي دورسي” أجرت “لوموند” مقابلة مع سفير فرنسا في السنغال حتى الأسبوع الماضي (ترك منصبه في 30 يونيو)، “جان كريستوف روفان”. والسفير السابق كاتب معروف كان نائب رئيس منظمة “أطباء بلا حدود” ثم رئيس منظمة “العمل ضد الجوع”. وكانت صحيفة “الكنار أنشينيه” قد نشرت، في ديسمبر 2008، برقية سرّية صادرة عنه تندّد بمساوئ حكومة الرئيس واد في السنغال. وبعد نشر البرقية، طلب الرئيس واد إستبدال السفير الفرنسي.
في ما يلي مقتطفات من مقابلة “لوموند” مع السفير السابق في السنغال “جان كريستوف روفان”:
• من يدير سياسة فرنسا الإفريقية الآن؟
– في السنوات الأخيرة، نشأت طريقة إدارة خاصة: القضايا الإفريقية الأكثر حسّاسية هي من إختصاص السيد كلود غيان، الذي كان يشغل منصب محافظ ولا يملك معرفة خاصة بإفريقيا. وفي هذا الميدان الذي احتكره لنفسه، فإن السيد غيّان يتصرّف بكل حرّية خصوصاً أنه ليس مضطراً للخضوع لاستجوابات البرلمان أو الحكومة. وهو غير مسؤول سوى أمام رئيس الجمهورية وحده، ولذلك فلا أعرف إذا كان الرئيس مطّلعاً بالكامل على مبادرات مساعده.
• لكن هذا الوضع مستجدّ فعلاً؟
– حينما تم تعييني سفيراً في صيف 2007، كنت أعتقد أننا على عتبه تحوّل حقيقي في علاقاتنا مع إفريقيا. ولذلك قبلت بالمهمة التي كلّفني بها الرئيس ساركوزي الذي كان قد أعرب عن أمله في إحداث قطيعة مع الماضي. إن بعض المبادرات التي قام بها تصّب في هذا الإتجاه، بما فيها الإهتمام بالقارة كلها وليس فقد بالمنطقة الناطقة بالفرنسية، وكذلك مراجعة الإتفاقات الدفاعية، وأيضاً الدعوة لتمثيل إفريقيا في مجلس الأمن الدولي. أما الآن، فأعتقد أننا يمكن أن نخسر فرصة تاريخية لأن سنوات 2007-2010 شهدت إعادة نشوء إنحرافات العلاقات الفرنسية-الإفريقية.
–
• خلال تلك السنوات، كنتَ سفيراً في داكار. ماذا حدث؟
– ما حدث هو أن برنار كوشنير لم يرغب أو لم يتمكن من فرض نفسه في هذا الميدان، وفي ميدان السياسة الخارجية عموماً. ونظراً لماضيه الذي يثير إعجابنا، فلا أفهم كيف وافق على تمرير قرارات صادرة عن سواه ووفقاً لأسس لا يقتنع هو بها.. وآخرها قرار الإليزيه بتعيين خلفٍ لي اقترحه الرئيس “واد”، مع أن كوشنير لم يكن موافقاً عليه.
• هل تعتب على السيد كوشنير لأنه لم يدافع عنك؟
– ليس المسألة مسألة شخص، بل مسألة مبدأ وأسلوب عمل. من جهة، هنالك وزارة الخارجية التي تمثّل واجهة “دعائية” وواجهة أخلاقية، ومن جهة أخرى هنالك السياسة الحقيقية التي تُمارس من وراء ظهر وزارة الخارجية ومن أشخاص آخرين… وزارة الخارجية الفرنسية حالياً هي وزارة منكوبة يشعر فيها الديبلوماسيون بالضياع التام لاعتقادهم بأن أحداً لا يدافع عنهم!
• هل تعتقد أن الرئيس السنغالي عبدالله واد نجح في إبعادك لأنك رفض مشروعه لتوريث إبنه.
– قاومت هذا المشروع أكثر من السفيرين السابقين.. ولكن الرئيس واد كان منزعجاً كذلك من تعاطف الناس معي في السنغال. وقد طالبت دائماً بأن تتبع فرنسا موقف حياد صارم وأن ترفض تأييد أي مرشح. وأثار موقفي هذا إستياء الرئيس السنغالي، فطالب مراراً بإبعادي.
لسنا بحاجة للوسطاء اللبنانيين
• لكن، لماذا وافقت فرنسا في النهاية على طلبات الرئيس واد؟
– لواحد من سببين: إما بسبب تخبّط السياسة الخارجية الفرنسية الذي ينجم عنه أننا نساير السلطات القائمة. أو بسبب تأثير الشبكات غير الرسمية التي تنشط لدفع فرنسا لدعم مشروع توريث السلطة في السنغال.
• كيف تصف هذه “الشبكات”؟
– نشأت هذه الشبكات على النقيض من شبكات “فوكار” (السكرتير العام للرئاسة في عهد ديغول). لقد كان لـ”فوكار” سيئاته، ولكن أحداً لم يكن يشكّ في ولائه لمصالح الدولة. كانت شبكاته السرّية تخدم مصالح فرنسا. أما اليوم، فإن “الشبكات” تمثّل “لوبي” يعمل لتأمين دعم السلطات الفرنسية لصالح هذا النظام الإفريقي أو ذاك.
• وهل تنجح في مساعيها هذه؟
– أعتقد أن كلمتها مسموعة.
• لأي سبب؟ هل تؤمّن هذه الشبكات مصالح مالية لفرنسا؟
– هذا سرّ كبير. لأن هذه الشبكات، في الواقع، لا تتغذّى سوى من الضجيج الذي تثيره حول نفسها ولا تمثّل غير نفسها. ولن يحدث شيء لو قرّر الإليزيه أن يطرد هذه الشبكات!
• كلامك هذا يشير إلى المحامي “روبير بورجي”، الذي يحمل صفة مستشار لعدد من رؤساء دول إفريقيا، والذي يملك علاقات في الإليزيه. ولكن، هل يمثل “بورجي” شبكةً بمفرده؟
– على غيري أن يجيب على هذا السؤال، خصوصاً أنني احتفظت بحرية عملي ولم أتأثّر يوماً بنفوذه. ولكن الوضع الحالي يذكّرني ببدايات حقبة الإستعمار، حينما كانت الشركات التجارية الكبرى بحاجة إلى اللبنانيين المتمركزين في إفريقيا (هذا ينطبق على عائلة “روبير بورجي” الشيعية بعكس ما يوحي الإسم) لإقامة صلات مع أبناء البلاد. وفي يومنا، يتمتع بعض الوسطاء بمصداقية لدى مسؤولينا بذريعة أنهم يتعاطفون مع الإفريقيين. وهم يستفيدون كذلك من مناخ عدم الثقة الراهن إزاء الديبلوماسيين. والأسوأ هو أنهم نجحوا في إقناع كبار المسؤولين بأن تحليلاتهم أكثر حياداً من التحليلات التي يرفعها لهم السفراء، في حين أنهم يقبضون مكافآت مالية للتعبير عن وجهات نظر زبائنهم.