(طرابلس – لبنان): منذ أن بترت قذيفة إحدى قدميه بينما كان يشارك في إحدى المظاهرات في بستان القصر، في مدينة حلب السورية، لم يعد أمير كما كان. هذا المُجاز في الفنون البصرية ذو الثلاثين عاماً، الذي كان في السابق متهكماً وفطناً ومكافحاً، يبدو أنه فقد الموهبة والرغبة في الحياة. يمضي الأيام مختبئاً في صمته، مطوقاً همومه في دخان التبغ، ولصدمة الأصدقاء الذين يرافقونه في تركيا، حيث كانت تُعالَج إصاباته، بدأ بالحديث عن الانتحار. “لم يعد أمير الذي كان”، كما يشتكي رفاقه.
سـوريا أيضاً لم تعد كما كانت. ولا القسم الأكبر من سكانها، ومن بينهم الصغيرة نور، ذات الأعوام العشرة، الناجية من هجوم الطيران السوري على مدرستها، الواقعة قرب دمشق. والدتها، اللاجئة في لبنان، تروي كيف أمضت الصغيرة شهرين معانقة لها ليلاً ونهاراً. كوابيسها تعيدها إلى هول الانفجار. عز الدين، السوري ذو الخمسة والعشرين عاماً، كان يعتقد أنه يمر بفترة من التوتر العصبي إلى أن وصف أعراضه لطبيب صديق لوالديه. الأرق، الصداع، الخوف من الكوابيس التي تراوده في الليل، القلق، المزاج السيء، فقدان الأمل … التشخيص كان قاطعاً ويمكن تطبيقه على الحالات السابقة: PTSD أو اضطراب ما بعد الصدمة، نوع من اضطرابات القلق الشائعة في السيناريوهات العدوانية حيث يحس الفرد بتهديد واضح لسلامته الجسدية.
مستويات العنف التي تعانيها سـوريا منذ أن تعرضت المظاهرات السلمية، قبل أكثر من عامين، للقمع بالقنابل مطلقة حرباً أهلية، تتسبب في جعل المرض المذكور معاناة على النطاق الوطني. تلك هي، على الأقل، الخلاصة التي وصلت إليها المنظمات غير الحكومية والأطباء المطلعون على الأعراض التي يعالجونها في مجتمع اللاجئين: من المستحيل جمع معلومات من داخل البلد، حيث يمنع النظام صراحةً المنظمات الإنسانية التي قد تحسِّن الوضع. الأعراض الأكثر شيوعاً، كما يصفها الطبيب النفسي السوري المستقر في لندن ي.س -يطلب الإشارة إليه بالحروف الأولية من اسمه جراء الخوف من الانتقام من أقربائه، الموجودين في سـوريا- هي “ذكريات وكوابيس، تجنُّب ووهن، حذر شديد، وكذلك أعراض القلق، الاكتئاب، الاستعمال المفرط للكحول أو العقاقير، بما فيها مسكنات الألم”.
ي.س غادر البلد في 2004 لتحسين تأهيله في بريطانيا. يمارس المهنة منذ 2005. كانت عودته إلى سـوريا متوقعة في 2012 لكنه، بالنظر إلى الأوضاع، أجَّل الرحلة. مشاعره وعواطفه لا زالت في هذا البلد العربي. “هنا لا أعالج مرضى سوريين لكنني أستقبل استشارات هاتفية حول حالات من الداخل، بعضهم من الأطفال (…) الأطفال يظهرون أعراض قلق أشد بالرغم من من الجهود المبذولة من الآباء لحمايتهم: من المستحيل، ببساطة، فعل ذلك. لم أتعامل مع حالات من الصدمات المباشرة، بل حالات من الصدمة الجماعية، من السهل رؤية كم هي مخيفة. استُشِرتُ أيضاً حول الزيادة في حالات الانتحار ومحاولات الانتحار. القلق كما الاكتئاب وحالات الانتحار أو الانتحار التظاهري يمكن أن تكون مظهراً لاضطراب ما بعد الصدمة PTSD لم يُحَلّ أو نتيجة مباشرة للصدمة”.
يوضح الأطباء أنه لكي يوجد اضطراب ما بعد الصدمة فإن من الضروي أن يرى الشخص نفسه في خطر وشيك، أو أن تكون حياته مهددة، أو أن يكون في وضع يرى فيه أشخاصاً يموتون أو يُصابون. “هذا يمكن أن يصف جيداً الوضع في سوريا”، كما يرى الدكتور ي.س في تبادل للبريد الالكتروني. “أعراض اضطراب ما بعد الصدمة يمكن أن تبدأ مباشرة أو خلال فترة أسابيع أو شهور، لكنها عادة تستغرق ستة شهور منذ بداية الحدث الصادم. و كلما كانت التجربة أكثر قسوة، كلما ازدادت احتمالات حدوث اضطراب ما بعد الصدمة PTSD. الأحداث الأكثر تسبباً في الصدمة عادةً ما تكون تلك المفاجئة وغير المنتظرة، والتي تمتد وقتاً طويلاً، وتلك التي تستدعي البقاء محاصراً بدون إمكانية للهروب، والحادثة بفعل الإنسان وتتسبب في وفيات كثيرة وبتر للأعضاء أو فقدان الأذرع والأقدام، وتلك التي تؤثر على الأطفال. نعلم أنه في حال الاستمرار في التعرض لاضطراب ما بعد الصدمة، يصبح التحسن أمراً أكثر صعوبة أو مستحيلا”، يواصل الطبيب السوري المحترف كلامه.
الدكتور غازي أسود، واحد من أطباء مستشفى أنشأته منظمة البشائر غير الحكومية في مدينة طرابلس اللبنانية للعناية مجاناً باللاجئين، هو نموذج عن الحالة النفسية غير المستقرة للمدنيين السوريين. متحدر من مدينة حماة السورية، فرَّ إلى أوروبا عندما كان مراهقاً، في ذروة هجوم نظام حافظ الأسـد على مسقط رأسه عندما هلك، وفق روايته، “ثلاثون بالمائة من عائلته”. لجأ إلى فرنسا لكي يعود إلى سـوريا عام2011، عندما كان نجل الديكتاتور، بشار، يتبع خطى والده. سافر سراً إلى مشفى ميداني في حِمص، حيث أمضى قريباً من العام للعناية بالمدنيين الجرحى. بعد التجربة، لا يشعر بالقوة الكافية للعودة لكنه يستمر في العمل، بإيثار، مع اللاجئين. كل حالة تؤثر عليه من الناحية العاطفية.
“قبل بضعة أسابيع، في منتصف الاستشارة أخبروني أن ابن شقيق لي في الثانية عشرة من عمره مات بطلقات قناص. أجهشت بالبكاء أمام مريضتي. لمفاجأتي، هي، أيضاً، أجهشت بالبكاء، على موتاها: انتهينا إلى مواساة بعضنا البعض”، يروي متأثراً. “لسنا علماء نفس، لكنني أقول إن تسعين بالمائة من المرضى الذين يمرون من هنا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة”، يقول الدكتور أسود مع موافقة ثلاثة من الأطباء. “حتى نحن الأطباء منهكون نفسياً لرؤية أحوال مرضانا واحتياجاتهم. “كثيرون منا يداوون أنفسهم لكي نستطيع التحمل”. في المركز، يوجد متطوع واحد فقط مؤهل في الصحة النفسية: طبيب الأمراض العصبية باسر خضر، الذي يقدم الاستشارة كل يوم سبت، متطوعاً، للتخفيف من الأمراض النفسية للاجئين. هو نفسه يشير إلى أنه، بالنظر إلى تأهيله المهني، لا يدخل “في حالات الصدمات النفسية الحادة. أعالج فقط الاكتئاب الشائع”. يستقبل خضر حوالي عشرين مريضاً أسبوعياً يحتاجون إلى رواية تجاربهم العنيفة. البقية، لا يشعر أنه مؤهل لمعالجتهم.
“إحدى المشكلات الأكثر خطورة في سوريا هي أن قسماً معتبراً من المهنيين المحترفين في الصحة النفسية قد فروا من البلد، في سياق هجرة الأدمغة التي وجدت منذ بداية الثورة. معلومة مهمة: وفق منظمة الصحة العالمية، فإن الأطباء النفسيين التسعة الذين كانوا يعملون في حِمص، وكذلك نصف الأطباء، غادروا البلاد. من المستحيل معرفة ما إذا كانت المعلومات تنطبق على سوريا كلها، إلا أن أحداً لا يتصف بالتفاؤل. الدكتور ي.س تنقصه البيانات، لكنه يؤكد أن “أطباء كثيرين تركوا البلد والبقية تخطط لفعل الشيء نفسه”. “في حالة الأطباء والممرضين، تُضاف حقيقة أنهم تعرضوا للتجريم من كلا الطرفين في النزاع، كما يشير إلى ذلك تقرير اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سـوريا، وهي قسم من المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
“إحدى القضايا الأكثر خطورة في النزاع هي استعمال الجسم الطبي كتكتيك في الحرب. الكوادر الطبية والمستشفيات هوجمت بشكل متعمد وعوملت من قبل الأطراف في النزاع كأهداف عسكرية. مُنعت الرعاية الطبية على أسس سياسية وطائفية. تم توثيق حالات تعرض فيها مدنيون سُنة للإكراه على يد القوى الأمنية بينما كانوا يتلقون العلاج الطبي”، كما يرد في التقرير.
“الكوادر الطبية التي تخدم في المشافي الحكومية لديها خشية مبررة من التعرض للعقاب في حال تقديم العلاج لأعضاء في الجماعات المسلحة المناوئة للحكومة. الأطباء والممرضون وصفوا كذلك حوادث اضطرتهم فيها قوى الأمن إلى تسجيل جثامين المقاتلين الذين تمت تصفيتهم على أنهم مرضى متوفون. الفرق الطبية في المستشفيات الحكومية تعبر عن خشيتها من التعرض للخطف من الجماعات المسلحة التي تعتبرهم موالين للدولة. تصرفات مشابهة تحوِّل المهنة الطبية إلى أداة، جارَّة أصحاب المهنة الإنسانية إلى الصراع”.
بالرغم من أن المقاومة النفسية ضرورية للصمود في أي صراع، فإن القسوة الساحقة للحرب، حيث تُفقد عشرات الأرواح يومياً وسط خراب مدمر، تحوِّل الصدمة النفسية إلى مشكلة ثانوية. “أولاً علينا أن نعالج الإصابات البدنية”، يجادل الدكتور أسود من العيادة في طرابلس. “لكن الحاجة إلى رواية تجاربهم كبيرة جداً. الناس تريد الكلام. عنما يتوجه إليهم أحد الأطباء باهتمام، فإنهم ينفتحون”.
نقص الأخصائيين النفسيين هي واحدة فقط من المشكلات التي يواجهها الأطباء. “لأسباب ثقافية، كثيرون من المرضى يفضلون عدم الكلام عن الجراح النفسية، رغم أنه من الشائع أن ينهار آخرون ويروون تجاربهم خلال العلاج. قبل بضعة أسابيع، استقبلتُ مريضة لم تخبر أسرتها بأنه قد مضى عليها شهران وهي تنزف. كانت قد أصبحت حاملاً بعد اغتصابها، ولم تكن تجرؤ على ذكر ذلك لأنها متزوجة”، كما يشرح مدير مشفى البشائر، هشام سليمان.
بين جميع اللاجئين، فإن الأمراض الأكثر وضوحاً هي التي تظهر عند الأشخاص الذين خضعوا للتعذيب في مراكز الاعتقال. حالات لأشخاص محروقين، مسلوخين، مبتورين، مغتَصبين، أو متعرضين لشحنات كهربائية، ليست نادرة في الجالية السورية التي وجدت ملاذاً في لبنان. كثيرون منهم، وفق المهنيين الذين يعالجونهم، تم إطلاق سراحهم لكي يتعرضوا لاحقاً للاعتقال والتعذيب مرة أخرى.
بين المنظمات غير الحكومية القليلة التي تقدم الرعاية النفسية للاجئين السوريين الذين يغرقون لبنان يبرز عمل Restart ، التي كانت قد جمعت خبرة في هذا المجال عندما كانت تقدم الرعاية للاجئين العراقيين، بين عامي 2005 و2010. هذه المنظمة غير الحكومية المتخصصة في إعادة التأهيل النفسي لضحايا التعذيب، بدأت قبل أربعة شهور بالعمل مع اللاجئين السوريين، سواء أكانوا من المتعرضين للتعذيب أو لم يكونوا. يكرس مركزان، واحد في طرابلس والآخر في بيروت، كادرهم المهني -من بينهم أطباء نفسيون، أخصائيون نفسيون، أطباء أمراض عصبية، معالجون فيزيائيون- لهؤلاء المرضى، المرسلين من قبل منظمات غير حكومية أخرى تنقصها الفرق المتخصصة في الصحة النفسية.
“في حال المرضى السوريين، فإن السياق السياسي شديد التعقيد والتفاعل بين سوريا ولبنان يؤثر كثيراً، فالخوف يطغى عليهم. في بعض الأحيان، لا يريدون حتى الاقتراب من المنظمات غير الحكومية. يجدون صعوبة في الاعتراف بأنهم ضحايا للتعذيب ويرفضون بشكل كامل بروتوكول استانبول لخوفهم من أن توشي بهم المنظمة غير الحكومية إلى النظام أو إلى المعارضة”. توضح المديرة، سوزان جبور. “يعتقدون أن الأمن غير مضمون في لبنان لأن الأطراف السياسية متورطة في سوريا. لايستوعبون أننا مهنيون محترفون في القطاع الصحي وأن السرية هي أمر أساسي”.
جبور، التي اعتادت العناية شخصياً بالمرضى، تتحدث عن “خوف مطلق”. تؤكد أن المرضى العشرين الذين يحضرون لاستشارتها في بيروت هم ضحايا “التعذيب واضطراب ما بعد الصدمة PTSD “. بعد انقضاء عامين على البداية، ظهرت المشكلات النفسية بين السكان المدنيين. عقب أي حادث صادم، هناك كرب حاد. بعد انقضاء أسابيع، هناك أناس يتجاوزونه، أو يستطيعون العيش معه، وهناك من يتطور لديهم كرب مزمن. إذا لم يتم تجاوزه خلال ستة شهور، يمكننا التحدث عن اضطراب ما بعد الصدمة”.
في مكتبها في بيروت، ثمة عشرة من المرضى يتحاشون النظر في العيون في صالة الانتظار. “ينبغي أن نفهم أن اللاجئين يفقدون كل شيء. من الصعب أن نفهم أو نستوعب أو نتقبل فظاعة الحدث الذي عانوا منه. قد يحتاج الأمر إلى عام كامل للتكيف وفهم أنهم يحتاجون مساعدة للتعامل معه”. بالنسبة إلى الصدمات البدنية للاجئين المتعرضين للتعذيب، تؤكد الدكتورة جبور أن “من المستحيل تخيل ما رأيتُه. عندي حالة لمريض أمضى ثلاثة شهور في سجن سوري. كان ينام على الجدار لأنه لم يكن هناك مكان للاضطجاع على أرض الزنزانة. انتهى بظهر مسلوخ من التعذيب. يعاني حالةَ اضطراب ما بعد الصدمة حادةً، لا يأكل، تراوده الكوابيس، ويعاني من حالات تذكر للماضي متواصلة. لا يتمكن من إغلاق عينيه جراء الخوف من التذكر، لا يجرؤ حتى على المشي في الشارع خوفاً من أن يتم التعرف إليه”.
حسب مديرة Restart فإن الهدف من هذا التعذيب البدني والنفسي هو “تحطيم الشخصية، خلق أموات أحياء”. الأكثر بشاعة هو أن الأمر يتعلق بعمليات تعذيب “منهجية، تطبق على أي نوع من المحتجزين. هناك أناس يهربون لأنهم لا يستطيعون تحمل ما يشاهدونه. استقبلنا حالتين لعناصر من الجيش السوري الحر هربا لأنهما لم يستطيعا التحمل. قالا إن القتل يتم بالسكاكين. عانينا من الصدمة من مجرد الاستماع إليهما”.
تشرح جبور بالتفصيل كل نوع من أنواع التعذيب، الاعتداءات الجنسية في السجون على الرجال والنساء حيث تستخدم الحيوانات وكل نوع من الأجسام… زميلتها سناء حمزة تشير إلى تقنية أخرى: تلطيخ الجسم بالمربَّى قبل ترك السجين في العراء. “يمكن أن يقال إن كل مجتمع اللاجئين تحت الصدمة الجماعية. غادروا البيوت، المدارس، الحياة الطبيعية، والأمان المالي. البناء الأسري ينهار، ذلك أن النساء بقين ليتحملن مسؤولية الأطفال وحدهن”.
أضف إلى ذلك أن الاعتداء لا يؤثر على الشخص المعذَّب وحده. “عادةً ما يُعذِّب المُعذَّب إذا وجد الفرصة أو القدرة لفعل ذلك. الضحية تتحول إلى معتد وكل أسرته تعاني جراء ذلك. إذا لم يتلقوا المساعدة النفسية، فمن الممكن أن يعتدوا في محيطهم وأن لا يتمكنوا من الاندماج في المجتمع”، تشرح سناء حمزة. “لا أرى مستقبلاً للضحايا”، تشدد الدكتورة جبور. “الأسوأ لمَّا يأت بعد فهم مدمرون تماماً. ليس لديهم أي شيء لبدء حياتهم من جديد وتنقصهم الرغبة الأساسية للحياة”. كانت الدموع تفر من عيني الدكتور غازي خلال المقابلة. “أنا نفسي أتناول مضادات الاكتئاب. سـوريا كلها تحتاج علاجاً نفسياً”.
ترجمة: الحدرامي الأميني
موقع: كوارتو بودير
http://www.cuartopoder.es/elfarodeoriente/toda-siria-necesita-asistencia-psicologica/4327