من الشائع، والمألوف، أن “يسطو” كتّاب، ومعلقون، يكتبون بالعربية، على كتابات، وتعليقات، تُكتب بلغات أجنبية. هذا ما يحدث، يومياً، في التعليقات التي نقرأها، أو نسمع أصاحبها، في منابر إعلامية مُختلفة. ويحدث أكثر منه في “الكتب” التي ينشرها عرب في علوم السياسة والتاريخ والاجتماع والأدب، وحتى الروايات (وما أدراك ما الروايات).
ولكن من النادر، وغير المألوف، أن “يسطو” كتّاب، ومعلقون، يكتبون بلغات أجنبية، على كتابات، وتعليقات تُكتب بالعربية. ففي الأمر ما يشبه إعادة التدوير، وإمكانية الفضيحة قائمة، طالما أن العاملين في الحقل (أو الحقول) الثقافية الغربية يشعرون بالتفوّق، الذي تبرره، أحياناً، شروط أكثر تشدداً من جانب دور النشر، والمؤسسات الإعلامية الأخرى.
ومع ذلك، هذا ما يحدث من حين إلى آخر. وقد عثرتُ على حالة كهذه قبل أيام في سياق قراءة كتاب بالإنكليزية بعنوان “سيد قطب، وأصول الإسلاموية الراديكالية” لشخص يعلّم في جامعة أميركية اسمه جون كالفيرت. الطبعة التي بين يديّ صدرت عن مطبعة جامعة أكسفورد في العام الماضي (2013)، واتضح بعدما ازداد اهتمامي بالكتاب وصاحبه انه صدر في طبعات مختلفة منذ العام 2009. وقد أطنبت منابر مرموقة مثل الإيكونوميست، ومجلة فورين أفيرز، في الثناء عليه.
ومع ذلك، انتابني إحساس غامض، ومنذ الصفحات الأولى في الكتاب، بأنني قرأت كلاماً يشبه هذا في وقت ما. ولم يمر وقت طويل قبل العودة بالذاكرة إلى كتاب “سيد قطب من القرية إلى المشنقة: سيرة الأب الروحي لجماعات العنف”، الذي أصدره الكاتب والصحافي المصري عادل حمودة في العام 1987، وأعاد نشره في طبعات مختلفة، منها الطبعة الصادرة عن دار الخيّال، في العام 1996، وهي التي عدتُ إليها للمقارنة بين الكتابين.
للإنصاف ينبغي القول إن جون كالفيرت ذكر كتاب حمودة في قائمة المصادر، واستشهد به، في ثنايا الكتاب. ومع ذلك، كان المفاجئ في الأمر أن كالفيرت “استعار” من كتاب حمودة هيكليته، وأفكاره الأساسية، وحتى خلاصاته، وقد حدث هذا، كله، في سياق شروط بحثية، وكتابية، تفرضها عملية النشر في الغرب، التي غالباً ما تعيد المخطوطة إلى المؤلف للاستفاضة في هذا الجانب، أو التذكير بجانب آخر. إضافة، بطبيعة الحال، إلى الصرامة التحريرية، وتقنيات وألاعيب الكتابة “الأكاديمية”، التي يحتاجها كل من يريد اللعب في هذا الميدان.
يذكر كالفيرت في المقدمة أنه درس العربية في مصر في أواخر الثمانينيات، وهي الفترة التي صدر فيها كتاب حمودة، ويبدو أنه “اشتغل” على موضوع سيد قطب، فقد ترجم إلى الإنكليزية سيرته الذاتية “طفل القرية”، وفي سنوات لاحقة “اشتغل” على “في ظلال القرآن” لترجمته إلى الإنكليزية. بمعنى أن قطب أصبح موضوع “تخصصه” الأكاديمي على مدار سنوات طويلة.
ومع ذلك، ليس في “التخصص” ما يبرر، أو يفسر، الحاجة لنسخ هيكلية، وأفكار، وخلاصات، كاتب آخر. فهذا ما يفعله الهواة، وما يتجنبه المحترفون، الذين يجدون أنفسهم مضطرين لبلورة حقائق، وتأويلات، تضيف جديداً إلى موضوع التخصص. على أية حال، يقتفي كالفيرت مسيرة قطب من “القرية إلى المشنقة”، كما رسمها حمودة، بما في ذلك محطاتها ومفاصلها الرئيسة، ولكنه يفترق عنه، أحياناً، في التأويل.
ففي حين يرى حمودة أن شخصية قطب اتسمت بعدم الركون إلى قناعة بعينها، والانتقال من النقيض إلى النقيض، ويخلص إلى فرضية أن قطب كان سيغيّر الأفكار التي اعتنقها في مطلع الخمسينيات، لو لم تنته حياته على حبل المشنقة، يرى كالفيرت أن سيرة قطب “من القرية إلى المشنقة” تتسم بنـزعة صوفية صافية، وإرادة الحنين إلى طمأنينة وبساطة عالم القرية.
كان الانتقال من “القومية المصرية”، التي زرعت بذورها ثورة 1919 المصرية، والحماسة المفرطة لثورة عبد الناصر من ناحية، إلى كراهية عبد الناصر، ورفض الدولة، والقومية، وحاكمية البشر، من ناحية ثانية، جزءاً من تلك التقلبات، وقد عززتها تجربة السجن في العهد الناصري. هذا ما يفسّره حمودة، وربما يكون مُقنعاً، أما غير المُقنع في تفسير كالفيرت لتلك التحوّلات فيتجلى في تعليقها على مشجب الصوفية، التي لا يجتهد حتى في تفسيرها.
بالمناسبة، عندما لجأ الإخوان إلى السعودية هرباً من حكم عبد الناصر (وهذا ما لا يذكره حمودة وكالفيرت) اضطر محمد قطب، شقيق سيد قطب، إلى حذف كل ما يثير حساسية الوهابية النجدية، بما فيها ما يتصل بالعدالة الاجتماعية، والصوفية، في الطبعات السعودية لكتب شقيقه.
وعلى طريقة حمودة، زعم كالفيرت الحيادية، والتجرّد من التحيّزات الأيديولوجية، ومع ذلك افترق عنه في حالتين: في زيارة قطب الشهيرة إلى الولايات المتحدة، وجد نفسه مضطراً للقول إن قطب لم ير ما يكفي من الولايات المتحدة للحكم عليها بطريقة موضوعية. وفي الحالة الثانية، بينما يؤكد حمودة، استناداً إلى تحقيقات النيابة أن قطب كان ضالعاً في مؤامرة لإسقاط نظام الحكم، يوحي كالفيرت بغموض يكتنف مسألة الانقلاب، إلى حد يبرر الكلام، فقط، توّرطه بطريقة غير مباشرة، على رأس جماعة انقلابية وضعته الصدفة على رأسها لتقديم النصح والمشورة.
المهم أن حمودة، وكالفيرت، يأخذان مسألة الانقسام بين روحانية الشرق، ومادية الغرب، على محمل الجد، وهي فكرة شائعة، وبلا سند في الواقع، فلا الغرب أقل روحانية من الشرق، ولا الشرق أقل مادية من الغرب. وقد آن، في الواقع، إسقاط هذا الوهم باعتباره أداة تحليلية تستحق الاحترام. ومع ذلك، قبل هذا، وبعده، الخلاصة أننا أمام حالة “سطو” اقترفها أميركي بحق مصري، مع سبق الإصرار والترصّد.
khaderhas1@hotmail.com